صفحات ثقافية

الحــرب والأدب

null
عباس بيضون
قبل الحرب يأتي الشعراء ليحرضوا، بعد الحرب يأتون ليرثوا. هذا تقريباً ما قاله جان جيرودو في مسرحيته »حرب طروادة لم تقع«. بعد الحروب يتكاثر أدب رديء يشترك فيه الهواة وغير الهواة. هؤلاء معذورون في الغالب فالغرض لا يكون أبعد من شهادة على الطريق. قد يكون الداعي أخلاقيا او سياسيا لكن الهدف القاهر هو ابلاغ رسالة او تقديم دعم او التحرر من عبء ضميري وفي كل الأحوال فان المباشرة والاصطلاح والعبرة تتحكم في النص. ليس هذا مبعث شكوى. لقد شارك كتاب كبار أحيانا في بث من هذا النوع، يمكن ان نفكر في قصيدة الراحل »بنتر« ضد حرب العراق بل وفي ديوان كامل عالمي عن هذه الحرب، ليس اكثر تفريجات غاضبة او راثية. اننا نقرأها غالبا على هذا السبيل ولا نحرجها بأسئلة تتعدى غرضها.
مع ذلك فإن الحرب قد تعني لشاعر او أديب عربي شيئا خاصاً يمكننا ان نجازف بالقول ان الحرب هي أقرب الأغراض الى الشعر العربي. ليس من الضروري ان نشير الى الشعر الحربي في القصيدة الجاهلية فالواضح ان ديوان الحرب فيها واسع وعريض. لكن صفوة ما في شعر المديح الأموي قد لا يكون سوى قطع ملحمية وتحريض حربي. بلا يمكننا ان نفكر ان هذا الضرب من الشعر كان حينذاك ولأمد بعيد عيار الشعر. اذا كان الشعر البلاطي هو ميزان الشعر عندها فإن الشعر الحربي هو بالتأكيد جوهرته. هكذا يمكن ان نفهم مثلا ماذا عنى الشعر الغرامي الحجازي، لقد كان في المقلب الآخر. لا نستهل ان نطلق عليه »ثورة ولا حتى تجديدا فهذا المصطلح لم يكن قد انبلج بعد وكان علينا ان ننتظر حتى نهاية العصر الأموي لنبدأ الكلام عن القدامى والمحدثين. لكن مقارنة بين شعر الأخطل وهو قمة الشعر البلاطي وشعر عمر بن أبي ربيعة تجعلنا نشعر بأننا لسنا في العصر نفسه. ثمة هنا وهناك قيمة مختلفة ومتغايرة، مغامرتان لا تتطابقان. الحرب هي صلب المغامرة الأولى، الحرب بوصفها حجة السلطة ومثالها. فيما الحب هو أساس المغامرة الثانية. شتان بالطبع ما بين الحب والحرب. اما النتيجة فهو ان شعر الحرب ذو وزن مختلف، لا أتكلم فقط عن الأوزان الشعرية بحرفها وأنواعها الظاهرة، فالمعروف أن الوزن الواحد يحوي قابلية لوتائر مختلفة متباينة بل ومتضاربة. ما نسميه في العربية »الجزالة« قد يكون هو هذا الوزن البلاطي الحربي. وقد كان شعر الأخطل جزلاً بقدر ما كان شعر عمر بن أبي البقه مهلهلا (جاء اسم المهلهل من هلهلة الشعر على كل حال). لا بد أن هذا الوزن الحربي البلاطي عرف مع الزمن استحالات كثيرة فالواضح ان شعر ابي تمام والمتنبي الملحمي غير شعر الأخطل لكن الوزن الحربي بقي على نحو ما سائداً، واذا قفزنا الى العصر الحديث سنجده في ما سمي مؤقتا الشعر النيوكلاسيكي من البارودي حتى الجواهري. لا بد ان نشير بسرعة الى ملاحظة هامة هي ان النثر كان في هذا السياق غير الشعر. لقد جاء من ثقافة أخرى هي ثقافة المناظرة والتعليم. ان نَفَس الجدل المولع بالمقابلات والموازنات والتفريع والاستقصاء والتفنن هو نفس النثر، ونحن نقع هنا على وزن آخر.
اذا قفزنا وهذا هو المقصود من كل تلك المقدمة الطويلة الى ما نسميه (مؤقتا غالبا) الأدب الحديث ستجد ان الايقاع الحربي هو ما رسب في نوع من الشعر اتخذ له ديوانا واسعا من دون أن يكون له تحديد واضح، هو ما نسميه الشعر الوطني. ليس هذا شعر الحنين للأوطان الذي عرف في قديم الشعر العربي وحديثه. انه شعر تولد في الصراع ضد الاستعمار وفي المد القومي وبعد سقوط فلسطين وإبان وبعد الحروب الكثيرة التي استتبعت سقوط فلسطين. انه الشعر الوطني وهو كما ترى أدب مواز لغليان جماهيري ولمرحلة دراماتيكية هائجة قد تكون الحرب عنوانها الأول. الشعر الوطني هو تقريبا التحريض على الحرب ونعي نتائجها في آن معا. انه التحريض على الحرب او تخييلها او امتداحها او بث قيمها او استنهاض كل النعرات المصاحبة لها. انه شعر (حدث ام قدم) جماهيري وأكاد أقول شعبياً، لذلك نجد فيه التهويل الحربي المرافق للعراضات الشعبية التي غالباً ما تجترح مناخات ملحمية بطولية وانتصارية في آن معا. قد يتناسب هذا طردا مع الهزائم ومع مناخ الهزيمة السائد. الهزيمة لا تقال الا بوصفها خيانة، أي بالقائها على عاتق الآخرين. اما الذي يستمر فهو النَفَس البطولي الانتصاري، اننا نجد في عمق التراث الشعبي هذا النفي المطرد للهزيمة وذلك التخيل الانتصاري.
