صفحات سوريةمحمد علي العبد الله

الشعب باقِ والنظام من أثر “الطوارئ”

null


محمد علي العبد الله (*)

يثير يوم 8 آذار من كل عام ذكريات معاناة مرّة ترتبت على إعلان حالة الطوارئ في هذا اليوم من عام 1963، حيث كان لحالة الطوارئ التي نعيش تحت وطأتها منذ 45 عاماً، انعكاسات سلبية خطيرة على كل مناحي الحياة، فقد ترتب على إعلانها وتنفيذها بطريقة غير قانونية،
إلغاء دور الدستور وتجميده كلية، وتعطيل عمل الجهاز القضائي، وازدياد شدة قبضة الأجهزة الأمنية على البلاد، واتساع صلاحياتها، وتعدد فروعها ونشاطاتها وتداخل اختصاصاتها، فأضحى الكل يعمل في الكل دون فاصل أو رقيب، فطالما أن الكل يقمع فهو مختص، ناهيك عن الضحايا الذين سقطوا نتيجة للنصوص التشريعية التي منحت هذه الأجهزة حصانة قانونية ضد القضاء تحميها من أي رقيب أو حسيب.

كما قاد طول فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وما شهدته الحياة اليومية من بطش مباشر، وضغط نفسي على المواطنين، وقهر اقتصادي عبر إقامة تحالف بين السلطة ورأس المال الفاسد لضبط إيقاع حياة المواطنين الاقتصادية وجعل لقمة عيشهم بيد قوى السلطة، الأمر الذي رتب تنميط ردّ فعل المواطنين السياسي، وأفقدهم حماسهم وتحفزهم الوطني، الذي كان يدفعهم إلى النزول إلى الشوارع عند كل حدث وطني أو عربي، فتجمّدت مشاعرهم الوطنية، حيث تمر صور القتل الوحشي الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، بشكل يومي وكأنهم لا يرونها، وكأنهم في حالة من الاستقالة السياسية والموت السريري، فالأغلبية من المواطنين السوريين غارقة في الاغتراب، همها الوحيد قوتها اليومي.

كما أدت حالة الطوارئ إلى إضعاف الحركات السياسية المعارضة عبر الملاحقة والسجن لفترات طويلة، فقد تلاشت حركات بكاملها (الإخوان المسلمون) تحت الضغط المباشر، بينما أخذت حركات أخرى (الناصرية واليسارية) تطحن نفسها باجترار مقولاتها، وهذا أدى إلى فقدان عناصر القوة التي كانت تمتلكها، فتحولت إلى مزق وحلقات مغلقة ومعزولة، وتم تكريس ثقافة الخوف في المجتمع عن طريق إلحاق الأذى استنادا إلى وشايات المخبرين والعملاء وتسليط عقاب جماعي على الأسر التي يخرج منها معارض.

لقد تدمرت الحياة الوطنية وساد الصوت الواحد، بإخراج السياسة من المجتمع، بعد ضرب كل تعبيراته المستقلة، ما أفقد الحياة الوطنية توازنها وحوّل الوطنية السورية إلى حالة هلامية مبهمة يصعب الخروج منها، توج ذلك بإعادة صياغة النخبة الوطنية في الإدارة والتعليم والمؤسسات الخدمية عن طريق اعتماد قاعدة الولاء لا الكفاءة، وهذا قاد إلى ترهل كل مناحي الحياة الوطنية، وظهر واضحاً في مجال التعليم حيث باتت الجامعات السورية تخرج طلبة شبه أميين في مجال اختصاصهم ، بسبب وضع الإنسان غير المناسب في مكان الإنسان المناسب.

كما أدت السياسة التمييزية (القومية والطائفية) التي ترافقت مع القمع السياسي والاجتماعي، إلى انكماش المشاعر الوطنية والى عودة المواطنين إلى مواقع ما قبل وطنية، مواقع طائفية وعشائرية وعائلية ومناطقية. وهذا قاد إلى انكماش المجال السياسي إلى حدود العصبيات القائمة على الانغلاق على الذات ما يرتب كبح وحجز التطور الاجتماعي وتحويل المجتمع الواحد إلى مجتمعات متصارعة تنفي بعضها بعضاً.

وقد قاد هذا إلى تفكك الاجتماع السوري وطنياً واجتماعياً، وهذا إلى جانب أزمات سياسية واقتصادية وخدمية خانقة يشعر المواطنون أن السلطة تتجاهلها وتتركها تتفاقم باتجاه المزيد من الاختناق المعيشي والخدمي، وكأنها ترى فيها وسيلة لشل المجتمع عبر تركه يتمزق في دائرة الاحتياجات اليومية، على طريق تأبيد الخوف والحذر الاجتماعيين، كما قاد المجتمع إلى مزيد من التذرر الاجتماعي، وإلى وحدة وطنية قائمة على صمت المواطنين المذعورين والمستسلمين، وحدة تشبه وحدة الأموات.

إن الاستمرار في التغول على القانون وعلى العدالة واهدار كرامة الإنسان وحريته واستقلاله وممارسة إرهابه والضرب عرض الحائط بكل مصلحة للشعب والاستئثار بها من جانب الأجهزة الحاكمة سوف لا يؤدي بنا إلا إلى مزيد من التدهور والضياع على كافة الأصعدة فهل نستطيع أن نخرج من النفق المظلم؟ من سوف يستجيب لمطالب الشعب ويحافظ على كرامته وأمنه؟! وهل بقي لنا من نشكو إليه سوى الله.

(*) كاتب وناشط حقوقي سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى