موت الذين يموتون
بشير مفتي
يموت العربي عادة من دون أن يعرف لماذا يموت، فالموت يحدث في شكل طبيعي أو غير طبيعي، يحدث في حياته كما لو أنه شيء لا مفر منه، لكنه لا يعرف إلى حد بعيد لماذا يموت ميتته تلك من دون أن يحرك موته أي شيء، أو لا يكون لهذا الموت في سياق العالم العربي أي معنى أو هدف. وحده الفلسطيني يعرف لماذا يموت، أو لماذا موته يبدو في غاية الأهمية. موته ليس غاية، لكنه طريق للغاية، موته ليس فيه عبثية على الإطلاق، انه طريقه نحو شيء اسمه النصر.
* *
لم نتذوق النصر بعد..
ولم يهزم الفلسطينيون بعد كذلك ، في كل عقد، على رغم مرور عقود كثيرة على حلم النصر، لم يفقد الفلسطيني روحه وشجاعته. لا أظن الفلسطيني بطلاً ميثولوجياً خارقاً، كما قد يتصوره بعضنا، نحن الذين نؤمن كثيراً بالخوارق والبطولات والمعجزات، لكنه إنسان من لحم ودم، من روح وجسد، له أحلامه وأوهامه، وعذاباته وأفراحه. صلب ولين، هش ونابض، إنه مثلنا، يجب ألا نرمي عليه – كما يحلو لنا دائماً – صورة ليست مطابقة له، فهو يقاوم لأنه يؤمن بأنه لا بد من أن يقاوم، ولأنه لم يعد متوهماً في أي تغيير ممكن في العالم العربي، الذي ليس فقط فشل في نصرته، ولكن يحول فشله إلى تآمر عليه.
كثيراً ما تآمر العرب على الفلسطيني؟ لنتذكر مسرحية «فلسطين المخدوعة» لكاتب ياسين. لنتذكر «صبرا وشاتيلا» ولنتذكر «أيلول الأسود»… فمعركة الفلسطيني لم تكن دائماً مع الآخر / العدو الواضح، بل مع الآخر العربي أيضاً، والآن مع جزء آخر منه، حولته التجربة إلى مسالم وعميل.
* *
لم تعجبني كل تلك التظاهرات الحاشدة التي تنظم بتلقائية من أجل نصره غزة، ليس لأنني ضد التظاهرات في ذاتها، وهي تظل وسيلة تعبير للشعوب المقهورة على نفسها، وليس لأنني مع الأنظمة العربية المتخاذلة – مع أننا نعرف لماذا هي متخاذلة – ولكن لأنني أشعر أن الشعوب العربية تريد التنصل من مسؤولياتها، تريد أن ترمي الكرة في ضمير حكامها، علماً أن هؤلاء الحكام لم ينتجوا من الفراغ بل من الأرض نفسها التي يقف عليها شعبهم. ولهذا على الشعوب المحكومة بالعاطفة الآنية أن تراجع نفسها، خياراتها، ووضعها، وتطرح السؤال الأساسي اليوم: متى نصلح أنفسنا لنتغير؟
* *
قد نتفهم موت الذين يموتون وقد اختاروا طريقهم: الموت أو النصر، لكن كيف نتفهم موت الأطفال الذين لم يأتوا الى العالم بعد؟ كيف نختار لهم الموت البشع والقذر والمؤلم؟ كيف تستطيع أن تقنعنا إسرائيل أن لها أبسط علاقة بالمشاعر الإنسانية وهي تنتهكها في هذا الشكل؟ وكيف لنا أن نقتنع بمحرقة اليهود على أيدي النازيين في هذا الوضع بالذات؟ من جهتي ليس عندي ادنى شك، فالتاريخ يكشف لنا أن الفرنسيين الذين تعذبوا في سجون النازيين عذبوا الجزائريين من ثم بالفظاعة نفسها غير الأخلاقية من دون أن ينظروا الى ماضيهم، انها الصورة نفسها ولم يتغير الشيء الكثير.
* *
ماذا يعني أن تشاهد الحرب من خلال شاشة التلفزيون، وعبر نشرة الأخبار، متأكداً من أنها ليست خيالاً هوليوودياً مفبركاً بل حرب حقيقية وموت حقيقي وبشاعة حقيقية؟ ماذا يعني أن تكون شاهداً على سلبيتك وعاجزاً عن التغيير في أي شكل، إلا أن تتألم بصمت وتتحسر بحسرة؟ الحرب هنا قذارة ما بعدها قذارة.
* *
كانت فلسطين قضيتنا الأولى منذ الصغر، كبرنا معها ومع جراحها، وانهزمنا مع كل هزيمة لها، ومن حلم النصر إلى سياسة التطبيع والانهزام بقينا ننتظر وننتظر.
أحببنا كتابها من شعراء وروائيين وفنانيها من مسرحيين وموسيقيين وتشكيليين وسينمائيين وحتى أناسها العاديين وشجرة زيتونها وكوفيتها وأطفالها ونساءها ولهجتها وطبيعتها الجرداء، وتحولت الى رمز لوجودنا ورمز لاستمرارنا ورمز لكفاحنا ورمز لصمودنا ورمز لعروبتنا ورمز لذاكرتنا ورمز لكل الرموز التي نحتاج إليها لئلا يسدل الليل الكابوسي ستاره الأخير علينا.
ما زلنا نحلم بك يا فلسطين، من دون أن نعرف لماذا تأخر النصر مع أن الطريق واضح، والمعركة مستمرة.
* روائي جزائري.
الحياة