قضية فلسطين

المنتصرون !! ..

جلال/ عقاب يحيى
يكثر اللغط هذه الأيام، وحرب الإبادة قد توقّفت ولو إلى حين، حول المنتصر، والمنهزم، ويجري التسابق في تعريف المعاني، وعلم حروب، ونتائجها، وتتردد كثيراً تلك المقولة المعروفة عن (( أن الحرب هي ممارسة السياسة بطرق عنيفة))، أو كما يتردد دوماً : أن الأمور بنتائجها، أو عواقبها .. فأين الحقيقة ؟؟ . ومن الذي انتصر؟؟.. وأي انتصار هذا ؟؟!! ..
في الحروب التقليدية : جيش لجيش كان لمعنى الانتصار والهزيمة ترجماته الواضحة : جيش يهزم جيشاً، فتضطر السلطة السياسية للاعتراف عبر ما يلي ذلك من اتفاقات سياسية، أو القبول المرغم على ما تترجمه( الأمم المتحدة) من قرارات لصالح الطرف الأقوى، على العموم ..
مع ذلك، وبالرغم من عديد الهزائم العسكرية الواضحة، فإن بعض الهزائم العسكرية اعتبرت، أو تحولت إلى انتصارات، وسنسوق أمثلة ثلاث من واقع صراعنا مع الكيان الصهيوني :
1 ـ في العدوان الثلاثي الذي شنته دول ثلاث على مصر/1956/، ورغم النصر العسكري الذي حققه المعتدون، خاصة لجهة الكيان الصهيوني الذي احتلّ سيناء، اعتبرت النتائج نصراً كبيراً للثورة المصرية وقائدها : الزعيم عبد الناصر، عبر النتائج السياسية التي أجبرت المعتدين على سحب قواتهم، وصمود النظام المصري، ورفضه التنازل عن قرار تأميم قناة السويس، وتتويجه، بعدها، كأهم نظم التحرر الوطني في العالم، رغم أن “إسرائيل” حصلت على مكاسب هامة في حق المرور بقناة السويس، وممر إيلات، والمضائق، ووجود القوات الدولية على الأرض المصرية .
2 ـ في هزيمة حزيران / 1967/، وهي الهزيمة العسكرية الأشمل، والهزيمة العامة الأكبر التي رتّبت احتلال كامل فلسطين، والجولان، وسيناء، وأراض في الأردن، إلى جانب نتائجها السياسية التي ما تزال تتفاعل حتى اليوم ..
اعتبرها النظامان : المصري والسوري، على الخصوص، انتصاراً في جانب منها، لأن ( أحد أهم أهداف العدوان : إسقاط النظامين الوطنيين التقدميين، لم تتحقق، وبحدود ما : رفض الإذعان لنتائجها السياسية، والقرار/242/ خاصة من قبل النظام السوري، والمقاومة الفلسطينية، يومذاك)، مما كان يثير سخرية قطاعات شعبية وسياسية مختلفة، لما أحدثته من خلط في النتائج : بين الأرض وموقعها، والنظام وما يمثل، وكأنه تغليب للذاتي على الأهم ..
3 ـ حرب أكتوبر/ تشرين /1973/ . ورغم أن هذه الحرب مختلفة جداً عن سابقتيها في أن القرار والبدء بها كان عربياً، ورغم العبور العظيم للجيش المصري( تحطيم خط بارليف، والوصول إلى الضفة الشرقية للقناة)، واحتلال الجيش السوري لبعض المواقع والأراضي المحتلة في الأيام الأولى، وإثبات قدرة الجندي العربي على التعامل مع أحدث أنواع الأسلحة، وبطولاته، وتضحياته..إلا أن النتائج جاءت مخالفة لكل التهليل التوصيفي .
إذ انتهت، على الجبهة المصرية، بحصار الجيش الثالث،وتهديد القاهرة، عبر “ثغرة الدفرسوار”، التي أثير الكثير من اللغط حولها .
وانتهت على الجبهة السورية باحتلال أراض جديدة، والعديد من القرى، وتهديد دمشق لولا النجدة السريعة للجيش العراقي، وأسراب طيرانه، الذي دخل المعركة مجرد وصوله، وأوقف الزحف الإسرائيلي عند حدود سعسع، وبما لا يزيد عن30 ـ 40 كم عن دمشق .
أما نتائجها السياسية فكانت أمرّ وأقسى، حيث استخدمت لتحريك حالة( اللا سلم واللا حرب)، وللعبور إلى كمب ديفيد، واتفاقات الفصل على الجبهة السورية .
