قضية فلسطين

لم ينتصر أحد

محمد سليمان
«لا تبدأ بإحصاء الخسائر إن أردت النصر» هكذا أقول في إحدى قصائدي… فلكل نصر ثمنه ولكل حرب ضحاياها والحرب تنتهي عادة لأن أحد أطرافها لم يعد قادراً على احتمال المزيد من الخسائر أو لأن تحولاً هائلاً أخل بميزان القوى قد حدث ويصعب تجاهله.
ولعلنا لم ننسَ الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945 بعد قيام الأميركيين بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بقنبلتين نوويتين وما ترتب على هذا القصف من دمار هائل وخراب لا حد له بالإضافة إلى مئات الآلاف من القتلى والمشوهين المدنيين، الأمر الذي أجبر اليابان على الاستسلام والرضوخ لأوامر المحتل وشروطه.
المدنيون كانوا إذن، ومازالوا، هدفاً سهلاً رغم تجريم القانون الدولي استهدافهم والاعتداء عليهم، لكن المحاربين في سعيهم إلى الفوز وإرهاب خصومهم والضغط عليهم وإجبارهم على الاستسلام، لا يحجمون عن إشعال المحارق وارتكاب المجازر وتوسيع دوائر الدمار والهلاك، وقد ظل استهداف المدنيين هدفاً لإسرائيل منذ قيامها وقبله، أعانها على إرهاب الفلسطينيين وطردهم من مزارعهم ومدنهم وقراهم وتحويلهم إلى لاجئين.
كما ظل هذا الاستهداف وسيلة ضغط تلجأ إليها إسرائيل لإحراج النظم العربية وفضح هشاشتها وعجزها عن حماية مواطنيها، وأذكِّر هنا بمرحلة ما بعد يونيو 1967 وبداية حرب الاستنزاف وقرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بإخلاء مدن القناة الثلاث (السويس- الإسماعيلية- بورسعيد) وتهجير سكانها إلى داخل مصر حتى لا تتخذهم إسرائيل هدفاً دائماً وسهلاً لطائراتها ومدافعها ودباباتها المتمركزة على الشاطئ الشرقي لقناة السويس.
وفي الحرب المعلنة على غزة لجأت إسرائيل إلى استهداف المدنيين كوسيلة للضغط على المقاومة التي لا تملك طائرات أو دبابات أو أسلحة حديثة تعينها على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية وحماية مواطنيها، وقد نشرت بعض صحفنا نقلاً عن القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي، أن الطائرات الإسرائيلية شنَّت في أسابيع الحرب الثلاثة 2500 غارة على غزة، وألقت 1000 طن من المتفجرات بالإضافة إلى أطنان أخرى كثيرة أطلقتها الدبابات والمدافع والمدمرات وسفن الصواريخ، وهذه المتفجرات كلها استهدفت مدنيين محاصرين وعاجزين عن الفرار من الجحيم واللجوء إلى ملاذ آمن هنا أو هناك، لذلك اتسعت دوائر التدمير والهلاك ودُفنت بعض الأسر تحت أنقاض منازلها.
لم ينتصر أحد في هذه الحرب… بوسعنا أن نقول الآن بعد وقف إطلاق النار، لم تنتصر إسرائيل لأنها لم تحقق هدفاً واحداً من أهدافها المُعلنة أو المُضمرة، إنما نجحت فقط بآلتها الحربية وأسلحتها وقنابلها الفسفورية في قتل وجرح الآلاف وتدمير المدارس والمنازل والمنشآت وتجريف الحقول والمزارع وارتكاب جرائم الحرب.
ولم تنتصر «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى… فالصمود لا يُعد انتصاراً ولا يخص المقاومين وحدهم بقدر ما يخص المواطن الفلسطيني البسيط الذي استشهد أو جُرح أو فقد أسرته أو أحد أفرادها… إنه البطل الحقيقي الذي صمد واستبسل وتحمل وعانى وانتظر انتهاء الحرب لكي يضمد جراحه، ويبحث عن أحبائه المفقودين والمدفونين تحت الركام والأنقاض «بعد وقف إطلاق النار بساعات تم إخراج 100 جثة من تحت أنقاض حي الزيتون ومازال البحث جارياً حتى كتابة هذه السطور».
ولم ينتصر العرب المعتدلون أو الممانعون، ولعلهم اكتشفوا أن انقسامهم كان السبب الحقيقي لهذه الحرب العبثية التي فضحت تخلفنا وهشاشة واقعنا وحجم الأكاذيب التي نروَّج لها، والتي يصدقها البعض، والتي عمقت الانقسام الفلسطيني، وسهلت في النهاية للإسرائيليين شن حربهم وتجريب أسلحتهم الحديثة على مدنيين لا حول لهم أو ملاذ يحتمون به.
هل بوسع أحد أن يزعم أنه انتصر؟ الإسرائيليون لن يجرؤوا على ذلك بعد المجازر التي ارتكبوها وبعد فشلهم في التخلص من صواريخ الفصائل وخطبها، والمقاومون في غزة سينشغلون بمواجهة الخراب والبنية الأساسية المُدمرة وبمواساة المنكوبين وانتشال الناس من آبار الحزن والأسى، فقط بعض الزعماء الذين يعيشون بعيداً في العواصم العربية قد يخدعون أنفسهم ويركبون أحصنة الخيال والبلاغة ليتحدثوا عن نصر لا وجود له.
* كاتب وشاعر مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى