العقل والنقل في الإسلام
: حول العقلانية اتكاءً على نقد الجابري
سلامة كيلة
ينطلق الجابري من منهجية حديثة (لالاند، شتراوس، ماركس…)، وهذه المنهجية تبلورت على ضوء التطوّر التراكمي في الفكر، استناداً إلى «العقلانية» العربية الإسلامية (ابن رشد…). لكنه يسعى لتحديث الفكر العربي “من داخل التراث العربي الإسلامي». أوّلاً: الاستناد إلى المنهجية الحديثة هذه (بغضّ النظر عن الرأي فيها) يعني أنّه ابتدأ من خارج التراث. ثانياً: إنّه على ضوء ذلك، يعيد ترتيب التطوّر منذ ابن رشد إلى لالاند وشتراوس وماركس، وهو هنا يبدأ من الداخل للوصول إلى الخارج. ثالثاً: إنّه بالتالي، يعيد صياغة العقلانية التي تطوّرت في أوروبا، أو بشكل أدقّ يؤرّخ لتطوّر هذه العقلانية. رابعاً: إنّه يعطي لهذه العملية «طابعاً» (أو شكلاً) عربياً إسلامياً. هل تُحدِّث هذه العملية الفكر العربي؟ وبالأساس هل تنتج هذه العملية عقلانية؟ أم تبلور كاريكاتورَ عقلنةٍ تحقّقت في أوروبا؟ 1) المشكلة أنّ الجابري الذي دعا إلى الانطلاق من عقلانية ابن رشد لبلورة عقلانية عربية حديثة، سار في اتجاه معاكس، فلم يلعب دور المؤرّخ لنشوء العقلانية الحديثة (في أوروبا)، انطلاقاً من ابن رشد، ليصل إلى أنّ الفكر الأوروبي الحديث كان تطويراً للفكر العربيّ (الفلسفة العربية)، وأنّ لالاند وشتراوس وماركس…الخ هم النتاج الطبيعيّ لصيرورة الفلسفة العربية الإسلامية. أليست المساومة بين العقل والدين وتوزيع أدوارهما، كما صيغت لدى ابن رشد، هي الأساس في تغليب العقل على الدين في الفكر الأوروبي الحديث؟ لقد عاد الجابري إلى الوراء. منطلقاً من ضرورة تبرير عقلانية ابن رشد، لكنه أظهر لاعقلانية وهو يسعى لتبرير ذلك، مركزاً على المغاربي في معارضة المشرق، ومنطلقاً بالأساس من جوهر التقييم الاستشراقي، القائم على أن العقل للغرب والروح للشرق. مع تمييزه المغرب عن الشرق، ملحقاً له بأوروبا، رغم أنّ ابن رشد عربيّ (عربي الأصول)، وبالتالي فإنّ نزعته العقلانية تنزع الطابع «الاثنيّ» من ثنائية شرق/غرب. والمشكلة أنّ الجابري تبنّى التقسيم الإستشراقي (في تكوين العقل العربي) (1). لهذا نجده يَسِمُ العقل المشرقيّ بالبياني والغنوصي والصوفيّ، وفي المقابل يؤكّد عقلانية العقل المغاربي. إنه هنا لاعقلاني، حيث لم يدرس تاريخية الفلسفة، لهذا لم يصل إلى نتيجة أن عقلانية ابن رشد هي النتاج الطبيعي لتطوّر (تراكم) الفلسفة في المشرق وهي قمّة هذا التطوّر، ولقد تحقّق ذلك عبر الصراع بين العقل والنقل، والعقلانية واللاعقلانية. ولقد أشرت إلى ذلك في نقدي لكتابه «نحن والتراث» (2)، بمعنى أن الجابري الذي دعا إلى إعلاء العقل، وإلى التمسّك بعقلانية ابن رشد كأساس لأي تطوير عقلاني في الفكر العربي الحديث، صاغ تطوّر الفكر العربي (العقل العربي) بشكل لا عقلاني، وهو بهذا يدمّر دعوته للعقلانية. بمعنى أنه في إطار الدعوة إلى العقلانية يعمّم اللاعقلانية. ودراسة منهجيته، التي هي اقتطاع من عدد من المفكّرين الأوروبيين دون رابط منهجيّ، توضّح ذلك، وأنّ تحديده للابستمولوجيا (مثلاً) مبهم، حيث يعطي عددا من التعريفات لها، كما يتوضّح في مقدمة كتابه «تكوين العقل العربي»، وهي تعريفات متخالفة: من مقاربتها والمنطق، إلى اعتبارها العلاقة بين المنطق ومنتوجه (الفكر)، إلى اعتبارها المنتوج فقط (العقل المكوَّن). إن تأكيد عقلانية ابن رشد يفرض البحث عن صيرورة تبلورها في الفلسفة العربية الإسلامية منذ نشوئها (وربما قبل ذلك في إطار علم الكلام). والمسألة هنا تتعلق بمستويين، الأول: يتعلق بمقولات الفلسفة والربط فيما بينها، وسياق تطوّرها في التاريخ العربي الإسلامي، وتحديد سياق وعي أرسطو فيها، وما أضافته هذه الفلسفة، ما راكمته انطلاقاً من فلسفة أرسطو. وهذا بحث في تاريخية الفلسفة وهو بحث فلسفي. الثاني: يتعلق بما يمكن أن أسميه الأيديولوجيا، والذي اتخذ في التاريخ الإسلامي شكل العلاقة بين العقل والنقل. المنطق والنصّ، أي العلاقة بين الفلسفة والدين (رغم أن التحديد الأول أدقّ، لأنّ صراع العقل والنصّ كان في جوهر الخلاف الديني، وربما كان تحوّل الصراع إلى صراع بين الفلسفة والدين وهو تطوّر مهمّ، نقلة مهمّة في تطور الفكر). وهذا يقودنا أولاً إلى تحديد جوهر كلّ منهما، ومدى الالتقاء (أو الاختلاف) بين ” الجوهرين”. وفكرة ابن رشد هنا واضحة، حيث أنه أكّد على التقائهما في الجوهر (فكرة العلّة الأولى: الإله في الفلسفة والله في الدين). وبالتالي فقد ميّز بين شكلين في التعبير عن «ذات الحقيقة». المحدّدين في: التعبير العقلي (المنطقي) والتعبير الديني (النصي). لكن فكرة ابن رشد تبلورت في إطار الصراع في الإمبراطورية العربية الإسلامية، حول العلاقة بين الدين والفلسفة (النقل والعقل)، والذي وصل إلى حدّ تغليب العقل على النقل، وهو الأمر الذي دفع الغزالي إلى «رفض العقل» (أي بالتحديد رفض الفلسفة)، والغزالي هو مرتكز ابن رشد في بلورة فكرته، حيث رفض منطق الغزالي (وكتاب تهافت التهافت هو رد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة). ولا يمكن فهم فكرة ابن رشد إلا في هذا الإطار. ولا شك في أنّ تقسيم الغزالي ـ وهو يرفض العقل ـ للفكر، وتأكيده على أن الخواص هم من يجب أن يضطلع على الفلسفة، بهدف معالجة «المرضى» الذين يصابون بالشك، وأن الدين هو الثقافة العامة التي يجب أن تعمَّم، كان في أساس تقسيم ابن رشد، لكن مع تحويل في جوهر هذا التقسيم، حيث أصبحت الفلسفة هي وعي الخاصّة، والدين هو وعي العامة، لكنه وحّد بينهما في الجوهر، واعتبر أنهما شكلان مختلفان لحقيقة واحدة. وهو هنا قد دافع عن الفلسفة، وأكمل ما بدأته الفلسفة العربية الإسلامية. وهذا الإطار يلغي إمكانية التقسيم إلى مشرقي/ مغربي، ويرى الفلسفة في تاريخيتها، كما أنه يلغي انقسام العقل الذي يحدثه الجابري إلى عقل بياني وآخر عرفاني وثالث برهاني، ويؤكد على أن الاختلاف هو في أشكال التعبير عن جوهر الأفكار. وهي أشكال وجدت في المشرق كما في المغرب، كما وجدت في أوروبا إلى وقت قريب. وإن قيمة ابن رشد أنه بلور فكرة كانت مجال صراع طويل في التاريخ العربي الإسلامي، وعقلانيته تكمن في ذلك بالتحديد. فقد أكد على الدين ضد نزعات الشك والإلحاد التي نشأت في إطار الفلسفة، من جهة، كما أكد على العقل (وبالتالي الفلسفة) ضد الدين النصي، الذي كان بدأ يطغى، فشرعن الفلسفة معتبراً أنها مساوقة للدين من جهة أخرى. وهذه الفكرة بالتحديد كانت في أساس انطلاق عصر النهضة، وبالتالي تغليب العقل على «النصّ»، ومن