وفي حين خرجت مصر من حلبة الصراع، وتحولت إلى حليف، ووسيط، وحيادي عبر نظامها السياسي، فإن جبهة الجولان المحتل أكثر الجبهات هدوءاً منذ ذلك التاريخ .
النظامان يحتفلان كل عام ( بنصر أكتوبر/ تشرين)، وعديد العسكريين يعتبرون ما جرى ( نصف انتصار، نصف هزيمة)، بينما كثير من المؤرخين والسياسيين يقيّمونها على أنها هزيمة كبيرة لمحتوى الصراع، وللعمل العربي المشترك، بالنظر لما رتّبته من نتائج سياسية خطيرة يحصد نتائجه الوضع العربي على العموم، والثورة، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص .
****
تلك حروب تقليدية، فماذا عن غيرها، خصوصاً حرب تموز، أو العدوان الإسرائيلي على لبنان/2006/، والعدوان الوحشي على غزة : / كانون الأول والثاني 2008/2009/ ؟؟..
بمعنى واضح : أين يمكن تصنيفهما في ترتيب الانتصارات والهزائم ؟؟ ..
أهم سمة لهاتين الحربين أنها لم تكن تقليدية : جيش لجيش، وأنّ أهدافها غامضة، ومبعثرة، ومتداخلة .
ـ “إسرائيل” في عدوانها المبيّت على لبنان رفعت شعاراً رئيساً : القضاء على حزب الله . وتفرّع الشعار إلى : ـ القضاء على القدرة الصاروخية ـ تدمير مخزون السلاح                           ـ القضاء على قيادة حزب الله العسكرية والسياسية ـ منع الصواريخ من الانطلاق . ( شعار لاحق تحقق، بطريقة ما في  وجود القوات الدولية، ومجمل بنود القرار /1701/  ..
ـ في جريمة العدوان على غزّة نقرأ في المعلن أهدافاً شبيهة، مع إضافات اقتضتها نتائج العدوان على لبنان، وما كشفته من خلل مريع في المعلومات الاستخبارية، والخطط العسكرية، والأداء القتالي، والكثير من الفجوات التي أشار إلى بعضها تقرير”فينو غراف”، بأن أصحاب القرار( العسكري والسياسي) استوعبوا دروس العدوان السابق، وسيعملون على إثبات ذلك في هجمتهم التدميرية على غزة ..
ـ تبلبلت الأهداف المعلنة، وتناقلت بين أزمة الوضع الداخلي الذي يستجدي رافعة لتحالف الأحزاب الحاكمة في الانتخابات القادمة، وبين شعارات أكثر التباساً، ونتائج تطرح من جديد أسئلة كبيرة، مشروعة عن جوهر الأهداف من جهة، وما تحقق منها مباشرة، من جهة ثانية، ومدى تطور أداء الجيش الإسرائيلي، من جهة ثالثة ..
****
في الحالتين، ولا أدري مبلغ جهل الإسرائيليين بحقائق بديهية يفترض أنهم يعرفونها، بما ينسجم والحد الأدنى من تطورهم التقني، والأمني، والمؤسساتي، ومع ما ينشرونه، وننشره نحن العرب عنهم، عن تفوقهم في كل شيء، وتقدمهم .. وأهمها :
1 ـ استحالة اجتثاث، أو القضاء على حركة شعبية، سياسية، مقاومة متجذّرة في الشعب، وفي وجدانه .حركة تعبّر، وبغض النظر عن مضامينها، أو أخطائها، عن خط الحياة، والكفاح، والردّ، والبديل في الأمة. على العكس فإنه وبقدر ما تواجه تلك الحركات اعتداءات وحروب واغتيالات من العدو الرئيس .العدو الذي تجمع عليه الأمة بكافة تلاوينها وأطيافها، بقدر ما ستجد تعاطفاً شعبياً أوسع معها، بما يقوّيها ولا يضعفها .
2 ـ يجهل العدو، أو يتجاهل أنه كلما أوغل في الدماء العربية قتلاً، ومجازر، وإبادة، ومحارق، وأعمال تدمير، واغتيالاً، وقتلاً جماعياً..كلما ازداد الحقد عليه، عكس ما يعتقد : انفضاض الشعب عن قوى المقاومة ..
إنّ العدو العنصري الذي يدرس منذ وقت طويل بنية العقل العربي، وتشكيل الوعي، والمواقف فيه، يعلم جيداً أن نظرته إلى الخسائر البشرية، والمادية مختلفة تماماً عنه، وأن شعوبنا المؤمنة بأغلبيتها الساحقة، وفي أعماقها بتحرير فلسطين العربية، مستعدة للتضحية بفلذة الأكباد في سبيلها، خصوصاً وأن مسار التسوية الطويل، بكل”فرصه”، وتساهل، وتنازل النظام العربي لم يثمر شيئاً، وهو يعلن على الملأ دجله، لاصطدامه بحقيقة موضوعية، تأسيسية : طبيعة الكيان الصهيوني وجوهره .