اذا عزت نسبة هذا الانتصار لليوم فلن تعز نسبته للأمس. في هذه الحال يحل لوم الذات وتعذيبها محل التمجيد البطولي. لكن لوم الذات ونعي الهزيمة يقابلان في الغالب انتصاراً غائباً وبطولة غائبة. هذا ما هو عليه شعر نزار قباني الوطني مثلاً والذي يتوسل الجملة التذنيبية لنوع من احتفال رمزي بالتحرر من الذنب. وعلى كل حال فإن الشدائد والصعوبات والويلات هي في سياق التهليل المسبق للنصر الخبيء والمقبل بلا ريب. الهزيمة حتى وإن تم نعيها لا تترافق مع رؤيا نابعة منها. الهزيمة لا تفضي الى نعي الحرب على سبيل المثال. لا تفضي إلى رؤيا عدمية او إلى عبث او إلى تشهير او سخرية بلا موضوع. لا تزال الحرب، بمفرداتها العديدة، موضع تمجيد ولا تزال عقيدة الصراع ولا تزال »واقعه« الوحيد. لا بد ان هذا ينغرس في عمق تخييل شعبي يجد فيه فوراً اصطلاحه ورموزه وقيمه. لا نعدم ان نجد القبيلة، غائبة او متعالية، هي في عمق هذا التخييل، ان انشاء موازيا يعود كل مرة ويحيل كل ما بني لنقده في سرعة الى رماد.
لطالما ميزت بين هذا الشعر الوطني وبين الشعر السياسي. الأول نابع بالدرجة الأولى من تخييل سابق على الدولة وعلى المجتمع تتجلّى فيه الأمة كقبيلة كبيرة ويتجلى فيه الحرب كقدر ملازم، فيما يتعالى فيه نشيد الدم والعصبية والفروسية. والشعر السياسي بالتأكيد ينبع من مصادر ثقافية واجتماعية أحدث بكثير. الشعر الوطني هو شعر مطابقة اجتماعية واستنهاض رواسب متأرثة فيما الشعر السياسي الذي يعاصر الدولة والمجتمع هو شعر اعتراض ونقض. يواصل الشعر الوطني تقليدا ملحميا بات الآن فولكلوراً، وينتمي لذلك الى نوع من الفولكلور فيما الشعر السياسي وليد رؤيا مستقبلية غالبا. نميز بين الشعر السياسي والشعر الوطني لا لمصلحة ايهما بل للفرز بينهما. في هذا الفرز ازالة لخلط برر للحركة الشعرية الحديثة، كما تجسدت في مجلة شعر، ان تعادي السياسة في جملتها. الأمر الذي أفقد حركة شعر نفسها مقوما أساسيا في اعتراضها و»معاصرتها«.
ما أن يقع حدث بارز هو في الغالب الأعم »حرب«، حتى تنهال نصوص بلا حصر. انها اللحظة التي تبدو مناسبة لاعادة »الأدب« الى وظيفته الاجتماعية والقومية لكن النتاج سرعان ما يبدد هذا الأمل. النتاج في غالبه يبدو حجة اضافية على عقم هذه المحاولة وعلى العقم الفني والثقافي الذي صدرت عنه. يبدو هذا لكثيرين سببا للتفكير مجددا في هذا التضارب »الابدي« بين الفن والسياسة. لنقل ان الأدب الوطني ليس حجة على السياسي فهما ليسا واحدا. أما ما بين الأدب والسياسة فبحث آخر في مجال آخر وما من مسلمة تصمد في هذا الموضوع. بالرغم من ان تاريخنا المعاصر تاريخ حروب او تفكير بحروب او تحريض على حروب فان التخييل الحربي تحول الى ببغاوية مخلة. لقد كان الأدب الوطني، منذ كان، ظرفيا للغاية واليوم، حتى ظرفيته تلك تبدو مستنفذة للغاية. انه منذ لحظة ولادته. يبدو بلا محل وبلا مقابل. لكن الشعر السياسي كما تجلى على سبيل المثال عند السياب وسعدي يوسف ومحمود درويش وسركون بولص ووديع سعادة وغسان زقطان ومريد البرغوثي وجملة من شبان قصيدة النثر ليس في المأزق نفسه. انه يتحقق وينمو ويصادم. لكن من يسمع اذا كانت الشيزوفرينيا غالبا، هي الواقع.
السقير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى