الفنانة ليلى نصير: رائدة الفنّ التشكيليّ السوريّ المعاصر
دلدار فلمز
” ليس من السهل الكتابة عن فنّ ليلى نصير. ليس فقط بسبب التطابق (الاستثنائي) بين تجربتها الداخلية المعاشة وأدائها التشكيليّ الصادق. وإنما على الأخصّ لأنّ المواصفات “الباتولوجية” المأزومة تتسامى في تعبيريتها العاطفية إلى لغة جمالية شمولية، وإلى احتدام زاهد وحيوية متقشّفة في اللون والخطّ، تصل في بعض حالات تصاعديتها إلى مستوى العدمية الوجودية أو الوجدانية، وبما تثيره في الوعي والذاكرة والتخييل من خصوصية تراجيدية ومغتبطة بالنور في آن واحد. تفضح قوّة أصالة لوحتها أشدّ كوامن الضعف الأنثويّ في عالم مشرقيّ مشوب بالتعسّف الذكوريّ. وهكذا تحيك من ضعفها ملحمة لوحتها الوجودية” . الناقد أسعد عرابي
تعتبر الفنانة ليلي نصير رائدة الفنّ السوريّ المعاصر وهي تستحقّ تلك التسمية بكل ما تحمله من معانٍ فهي تخرّجت من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1963 وظلّت على مدى الأربعين عاماً اللاحقة تعمل في الحقل التشكيليّ.
ليلى نصير من جيل الأربعينات من القرن الماضي وتربّت ضمن أسرة تهتمّ بالفكر والأدب وكانت أسرتها تملك مكتبة منزلية تحتوي على مؤلّفات كتّاب معاصرين: جبران خليل جبران وطه حسين وبودلير ومارك توين، كما كانت أمّها تحبّ الأدب العربيّ والغربيّ في آن واحد. من هذا المناخ الثقافيّ العائليّ نمت موهبتها وشخصيتها الفنية، فقد قرأت برنارد شو مبكراً حتى أنها ارتدت الملابس السوداء ثلاثة أيام حداداً على موته. وهي إلى جانب الرسم تكتب الشعر والقصص والقصة القصيرة.
ليلى نصير فنانة مقلّة في الإنتاج والحضور حيث تعيش عزلتها منذ عقود من الزمن في مدينة اللاذقية. تقول يارا نصير عنها ” عرف عن ليلى في مدينتها أنّها أوّل فتاة ترتاد مقاهي الرصيف فكانت هذه الفتاة ذات الشعر الأحمر الناريّ والطبع الناريّ كذلك تجلس غير عابئة بأحد لترسم حياة الشارع في أوج صخبها. ولا يزال أحد هذه المقاهي يحتفظ لها بكرسيّها في مكانها المعتاد رغم مرور ما يزيد عن الثلاثين عاماً “. وهي نائية بنفسها عن الصخب وأضواء العاصمة “دمشق” علمأ أنها من أوائل اللواتي حصلن على المؤهل الأكاديميّ في مجال التخصص الفنّي وهي تشتغل في أعمالها بتقنيات متعددة وذلك باستخدام خليط من المواد المختلفة كالزيتيّ والشمعيّ والباستيل والإكريليك وقلم الرصاص والحبر الصيني واستفادت كذلك من فنون الطباعة ” المينوتيب”.
رغم تعدّد التقنيات في تجربتها، تتميز ليلى نصير بالتقنين والتقشف اللونيّ وترواح بين أساليب متعددة كالواقعية والسريالية والواقعية الحديثة والتعبيرية والتعبيرية التجريدية كما أنها تأثّرت بشكل واضح بجملة الفنون القديمة وخاصّة الربّة أوغاريت العظيمة عند السوريين والتي تعدّ رمزاً للخصوبة المتجدّدة وتناولتها في كثير من أعمالها كتعويض عن الأمومة وإنجاب الأطفال فالفنانة ليلى نصير لم تتزوّج في حياتها مطلقاً بل كرّست حياتها للفنّ والرسم ورغم أنها لم تكوّن أسرة إلا أنها تمتلك إحساساً طاغياً بالأمومة فكانت المرأة الحامل هاجسها حيث رسمتها مرّات كثيرة في لوحاتها.
تملك ليلى نصير طاقة روحية عالية في تحويل المعاناة والآلام إلى لوحات فنية لأنها استوعبت الفنون القديمة بحساسية فردية كفنانة في أعماق روحها وعملت في البحث عن منابع فنية واسعة في كلّ فنون البشرية من ثمّ فرضت نفسها كفنانة على الساحة الفنية بأسلوبها الخاص. تقول في أحد حواراتها:
تأثرت بفان غوخ وقبله بمودلياني وبوتنثللي ومايكل انجلو، وهذا يفسّر وجود التضادّ في أعمالي الفنية من رقّة وشعر من ناحية، إلى رقة وقوة من ناحية أخرى كما مودلياني وفان غوخ. ولا شك في أنّ لمايكل أنجلو تأثيرا في اتّجاهي نحو الفنّ كما أنّ لمحمود مختار تأثيرا خاصّاً في اتجاهي الفنّي. وأنا أعتبر أنّ مختار، هذا الفنان الذي هو صلة الوصل بين الفنّ القديم والفنّ الحديث، هو بلا جدال من عباقرة القرن العشرين، ولا شكّ في أنّ مجمل فنّاني عصر النهضة كان لهم تأثير على استمراري في فنّي والبحث عن هوية شخصية لها علاقة بالمنطقة التي أعيشها. كان هاجسي أن أستفيد من الفنون القديمة المصرية والسورية بما فيها حضارة أوغاريت. إنني ابنة هذه المنطقة، وما فيها من مفردات ما هو إلا استمرار لهذه الحضارات القديمة التي أثّرت وتؤثّر في مجالات الحياة والأسس الفكرية معا، ومهما قيل لن يستطيع أحد فصل الفنان عن جذوره، لأنه يتعاطاها في الأدوات واللغة والشعر والعمارة والرقص والموسيقى واللباس والمعتقدات والحكايا والأساطير”.
تتناول ليلى نصير في أعمالها الفلاحات في الحقل والبيدر والعاملات في القطاف كما ترسم شخوصاً محقونة بالأزمات ومسكونة بصدمات الحياة اليومية المعاشة، وتعكس أعمالها أصداء روحها وأنفاسها التي تطغى عليها لحظات عميقة من الحزن إلى درجة تخفي معها ملامح شخوصها الغارقة بالأرق والتعب في الليالي الملفعة بالصمت وتدمج عناصر اللوحة لديها داخل معادلة بصرية مدروسة ومفتوحة على تأويلات تبدو في بعض الأحيان معالم أسطورية وتعمل على إظهار التفاصيل من خلال التركيز على جوهر الخلجات والأحاسيس والانفعالات الداخلية العميقة وتصوغ مفرداتها التشكيلية ضمن مساحات لونية مشبعة بإحساس ذاتي يعاني من عجز وكآبة موزعة ألوانها بالتوازن في تجاورها مع بعضها البعض عارفةً كيفية توظيف الخطّ واللون في كشف المسكوت عنه ضمن المتواليات التكونية والتلونية بدون أن تبتعد عن خط تجربتها وخصوصيتها المشحونة بالقلق والاضطراب والتوتر الإنساني التي هي في النهاية سمات عامة وعريضة لشخصيتها وتجربتها التشكيلية وهي لم تهتم أبداً بالقشور والمظاهر البراقة والماسكات التي على الوجوه من حولها. تقول عنها يارا نصير: “لم يعرف عنها يوماً أنّها اهتمّت بما تهتمّ به الشابّات عادة من ملابس وزينة، وهي رفضت هذا الاهتمام بالشكليات رفضاً قاطعاً من منطلق رفضها للأقنعة التي يختبئ الآخرون وراءها، فعرّت روحها من كل الشوائب وخرجت إلى الحياة تبحث عن مصادر جديدة تغني بها فنّها فرسمت العميان والمشرّدين وذوي الحاجات الخاصّة وبحثت عن الحياة في الحارات الشعبية وفي أحياء المقهورين. خاطت ملابسها بنفسها وعاشت في مرسم من 12 متراً مما اضطرّها لافتراش الأرض من ضيق المكان ونشأت لديها فكرة الطباعة (المينوتيب) التي ميّزت أعمالها لفترة طويلة.”
وليلى نصير تعيش علاقة صادقة وحميمة مع أعمالها وهي تعيش التجربة قبل أن ترسمها. تتميّز بشغفها وببحثها المتواصل من أجل القبض على أكبر قدر ممكن من الانفعالات والأحاسيس حتى أنها خاطرت بالذهاب إلى لبنان في الثمانينات أثناء الحرب ومن هناك ومن فوق تلّة أخذت زاوية ما لتراقب بيروت الغارقة في الموت ورسمت مباشرة ما شاهدته من قسوة ووقائع سريالية مخيفة أثناء الحرب وجسّدت مدى وحشية الحرب في الدمار والعنف والخراب الذي وقع على الناس ومن هذا المنطلق فهي تحبّ أن تسمّي نفسها “فنّانة تجربة”.
عاشت مع الأطفال في مؤسّساتهم من العميان والمعوقين والمتشردين والأحداث واقتربت من يعملون في بيع الجرائد واليانصيب وماسحي الأحذية ونقلت ذلك مباشرة من خلال دراسات خطّية على الورق وخزنتها كذاكرة بصرية متراكمة في رأسها .
تقول في أحد حواراتها” إنني ألجأ إلى تكوين العمل الفنّي على مراحل. ثم أنتقل مباشرة إلى الرسم على سطح اللوحة. وأثناء العمل قد تتغيّر بعض الملامح، فقد أضيف أو أختصر أو أحوّر في الخطّ أو في اللون. فالتحوّل الذي يكون في داخلي قد ينعكس بفعالية بعيداً عن العقل الذي هو أساس العمل الفنّي بما يحمله من مدركات وتجارب طويلة وصور بصرية وتراكم لمفاهيم العمل الفني. هكذا قد ننتهي إلى الشكل آخر، إنما له علاقة بالعمل الفني المدروس. إذاً العمل الفني يعتمد على الدراسة في البدء، أي على العقل، لينتهي إلى العفوية المموهة دون شكّ بالعقل”.