هذه الحقيقة المفتوحة للنقاش، تجعل من السهولة إطلاق وصف النصر ، حتى وإن كان نصراً ملتبساً، طالما أنه فشل في تحقيق الرئيسي المعلن، حين تصبح كل الخسائر. كل التضحيات . كل المعطوبين والجرحى والمعذبين ثمناً عادياً، أو فداء للصمود، وردّ كيد العدو المعتدي .
ـ العدو يعرف جيّداً ومسبقاً أن المؤمن بقضيته مستعد للتضحية في سبيلها بأغلى ما يملك . فكيف وهو في مواجهة حالة إسلامية إيمانية شعارها العام:” اطلبوا الجنة توهب لكم الحياة “، ومعتقدها : أن الجهاد فرض عين ؟؟!! ..وأن الشهادة طريق الجنة ؟؟!! ..
ناهيك عن أن عموم الشعب الفلسطيني، وسكان غزّة والضفة الغربية مشاريع استشهاد لهذا السبب، ولممارسات الكيان الدموية، التدميرية، العنصرية، التجويعية ؟؟!!..
إن حجم الشهداء، وفعل “إسرائيل” الإجرامي بحق الشعب : كل شرائح الشعب الذي لا يخلو بيت فلسطيني من وجود شهيد أو جريح، أو أسير، وبالجملة في حالات كثيرة، ومستوى الاحتقان، وطبيعة الحياة في ظلّ القتل اليومي، والتجويع، والفقر، والإذلال..كل يذلك يجعل الثأر العام والفردي أمنية تنتظر التجسيد ..
4 ـ كما يعرف العدو أن غزة هي الأكثر اكتظاظاً في العالم، وأن دخولها، إن استطاع إليها سبيلاً، يعني مجزرة جماعية قد تكون الأكبر والأقسى في التاريخ، والتي سترتدّ عليه مهما كان تغلغله في النخاع الشوكي العالمي، وأيّاً كان حجم الدعم الذي يلقاه من أمريكا وأوربا . مثلما أن خسائره، ومهما أخفاها، ستكون أكبر من قدرته على تحملها ..
****
هذه العوامل المسبقة، والمعروفة تطرح أسئلة قوية عن هدف العدوانية الصهيونية، وحقدها التاريخي المتراكم على العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، وغزة بشكل أخص، خاصة وأن النتائج التي أعلنوها هم عند إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، لا علاقة لها بالمعلن قبل شنّ العدوان، وهي شبيهة بتلك التي حققوها في لبنان، مع فارق ليس لصالحهم حتى الآن، وهو : أن قرارهم لم يرتبط بمشروع سياسي، أو بقرار مجلس الأمن، أو ببنود”المبادرة المصرية” ..
سخرية كبيرة تلك الأهداف التي أعلنوا أنهم حققوها : قدرة، أو قوة الردع !! ..وتدمير الأنفاق، وادعاء ضرب البنية التحتية لحماس ..
ـ فمتى لم تكن دولة الكيان تملك ( قوة الردع والتدمير) ؟!، وهل كانت تحارب جيوشاً لديها الحد المقبول من الأسلحة والمعدّات ؟؟ ..كي تظهر تلك (الشطارة) في التدمير والإبادة ؟؟..
ـ هل تدمير البنية التحتية، وارتكاب المجازر بحق المدنيين، والأطفال، والنساء، واستخدام السلاح الإجرامي المحرّم دولياً، وقطع الأوصال، وحرق الأجساد واختراقها، وتشويهها هو هذه القوة الردعية ؟؟..وبماذا تختلف عمّا ارتكب في لبنان ؟؟..إنها نفس الآلة، نفس العقلية، نفس الأسلحة، ونفس النتائج تقريباً ..
****
أكثر من ذلك ، وبغض النظر عن حجم الخسائر الفعلي التي تكبدها العدو،( الأكيد أنّ خسائره تفوق المعلن بكثير)، وعن العوامل :الداخلية والخارجية التي أوجبت اتخاذ قراره وقف إطلاق النار من جانب واحد ..فإن عدوانه ارتدّ عليه، بينما بهتت أهدافه المعلنة . لهذا يمكن القول، وبقراءة أولية، موجزة، أنّ “إسرائيل” لم تحقق المعلن من أهدافها حتى الآن، ولذلك تحاول عبر المشاريع والمبادرات السياسية المطروحة الوصول إلى ما عجزت عنه، خاصة “منع تهريب الأسلحة” بوضع مراقبين دوليين، وربما مصريين على الحدود مع غزة، و” التهدئة المانعة لإطلاق الصواريخ”، واستمرارها في الحصار، ومحاولة زجّ السلطة الفلسطينية في معبر رفح.. بينما خسرت الكثير على الصعيد العالمي، وهي مرشّحة لأن تخسر أكثر، ولتعريض عديد قادتها العسكريين والسياسيين للمحاكم بتهم جرائم الإبادة ضد البشرية، وجرائم قتل المدنيين، واستخدام الأسلحة المحرّمة..خصوصاً في حال توفّر إرادة عربية صلبة تضع ثقلها مع منظمات حقوق الإنسان، وهيئات الأمم المتحدة، ومع عديد المنظمات الحقوقية العالمية ..
دون أن نغفل هدفاً إسرائيلياً مركزياً طالما سعت إليه : فصم القطاع عن الضفة، وتعميق الشرخ داخل الصف الفلسطيني، وخصوصاً بين فتح وحماس، وبين السلطة، وتلك الأمر الواقع في غزة..
على صعيد المقاومة، وحماس بالتحديد، فإن النتائج المباشرة، تؤكد أن بنيّة حماس الرئيسة : التنظيمية، المقاومة، السياسية لم تتأثر كثيراً، والدلائل واضحة .
على العكس، فحماس هي اليوم أكثر قوة في داخلها، وفي التمسك بخياراتها، وأكثر قوة في تعاطف الشعب الفلسطيني، والعربي، والإسلامي، وقطاعات عالمية أخرى معها، وسيكون لذلك مردوده وأثره في التفاعلات الفلسطينية، والخلافات مع فتح، والسلطة الفلسطينية، ودعوات وشروط الحوار، وإمكانية الاتفاق على حكومة ” وفاق وطني”، أو “حكومة وحدة وطنية”. دون إغفال مساحة الدعم الشعبية لحماس خصوصاً، والمقاومة عموماً في الأوساط العربية، والإسلامية، وحتى العالمية.. بما ينصب أفق شروط معادلة جديدة نأمل ألا تنعكس سلباً على الداخل الفلسطيني بتعميق الشروخ والانقسام، والتمترّس خلف ما تعتبره حماس نصراً مؤزراً ..
للنصر مقوماته، ونتائجه، وإذا كنا جميعاً نستسهل إطلاق الكلمات والمصطلحات، فإن الأمانة، والتواضع، والعقلانية تقتضي وضع الأمور بحجمها الطبيعي، فلا نعيش بالأوهام وعليها ، ثم ننطلق بوحي انتفاخها فينا .
نعم صمدت المقاومة الفلسطينية، وغزة الشعب، وفشل العدوان في تحقيق بعض أهدافه، وأكدت الدماء النازفة استعداد شعبنا للمزيد من التضحيات على طريق الحرية والتحرير.. لكن شعبنا يدفع ضريبة غالية في ظل اختلال مرعب لميزان القوى، وهو يستنزف كثيراً في شبابه وأطفاله، وبيوته، وأرضه، وحياته، وبنيته التحتية، وتطوره، وحقه الطبيعي في الحياة كبقية الشعوب ..والصمود ليس النصر، وإن كان مهماً، وعزيزاً، ويجب تعزيزه .
إن تعزيز الصمود، وترسيخه، ونشره، وحميته، وتقدير حجم التضحيات الجسام لغزة ، وفلسطين، يقتضي قطع الطريق تماماً على تحقيق أهداف العدو الخبيثة، من خلال تجاوز الانقسام الخطير، الفتّاك، وإنجاز الوحدة الوطنية بين جميع الفصائل وفعاليات الشعب الفلسطينية، وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، والاتفاق على خيارات المرحلة القادمة ببرنامج وطني متفق عليه، يكرّس المقاومة حقاً مشروعاً ضد الاحتلال،ويحشد الشعب لإنجاز المهام المرحلية، ويلزم الوضع العربي الرسمي على احترام الإرادة الفلسطينية، وعدم ارتهانها للمحاور، وسياسات النظم العربية والإقليمية وغيرها .
النصر، هو اليوم في انتصار الفصائل على ذاتها لإنهاض اتفاقها عبر الحوار الصريح، المسؤول، وصولاً إلى وحدة القطاع والضفة : الأساس، والضمان، والسياج . ذلكم هو النصر الحقيقي الذي من شأنه أن يكون رافعة الوضع العربي، وقاطرته إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والتحرير، والاستقلال، وعلى طريق دحر المشروع الصهيوني ..
الجزائر 21/1/2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى