في انتظار البرابرة» لكوتسي: من المتحدث؟ من البربري؟
ابراهيم العريس
ما الذي يمكن أن نحصل عليه إن نحن مزجنا بين عنوان قصيدة قسطنطين كافافي الشهيرة «في انتظار البرابرة» ومسرحية صامويل بيكيت التي تزيد عنها شهرة بكثير «في انتظار غودو»، و «صحراء التتار» رواية الكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي؟ الجواب واحد، رواية عنوانها «في انتظار البرابرة» كتبها الجنوب أفريقي ج.م. كوتسي، صاحب جائزة نوبل الأدبية للعام 2003، وحولها فيليب غلاس عام 2005 الى عمل أوبرالي ضخم، عرض أول ما عرض في مدينة ارفورت الألمانية. ومن الواضح لمن يقرأ هذا العمل، أن حضور كافافي وبيكيت وبوتزاتي فيه لم يكن صدفة، كما ان ليس في الأمر سرقة أدبية أو ما شابه ذلك. كل ما في الأمر أن كوتسي، استخدم الخلفية الفنية والفكرية التي توفرها هذه الأعمال الثلاثة، التي تعتبر علامات أساسية في إبداع القرن العشرين، كي يبني عملاً (أصدره أواخر 1980) يعكس فيه نظرته الى واقع الحال ولعنة الانتظار وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، في ذلك الوقت الذي كانت قضية الاضطهاد والتمييز العنصري ضد السود في جنوب أفريقيا، لا تزال في طليعة القضايا التي تشغل الإنسانية وكل فكر حر، ونحن نعرف أن كوتسي، وهو كاتب أبيض يستخدم اللغة الأفريكانية (ذات الأصول الهولندية) لكتابة أعمال أدبية يدافع معظمها عن حقوق السود وكرامتهم، مثله في هذا مثل كتّاب كبار من طينته اشتهروا خلال الربع الأخير من القرن العشرين بكتاباتهم ونضالاتهم، ونال ثلاثة منهم على الأقل، لاحقاً، جائزة نوبل الأدبية، إذ، الى كوتسي، كان هناك نادين غورديمير، ثم دوريس ليسنغ. ولئن كانت رواية «في انتظار البرابرة» اعتبرت في حينه عملاً نضالياً، فإنها اعتبرت بعد ذلك ولا تزال تعتبر حتى اليوم، عملاً ابداعياً كبيراً، ما أهّلها لشغل موقع متقدم في لائحة «بنغوين» لأعظم الكتب التي وضعت في القرن العشرين.
كانت «في انتظار البرابرة» ثالث رواية يكتبها – وينشرها – كوتسي، الذي كان بدأ عمله الكتابي منذ عام 1974. ومن هنا لم يكن غريباً أن يواصل في هذه الرواية «دراسة» العلاقة بين المضطَهد والمضطِهد، تلك العلاقة التي كان بدأ يدنو منها، منذ روايته الأولى «أرض الغسق»، لكنه في الرواية الجديدة نراه يوسع من بيكار خطابه لتصبح العلاقة المدروسة، علاقة بين البربرية – بمعنى الهمجية، علماً أن كلمة «بربرية» هنا، لا علاقة لها بكلمة «برابرة» التي هي اسم قبائل من أصول عربية تقطن بلدان الشمال الأفريقي، ودائماً ما كان الخلط المخطئ بين الكلمتين مدار سوء فهم ومشاكل لغوية وسياسية. والحال أن اسم «بربرية» للهمجية، هو على علاقة بقبائل همجية كانت تقطن الشمال الأوروبي في العصور السحيقة وكانت اعتادت أن تغزو المناطق الحضرية في أوروبا الوسطى والجنوبية، وهي قبائل لا علاقة لها بـ «بربر» أفريقيا الشمالية بأي حال من الأحوال -، وبين الحضارة. وقد أضحى التناحر بين البربرية والحضارة، علامة أساسية من علامات أدب كوتسي.
