قضية فلسطين

وقف النار في القطاع ليس إلا نهاية مرحلة أولى

نهلة الشهال
لأن المفاهيم باتت مضطربة من فرط سوء استخدامها، بلا تحديد ولا تدقيق، ووفق وظيفة تنتمي إلى التفخيم اللفظي أكثر مما تهجس بالمضمون، تهرباً ربما من الفراغ السياسي الذي يقف أمامه جميع الفاعلين إلى أي تيار انتموا، فتصبح في أفضل الأحوال أدوات لمحاجّة صماء…، لذلك لعل استخدام تعبير «تاريخي» في وصف المنعطف الذي نقف أمامه يصبح محرجاً. ولكن النظر إلى المشهد برمته يفرض مثل هذا التوصيف. وهو لا يفرضه في معرض التعبئة النضالية حول المنجز، أي الصمود في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية بكل جبروتها وقدرتها على التدمير، لأنه، في المقابل، تنتصب أولاً قامات آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين الذين سقطوا خلال العدوان على غزة، ممن لا يمكن للتعويضات المالية مهما كانت سخية أن تعادل مأساتهم، وهم ليسوا تفصيلاً في المشهد ولا في الحسابات السياسية. وفي المقابل ينتصب أيضا المأزق المحكم الحبك الذي تواجهه كل الأطراف، والذي يفرض الخروج منه أو تذليل بعض عناصره وإعادة نظر في الوضع القائم، في خيارات السلطات كما القوى، وفي علاقاتها واستراتيجياتها.
فبعـــد ثلاثة أسابيـــع من انفلات الوحشيــة الإسرائيلية المطلق دون القدرة على تحقيق مبتغاها الأول، أي فرض الاستســــلام بمواجهة العنف الاستثنائي، تبدو المعادلة المطــــــروحة شديدة الوضوح: لقد تمّ مرة أخرى (بعد لبنان 2006)، وبفعل الإرادة، تعطيل النتائج المفترضة لتوازن القوى القائم!
– تحقق أولاً إحباط وظيفة الإرهاب بواسطة الفوسفور الأبيــض والـ«دايم» وقصف المـــــلاذات المفترضة آمنةً. وهو إحباط عنصــــراه من جهة استعـــداد عموم الناس لتقبل دفع الثمن الباهظ من جلودهم، (ولا يناقضه تعبيرهم عن آلامهم الهائلــــة أماـم أعين العالم)، ومن جهة أخرى عناد القيادة السياسية لحماس والفصائل التي تآلفت معها، أي قدرتها على تنظيم المقاومة الميدانية، وتمكنها من الامتناع عن الانهيار المعنوي والسياســـي الذي قـــد يدفع إليه العنف المطلق الممارس والمعرفة بشبه الإجماع الدولي المساند له، وإن بدرجات وتناقضات، والذي يؤشر إلى انغلاق في الأفق السياسي.
– وتحقق ثانياً، وبالاستناد إلى ذلك كله، استحضار معطيات سياسيــة تُعقّد إلى ابعـــد الـــحدود الممكنة المشهد كما هو مأمـــول ومخطط له: فعوضاً عن بديهية النتيجة المفترضة للهجـــوم على مكان متـــناهي الصغر، معزول تماماً ومستنزف بعنف كما حال غزة، أي التمكن من الحسم ليصبح المطروح هو تنسيق الختام، من إخراج قيادة حماس أو من لم يُبَد منها، والاقتصار على مهمة مداواة جراح الناس بفعل التضامن الإنساني، بينما يُركِز الخطاب المهيمن والمنتصر على الكلفة غير المحتملـــة والمغامِـــرة لخيار مقاومة الاستسلام، عوضاً عن ذلك، فإن المطروح اليوم هو استمرار الصراع مع إسرائيل مفتوحاً، عبر الإعلان المدوي (رغم الخطب الرسمية التي لا يخفي تهذيبها النفــــاق أو الخوف) عن الحـــاجة الملــــحة لقبر العملية السلمية كما كانـــت قائمة، بعدمـــا تعفنت جثتها المعروضة بسخاء لا يعادلــــه إلا فراغها من المعنى. ولكن، وبمصاحبة ذلك، فإن المطروح هو أيضاً ســــؤال المعادلات القائمة والمفترضة أبدية، ومنها وجود نظام عربي، أي القدرة على تحقيق حد أدنى من التوافق بين السلطات المشكِّلة له، ومسألة هوية من يتولى زعامة نظام كهذا بعدما برز التعدد الممكن في الاستقطاب الذي ينظمه، بمقدار ما برزت إمكانية حصول القطيعة بين مكوناته، وموضوع تعمق الاختلال في الشرعية الشعبية للأنظمة «المعتدلة» القائمة، الذي تجاوز الإفصاح عنه الحد السابق، والذي تكشفه حاجتها إلى مضاعفة التباهي والسعي إلى تحفيز غرائز الانتماء البدائية (وهو الاختلال الذي يثير بجدية، وللمرة الأولى منذ عقود، قضية استقرارها، إن لم يكن ديمومتها في صيغها الراهنة)، وموضوع التناقض في خطاب الأنظمة «الممانعة» ما بين نأيها بنفسها عن متطلبات المجابهة (أو عجزها عنها، فيما يدفع المجابهون كلفة باهظة)، وامتناعها العملي عن نصرة المجابهين إلا بحدود تبدو أحياناً في غاية الضيق، بالمقارنة على الأقل مع حجم التهديد الوجودي الذي يتعرضون له… وهو ما يثير على الفور مدى احتمال توسع المجابهة مع إسرائيل إلى حدود إقليمية كخطر مصاحب لاستمرار الصراع المفتوح معها.
ليس كل ما شهدناه من وقف «منفرد» من قبل إسرائيل وحمـــاس للنار، وانسحاب إسرائيل التام و«المنفرد» وليس بمقتضى اتفاق، من غزة (رغم إعلانها عن إبقاء قواتها على مقـــربة وتأهب، كما لو أن في الأمر جديداً)، وعجز قمة الكويت عن التوافق على آليات إعادة اعمار غزة (بكل ما تحمله إعادة الاعمار من تسليم أو اعتراف بشرعية القوى التي تتولاه)، وشرط إسرائيل لتسهيل مرور المساعدات ألا تتولى حماس هذا الملف بل ألا تشارك فيه (؟!)، والإجماع الدولي – في قمة شرم الشيخ – على صيغة لشروط إعادة فتح معبر رفح ستثير مشاكل أكثر مما تحل، وهي تبدو مقدماً غير ممكنة التطبيق دون التقدم في الملف السياسي المعلّق… ليس كل ذلك إلا تعبيرات متعددة عن شيء واحد: إنه الاستعصاء التام الذي يقف أمامه المشهد السياسي، والذي يمثله الاحتفاظ بديمومة الصراع، حيث لم ينتج العدوان (والضوء الأخضر المتعدد الذي صاحبه)، الحسم وفق تصورات إسرائيل ومن وقف معها. وهكذا، وبموازاة هذا المعطى والاحتمالات المتعددة التي يكتنزها، فإن التحدي لا يخص فحسب الصراع حول الترتيبات الواقعية، وإنما أيضاً يثير نقطة أخرى لا تقل أهمية، هي الصراع على الاستراتيجيا، وما يصاحبها من حاجة لإعادة النظر في المفاهيم: فإن كانت العملية السلمية كما نشأت قد قبرت، فذلك لا يعني أن التفاوض مع العدو غير مطروح، ولكن بمن وبأيـــة شروط ووفق أي أفق، سيما وأن إسرائيل وكما هو واضح، تأمل بالحصول بوسائل سلمية على ما عجزت عنه حربياً. وإذا كانت الحالة الراهنة من صون الصراع حياً تطرح احتمالات ثورية، فما هو تشابك الأولويات المطروحة، وما هي طبيعة التحالفات الممكنة وشروطها؟
في هذا المعنى، تمثل غزة اليوم ليس تحدياً فحسب للمنظومة القائمة، وإنما لحظة جلية في منعطف تاريخي.
الحياة     – 25/01/09

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى