فلسطين وحرب الرموز
أيمن جزيني
لم يخطئ رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة بقوله إن عدم معاقبة إسرائيل عمّا جرى في حرب تموز قد ساهم في تكرار المأساة في غزّة. لكنه جانَبَ الصواب السياسي في إغفاله مسؤوليّة “حزب الله”، ومحاسبته أيضاً، عن الدمار الذي حلّ بلبنان جرّاء حربٍ قال الأمين العام للحزب الإيراني الهوى والفؤاد، إنها أفضت إلى “نصر إلهي”، هيّأ بدوره لحركة “حماس” النوازع لتمضي بالفلسطينيين إلى خراب غزّة، ووضع القضيّة الفلسطينيّة برمّتها في مهبّ ريح المناكفات والتجاذبات السياسيّة العربية والدولية.
في كلّ مرة تطلق إسرائيل جنونها على فلسطين وشعبها، ترتفع اصوات تستنكر وتشجب وتدين، وتطالب بنبرة ملؤها الجزع والمرارة واليأس بالعودة إلى ما كان الوضع عليه، وكأنّ العدوانيّة الإسرائيلية تتجلّى للمرة الأولى. وينزع خطاب التضامن العربي إلى مباراة في اللغة ومفرداتها، ويبدأ سيل البيانات بالتساقط كالمطر.
والحق ان إسرائيل في الأصل هي مشروع عبثي ومجنون، وليس إلا هذراً أن يحاول أحدٌ ما إثبات العكس. ويحقّ للفلسطينيين أن يناصبوا العداء كلّ من يفعل ذلك، فهم يقيمون البرهان على وحشية الدولة العبرية بدمائهم. فأصل الجنون يكمن في اصطناع دولة على أنقاض أخرى، وتوطين شعب على رفات آخر. لسنوات خلَت، زيِّن للعالم أن العبث هناك يمكن أن يثوب إلى سويّة سياسية فيندرج في منطق الدول وحدودها، علماً أن قوانين العالم حدّدت الحدود منذ 40 عاماً، وليس لأحد بحق خارجها: إنها الحدود التي تبدأ عندها حريّة الآخرين. وكل الحدود المرسومة في العالم تهدف ببساطة إلى احترام البشر بعضهم للبعض، من أجل أن يتشاطروا أحلامهم وتصبح نقطة صادقة للتلاقي والتفاعل الإنساني.
وإذا كانت الملاحظة على السنيورة تندرج في باب الديماغوجيا، فإن السياسة ومعادلاتها تقع في مرتبة أعمق. لأن افتتاح صراع مكشوف مع إسرائيل في ظل التزام عالمي لتفوّقها ليس في مصلحة مباشريه، ولا يتعلّق بقدرة أفراد، اياً يكونوا، على الاستمرار في إطلاق قذائف محليّة الصنع على المستوطنات لإحداث ثقوب في بعض الجدران أو إحراق مفروشات، ذلك ان الوقائع تشي بأن هذه الحرب بما فيها من مآسٍ وويلات، ليست سوى همجيّة هدفها الاستمهال زمناً إضافياً قد تنجح إسرائيل خلاله في تذرير الفلسطينيين وقضيتهم.
كل المواقف السياسية المتّخذة من فلسطين ومأساة شعبها موضوعاً للتنديد، تنزع إلى تغليب الرموز في بياناتها، في حين أن التاريخ لم يذكر مرّة أيّ انتصار للرمز على الآلة أو على السياسة. قد يكون مبرّراً أن يلجأ إلى هذا الأسلوب المراقب أو العاجز، لكن ليس مفهوماً أن تكون هذه حال رئيس الحكومة الفلسطينية المُقالَة إسماعيل هنيّة. فالرجل بدا وكأنّه قارئ للقرآن وشارح له أكثر منه مسؤولاً سياسياً. ظهر كمن يخوض حرباً لإيقاظ الضمائر. والسؤال الذي يجدر بالمرء ان يوجّهه إليه: ما هي كمية الدم التي يجب أن تسيل في شوارع غزة حتى نعرف السبب في مبادرة حركة “حماس” إلى إسقاط التهدئة من دمشق والإعلان أن الأمر لم يعد يعنيها. والسؤال الذي لا يزال عالقاً في الحناجر: ماذا بعد ما انتهينا إليه، وما الذي تحقّق بإسقاط التهدئة ثمّ المطالبة بالعودة إليها، أو إلى ما يشبهها؟ كما لو أن “حماس” كانت تنتظر تفهماً إسرائيلياً لعمليات إطلاق الصواريخ، أو لخلفيّات موقفها الصادر من دمشق.
يكتفي هنيّة بالتهديد بـ”رد مزلزل” كانت فصائل فلسطينية كثيرة وعدت به منذ زمن بعيد ولم يصل إلى مسامعنا بعد. وحده الدم الفلسطيني مسفوح في أزقّة غزّة البائسة. وحدهم الفلسطينيّون مَن يعيشون الألم ويحملون صليب وطنهم وهويّتهم، فيما الآخرون يحصون القتلى والجرحى ويتابعون عبر شاشات التلفزة قفزات الأرقام وكأنها البورصة.
إذا كان محسوماً أمر العدوانية الإسرائيلية وهمجيّتها، وان الدولة العبرية لا تخشى لومة لائم طالما ان الدم المسفوح هو دمنا وحدنا، فإلى متى تستمر الخطب المحفزة للضمائر والمجانِبة للسياسة ومعادلات الربح والخسارة؟ تمارس إسرائيل أقصى الوحشية في سياسة القتل، و”حماس” “صامدة” تردّ بالصواريخ ورئيس مكتبها السياسي خالد مشعل يطمئن الشعوب من مكان ما في العالم بأن “المقاومة صامدة وهي بخير” في غزّة المنكوبة. وتقف الديبلوماسية على حدّين متناقضين: الأول يريد إعطاء إسرائيل أطول وقت ممكن، والآخر يسعى الى وقف العدوان ويتعثّر في إيجاد الصيغة المقبولة، فيما الفلسطينيون يُذبَحون على مرأى العين، وما عادوا يجدون غذاءً غير لحمهم.
كيف أمكن العنف الإسرائيلي أن يجد سبيله الى الفلسطينيين فيستوي أياماً صورةً غالبةً إذا كان “علينا أن نثق برؤية المقاومة وبصيرتها”، على ما يقول مشعل. جميعنا يعرف ان القوة العسكريّة الإسرائيليّة مهما توحشت تبقى عاجزة عن الحسم والانتصار لأن الاحتلال ضد الطبيعة. لكن جميعنا يعرف أيضاً أن المقاومة لا يسعها إلا إطلاق بضع قذائف، وفي أحسن الأحوال الاحتفال بـ”نصر” من طبيعة إلهيّة فوق أرض محروقة وعلى إيقاع تشييع آلاف القتلى.
على ضفاف هذا المشهد وخارجه، يظهر مسرحٌ أبطاله من كل الجنسيات إلا الفلسطينيّة، وجميعهم يسعون وراء حصصهم من الملعب الإقليمي، فيما أهل غزّة وسط المحرقة. فإيران تتوسّل بالدم الفلسطيني مشجباً تعلّق عليه آمالها باستعادة أمجادها الامبراطورية مستهدفةً ما يسمّى “دول الاعتدال” العربية. ومصر تتّخذ من شوارع غزة خطاً للدفاع عن حضورها والسعودية على الخريطة الاقليمية. وينسى “الحماسويّون” (نسبة الى “حماس”) انه متى كان لا شأن لهم في حرب على أرض بلدهم، يرجح أن لا يكون لهم شأن في سلامه ولا وجوده أصلاً.
من نافل القول إن من مصلحة الفلسطينيين، مقيمين ولاجئين، العودة الى الوحدة السياسية. فالمعادلة الموضوعية التي يقوم عليها استمرار القضية الفلسطينية في متن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ليست في الاستعراضات أمام شاشات التلفزة ومن الملاجئ، بل في تمتين الحضور الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية، واستكمال ما بدأته الاتفاقات السياسية لجهة نقل الصراع من الخارج إلى الداخل. وإذا كانت طائفة من المسلمين تعتقد ان الدم انتصر على السيف، فالأمر غير ذلك نهائياً في غزة ¶
النهار