تدور أحداث «في انتظار البرابرة» في منطقة نائية معزولة، عند أراض حدودية. والمنطقة لا اسم لها هنا، كما أن لا شيء يدل طوال فصول الرواية على زمن محدد تجري فيه أحداثها. أما هذه الأحداث فإنها ترمز في نهاية الأمر الى كل أنواع العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر. أما الأحداث فتنطلق من شخصية الحاكم الأعلى، الذي يبدو لنا منذ البداية مكلفاً تنظيم الأمور عند تلك المنطقة الحدودية. وهو إذ يقوم بمهامه بهدوء أول الأمر، سرعان ما يجد نفسه ذات لحظة عالقاً بين الإمبراطورية التي كانت كلفته السهر على المنطق الحدودية، وبين الأهالي البرابرة، الذين نراه بالتدريج يشعر بتعاطف معهم. والمهم هنا هو أنه، انطلاقاً من التبدلات التي تطرأ على موقف الحاكم الأعلى، سرعان ما نجدنا، نحن القراء ندرك أن البرابرة ليسوا مجرد شعب معادٍ للإمبراطورية يسكن هنا وينتظر قدومه من البعيد، ما وراء المنطقة الحدودية التي تحد أراضي تحتلها الإمبراطورية وتعتبرها ملكاً لها. ولعل في إمكاننا أن نعيد بداية وعي الحاكم الأعلى بهذه الأمور كلها، الى ذلك المشهد الافتتاحي في الرواية حيث يطالعنا العقيد جول وهو يمارس أعتى ضروب القسوة والتعذيب في حق رجل عجوز ينتمي الى البرابرة، كما في حق طفل صغير… بالنسبة الى الحاكم الأعلى، كان هذا المشهد كافياً لرسم الخط الفاصل (الخط الحقيقي الواقعي، لا الخط النظري) بين المتمدن والمتوحش. ولعل الفكرة الأساس التي نطلع بها في خضم هذا كله هي ان البرابرة انما هم «الشيء» الذي يوجد في داخل كل إمبراطورية، وتنظر اليه هذه على اعتبار انه هو «الآخر»… بمعنى أن «الآخر» هو، دائماً، البربري. ولأن حضور هذا «الآخر، البربري» يمكن الإمبراطورية دائماً من التماسك والتصلب، مبرراً لها كل ما تقترفه، باسم الخوف من الآخر، تسري دائماً اشاعات مفبركة، تزداد حدة هنا أمام أعيننا، عن أن «البرابرة» يحضرون لهجوم كبير يقومون به ضد أراضي الإمبراطورية ويقتضي منهم أن يعبروا الحدود. وبالتالي ها هي القيادة الإمبراطورية تنتقل الى العاصمة كي تحضر لهجوم مضاد ضد الغزاة القادمين المحتملين. وفي هذه الأثناء، يكون الحاكم العام، قد وقع في غرام فتاة حسناء تنتمي الى «البرابرة»، وكان العقيد جول ورجاله الخبراء في التعذيب قد خلفوها، بعد حفلة التعذيب التي قاموا بها، مشوهة وعمياء تقريباً، وهنا يجد الحاكم نفسه قد قرر، بكل جرأة، أن يعيد الفتاة الى قومها… وهو يقوم من فوره بتلك الرحلة على رغم كل الأخطار التي تحيط به وبالفتاة. وهو في نهاية الأمر يتمكن من إعادة الفتاة ومن ثم يعود الى البلدة التي انطلق منها. وبعد فترة يسيرة من وصوله، تصل قوات الإمبراطورية لتبدأ سيطرتها على المكان ولتبدأ في الوقت نفسه معركة الحاكم العام الحقيقية وآلامه.
لا تخرج هذه الرواية، وبالتالي الأوبرا التي اقتبسها منها فيليب غلاس، عن الإطار العام لأدب كوتسي الذي يعتبر، في التصنيفات الأكاديمية واحداً من أبرز كتّاب الحداثة الما – بعد – كولونيالية. فالإمبراطورية هنا ليست، في نهاية الأمر، سوى كناية ترمز الى كل ما هو استعماري وإمبريالي في عصرنا الراهن والعصور السابقة. وبالنسبة اليه، فإن الإمبراطورية إمبراطورية همها التوسع وإخضاع الناس، سواء كانت إمبراطورية حقيقية ضخمة (مثل الولايات المتحدة الأميركية) أم إمبراطورية صغرى (مثل إسرائيل أو دولة جنوب أفريقيا العنصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين) أو أي رقعة من الأرض يحكمها ديكتاتور او تنظيم أصولي متطرف. أما «البرابرة»، فإنهم في الحقيقة ليسوا برابرة إلا في نظر الإمبراطورية ودعاياتها التبريرية. وأما «الحاكم» هنا في «في انتظار البرابرة»، فإنما هو ذلك الشخص الذي يشعر في ذاته الحاجة الى البحث عن معنى عند أطراف إمبراطورية ظالمة قاسية. وهو لئن كان يغرم بالفتاة البربرية، فإن غرامه ليس أول الأمر سوى غرام أبوي لا يفهم ذاته الحقيقية (ترى، أوَليس في هذا تعبير عن أبوية أناس طيبي النيات مثل كوتسي نفسه؟)…
من الواضح أن فوز ج. (جون) م. (ماكسويل) كوتسي، بجائزة نوبل، وهو في الثالثة والستين من عمره (هو من مواليد 1940 في كيب تاون في جنوب أفريقيا)، أضفى على أدبه نكهة إضافية، بعدما كان، طوال أكثر من ربع قرن قد حصر بسماته النضالية المشاكسة بقوة على الحكام البيض لجنوب أفريقيا. ومن هنا قُرئت «في انتظار البرابرة» من جديد وعلى ضوء فهم أكثر كونية وإنسانية، ومثل هذا، كان أيضاً نصيب أعمال أخرى مهمة لكوتسي، كان نضاله حصر معانيها وأشكالها، ومن هذه الأعمال «في قلب الوطن» (1977) و «حياة وأزمان ميكائيل كا» (1983) و «عصر الفولاذ» (1990) و «حرمان» (1999) و «الرجل البطن» (2005)، وأخيراً آخر أعماله حتى الآن «يوميات عام سيئ» (2007).
الحياة