هالة العبدالله توثّق الهوامش والمنافي والسجون
زياد عبد الله
في جديدها «هيه… لا تنسي الكمون» تواصل المخرجة السورية هالة العبدالله ما حمله أوّل أفلامها «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» مِن تعقُّب لمصائر المنفيّين وتوثيقها، ما يجعل الفيلم حاملاً شعرياً لأثمان الحرية الباهظة. يوثّق الشريط حياة الكاتب السوري جميل حتمل الذي توفي عام 1992 في منفاه الباريسي، وتوقه للعودة إلى سوريا «ولو بتابوت»، الأمر الذي يتحقّق حين نرى هالة تزور قبره في دمشق، فيتحوّل صمام قلبه إلى خاتم، نشاهده يتدحرج طوال الفيلم كلازمة، ليستقر بعدها في إصبع الممثلة اللبنانية دارينا الجندي: «لن تمانع يا جميل أن تضع دارينا الخاتم في إصبعها».
قبل الخاتم الذي سيكون بمثابة الإيذان بالانتقال إلى قصة دارينا مع حريتها وجسدها وأنوثتها، يبدأ الفيلم مع حتمل ممدّداً على سرير المستشفى وأمامنا نساؤه. على يسار الكادر، نرى امرأة جالسة تغنّي وتدير ظهرها إلى الكاميرا، بينما تترافق استعادة حتمل لنسائه مع قراءة نصوص له: مشهد مبني بحب وانخطاف نحو كل ما يمكن أن يكون حتمل قد تذكَّرَه قبل وفاته: نساء يدرن أمامه وكل واحدة تقترب من سريره على طريقتها، وهو دائماً يردّد «لا أحبّ الأسوَدْ»، لكنّهن في النهاية سيتشحن به.
وها نحن الآن أمام دارينا التي تتدرب على قراءة نص كتبته بالفرنسية. تُخطئ في لفظ كلمة فتصحّحها بعصبية، وتواصل سرد ما عاشته الذي سيطول حتى يصبح ما يشبه المسرحية أو «المونودراما» التي تؤديها في مواصلة لسرد حياتها. إنّها امرأة، كل ما ارتكبته هو الحرية، وعشقها لجسدها ورغبتها بالتعرّي. لكنّ زوج أختها سيكون لها بالمرصاد وستتعرّض لضرب مبرح وتستيقظ من غيبوبتها، فإذا بها في مصحّ للمجانين: تلك هي قصة دارينا ـــ كما تحوكها ـــ مع جسدها وحريتها واصطدام رغباتها بالذكورة، ومجتمع يَعُدّ الحرية عهراً.
فيلم «هيه… لا تنسي الكمون» مسكون بهواجس تمضي والألم يداً بيد. إضافة إلى حتمل، نتعرف إلى مصير الكاتبة البريطانيّة سارة كاين التي انتحرت في ريعان الشباب، وتجدها العبدالله على تماس مع حتمل. إنّها مصائر اكتملت افتراضاً بالموت، لكنّها ما زالت تطالب بحريتها، بحرية الجميع. ولعل انتقال الخاتم إلى دارينا يرمز إلى هذا الصراع المرير واستمراريته… «لينظفوا أنفسهم. وضعوا كل أوساخهم عليّ» تقول دارينا. إنّها الحرية المجاورة للجنون في مجتمعاتنا التي تجدها العبدالله أيضاً في «مورستان» (مصحّ مجانين) في حلب يعود إلى القرن الثاني عشر حين كان الجنون يعالج بالموسيقى والضوء.
سواد كثير سيعتري من يُشاهد فيلم هالة العبدالله: حزن عارم على مصير كل مَن يتوق للمغاير، إنّه مواصلة لغوصها في أعماق الهوامش والمنافي والسجون… الثالوث الذي يترصد كل إبداع حُرّ في عالمنا العربي.