ثم تشكيل العقلانية الحديثة. وبالتالي فإن العودة إلى ابن رشد تفتح الأفق، لتأكيد شرعية العقل (والفكر)، في الإطار الشعبي العام، كما في الإطار الفكري. وهنا يكون اعتناق كل اتجاهات العقلانية الحديثة أمراً مبرراً ومشروعاً. لكنها لا تقدّم أكثر من ذلك. وربما توضع في تضاد مع العقلانية الحديثة التي أفضت إلى الديمقراطية والعلمانية، والمواطنة. فالعقلانية الحديثة تجاوزت عقلانية ابن رشد، وحققت قطعاً معها، عبر إلغاء العلاقة بين العقل والنقل (أو الفلسفة والدين) لمصلحة العقل (والفلسفة)، حيث ألغت الفاعل الأوّل من منطقها، لمصلحة العقل، أو بشكل أدقّ أصبح العقل هو الفاعل الأول، وهذا التطوّر لم يكن نتاجاً لخاصّية أوروبية، بل نتاجاً لتراكم الفكر، وما من شك أنّ اللحظة الرشدية كانت من لحظات هذا التراكم، وبالتالي فإن العودة إلى الوراء، من أجل تجاهل التطوّر الحديث أمر «رجعيّ»، أمر انكفائي. لهذا فإن دراسة الرشدية أمر ضروري في إطار الفكر، لمعرفة تاريخية الفكر، وأهميتها في الوضع العربي الراهن تكمن فيما أشرت إليه للتوّ، أي شرعنة العقل (والفكر). لكنها لا تستطيع أن تقدّم أكثر من ذلك، وأي مسعى لجعلها تقدّم أكثر من ذلك هو مسعى أيديولوجي، وهو مناقض لمقتضيات الواقع العربي الراهن، ويمكن القول أنه يضع الرشدية في قالب كاريكاتوري لأنه يؤسّس لجدل مقلوب. فإذا كان ابن رشد أوجد التركيب الضروري في عصره (في إطار الصراع بين العقل والنقل، الفلسفة والدين)، فإن العودة للرشدية اليوم هي الجدل المقلوب، لأن التركيب الراهن هو بالتحديد: الديمقراطية والعلمانية، والمواطنة، وهو تركيب لا تنتجه منظومة ابن رشد، وإن كانت أسّست له، أو كانت لحظة في صيرورة تشكلّه. وهذا التركيب الذي تبلور في أوروبا استند على إلغاء التضاد بين الفلسفة والدين، العقل والنقل لمصلحة الفلسفة والعقل، وهو هنا يلغي أحد شكلي التعبير اللذين أشار إليهما ابن رشد، فالحقيقة لا تطرح إلا في شكل عقلاني، منطقي، وعلمي. أما الدين فقد تحوّل إلى شأن فردي، وغير قابل للتحوّل إلى إيديولوجيا (رغم أن بعض القطاعات تحاول ذلك). وإذا كان الجابري ينطلق في منهجيته من نتاجات الفكر الأوروبي الحديث، فقد وصل إلى نتاج لا يطابق منظومة هذا الفكر، وهو ما يوضّح إشكالية منهجيته، وربما شكليتها. بمعنى أنه بدل أن يسعى إلى دراسة التراكم العقلاني الذي أسّست له العقلانية الرشدية، ومن ثم تبلوره في أوروبا، وضع عقلانية ابن رشد في تضاد مع (أو كبديل لـ) العقلانية الحديثة. مع ملاحظة أنه لم يستطع استيعاب عقلانية ابن رشد، ولا التراكم في الفلسفة العربية الإسلامية الذي أفضى إلى تبلورها. 2ـ لنحدِّد الأمور بدقة، مبتعدين عن التعميمات. فماذا يعني التحديث «من داخل التراث العربي الإسلامي»؟ هنا يطرح سؤال أوّلي هو: ما هو التراث؟ ما المسافة بينه وبين الأيديولوجيا؟ ما علاقة الشكل والمضمون فيه؟ إننا نتحدث عن مجمل الفكر الذي أُنتج في الإطار الإسلامي، في مرحلة محدَّدة هي المرحلة التي كان الإسلام سلطة. بمعنى أننا نتحدث عن علم الكلام والفقه (وأساساً القرآن والسنة) والفلسفة. أحدِّد هنا تاريخية الفكر، لأطرح السؤال حول علاقته بالواقع (الواقع التاريخي). إن تجاهل هذه العلاقة، يفرض النظر إلى الفكر كمطلق، محرَّر من فعل الواقع، وبالتالي التأكيد على أنه صالح «لكل زمان ومكان»، بعيداً عن الحدود المعرفية للبشر ولعلاقتهم بواقع محدَّد، وبالتالي بعيداً عن كونه نتاج هذا الواقع، وهو هنا يصطبغ بصبغة أيديولوجية ضرورة. ومادام الفكر هو منتوج فئة محدَّدة قادرة على ذلك، هي الفئة (الطبقة) المسيطرة، فهو بالتالي الأيديولوجيا المعبّرة عن مصالحها حكماً. لهذا فإن الفكر المنتج في الإمبراطورية العربية الإسلامية هو الفكر الذي عالج مشكلات الواقع ذاك منظوراً إليه من منظار مصلحة الطبقة المسيطرة، أي طبقة كبار ملاّك الأرض والتجار، فهو إذن يحدِّد مصالحها، ويكرّس سلطتها، ويعمم وعيها، كيما يتحوّل إلى وعي جمعي. نلمس هنا جوهر هذا الفكر، الذي تناول أيضاً مستويين آخرين، غير بعيدين عن ذلك بل على العكس يكرّسانه، المستوى الأوّل: «وعي» الكون (الحياة)، وأساس المسألة هنا يتحدَّد في «فِعل الخالق»، المحوّل واقعياً إلى فِعل «ممثله على الأرض»، أي الحاكم، ومن هنا تنبع أهمية الربط بين الديني والدنيوي، وكذلك أهمية الطابع المقدس للحاكم (خليفة الله على الأرض). والمستوى الثاني: فكرة الله، وبالتالي العبادة (الطقوس الدينية)، المرتبطة بالدنيوي عبر الفكرة السابقة والمحدّدة هنا كون الخليفة هو «أمير المؤمنين»، وبالتالي الحارس على تطبيق الشريعة، وبالتالي فهو الفقيه الأعلى والقاضي الأعلى، والإمام الأعلى أيضاً. وهذان المستويان يهدفان إلى تأكيد سلطة هذه الطبقة، وتأكيد خضوع «المؤمنين»، وفي الوقت نفسه تكريس مصالحها انطلاقاً من أنها مقدّسة. فهي مسائل مصاغة في إطار مقدّس، بمعنى أنها مقرَّرة على البشر من الله، لا تجوز مخالفتها، لأن مخالفتها مخالفة لشرع الله. إنها محتوى النصّ المقدس (القرآن والسنة)، والفقه (فقه المعاملات، وفقه السياسة)، هو وسيلة تطبيقها من خلال الفقيه/ القاضي. هنا نلمس محتوى العلاقات الزراعية والتجارة، والأموال والضرائب، ومحتوى العلاقات الاجتماعية (تمايز البشر، الزواج، الإرث..) وجوهر السلطة (أولي الأمر ـ الخليفة). وكل ذلك جزء أساسي من التراث، إنه الجزء الأكثر قدسية، ولاشك في أن كل الحوار حول التراث راهناً يصّب حولها، وهو جوهر شعار «الإسلام هو الحل». في علم الكلام طرحت مسائل فلسفية، وبالتحديد دور الإنسان في حدود الطاعة لله. فطُرِح السؤال: هل أن الإنسان مخيّر أو مسيّر، مجبر أو غير مجبر؟ أي أن حدود دور العقل هي التي طُرحت للمناقشة، ومنها نشأ الصراع بين العقل والنقل، والذي تحوّل إلى صراع بين الفلسفة والدين. لكن سنلاحظ أن حدود هذا الصراع لم تخرج من إطار الفاعل الأول (الله)، بمعنى أن المسألة تعلّقت بحدود العقل في إطار شريعة الله. وهذا الصراع هو الذي انتهى في الصيغة التي بلورها ابن رشد، أي أن هذا الصراع ظلّ على أرضية أيديولوجيا الطبقة المسيطرة، وإن كان يفتح الأفق للشك، والإلحاد، وأحياناً لبلورة «بديل». إن الصراع بين العقل والنقل حظي بأهمية، لأنه عبّر عن «انطلاق الذهن»، عن ميله إلى الفعل (النظري)، وهو الميل الذي أفضى إلى تطوّر الفلسفة، لكن المسألة الهامة هنا تمثلت في دور الفكر في الواقع، حيث أن نشوء الدولة الإسلامية، والتطوّر الاقتصادي الاجتماعي المتحقِّق فرضا حاجة أكبر للفعل، بهدف «تطبيق» الشريعة (التي هي دستور الدولة). وإذا كان النصّ قد نشأ في عصر محدد، سابق لتشكّل الدولة، ولتطوّر الاقتصاد، فإن هذا التطوّر أوجد الحاجة إلى تفسيرات جديدة، تعبّر عن الواقع الجديد. كان «مظهر» النصّ، والتفسير اللغوي له، بوجدان هوّة، لهذا دخل العقل لكي يجسر الفجوة، ويؤسس لتفسيرات منطقية. لكنه أوجد، أيضاً، تفسيرات منطقية لأفكار جوهرية في النص، كانت تفتح باباً للشك، من زاوية أنها تعزّز مقدرة العقل على التفكير في الكون والطبيعة والمجتمع. وهنا كان التمسك بالنصّ هو الردّ للحفاظ على تماسك النصّ ذاته. وموقف الغزالي واضح هنا، ففعل التفكير عنده يقود إلى الشك وبالتالي إلى تجاوز النصّ، لهذا رفض الفلسفة وقولب العقل في إطار «بسيط ” (1) (إحياء علوم الدين، جـ1)، عملي، وخادم للنصّ ذاته. بمعنى أن الصراع تحدّد في الحفاظ على الأيديولوجيا السائدة في شكلها البسيط، ضدّ إعطائها شكلاً ” عقلياً ” ( فلسفياً )، لأن هذا الشكل الأخير يفضي إلى تجاوزها. وسنلاحظ هنا أن صيغة ابن رشد أعطت الشرعية للشكلين لأنّهما يعبّران عن «الحقيقة ذاتها». وابن رشد محقّ هنا لأنّ النصّ والفلسفة عبّرا آنئذ عن «الحقيقة ذاتها»، (أي الأيديولوجيا ذاتها)، في شكلين مختلفين. لكن هل يمكننا أن نضع الفلسفة في إطار الأيديولوجيا؟ ربما كانت المسألة معقدة هنا، لأن الفلسفة تتناول المقولات الأكثر تجريداً، لكن الفكرة الهامة هنا تتمثل في أن الفكر (حتى الأكثر تجريداً) هو نتاج الواقع، أي نتاج رؤية البشر للواقع، ولا شكّ أن الفكر الأكثر تجريداً يدفع في علاقة معقدة مع الواقع، وبالتالي فإن هذه العلاقة لا تبدو مباشرة. لكن هل كل ذلك يلغي أن الفلسفة هي جزء من الأيديولوجيا؟ لا، لكن ليس بالمعنى المباشر، وإذا فصلنا الفلسفة إلى: منهج، مقولات، وتصورات، فإنّ منهجية مجمل الفكر واحدة (وهو ما أشرت إليه في الفقرة السابقة)، وبالتالي فإنّ المنهجية في الفلسفة هي ذاتها، والتي أنتجت مختلف أشكال الفكر، لكنها مصاغة بشكل منطقي، وقيمتها تكمن في إنتاجها للأشكال الأخرى (وهنا الشكل الديني)، لتبلور عبرها الأيديولوجيا. أما المقولات فهي الصياغة المجرّدة للبنى المنطقية، وهي عنصر في المنهجية. وإذا تناولنا التصوّرات فسنجدها الأكثر قرباً من التصورات في أشكال الفكر الأخرى، لأنها تخصّ الكون والحياة. ولقد أشرت للاتفاق الجوهري بين الفلسفة والدين، في مسألة الفاعل الأوّل، لكن الاختلاف يتحدّد في آليات فعله (البنى المنطقية في الفلسفة، الطابع الأسطوري – الشعري – في الدين). على ضوء ذلك، يمكن تأكيد أن التراث هو الأيديولوجيا السائدة في مرحلة ماضية. هو أيديولوجيا تحتاج إلى فحص ونقد لوعي الماضي، لكن أيضاً لأنها فاعل (بشكل ما) في وعي الناس راهناً. وبالتالي فإن تناول التراث له منحيان: وعي الناس، والتاريخية، الأوّل: يتعلق بالفكر الديني، الذي تضادّ مع الواقع، مما يفرض تحقُّق عملية «تكييف» بدأت منذ عصر النهضة العربية، حيث تبلور اتجاه تنويريّ من داخل هذا الفكر (وتناول هذه المسألة يحتاج إلى ملاحظات إضافية)، والثاني: يتعلق بدراسة هذا الفكر بمجمله في إطاره التاريخي من جهة، وفي علاقته بالفكر الأوروبي الحديث من جهة أخرى، فهو أبو ذاك الفكر، ولا يمكننا فهم نشوء العقلانية الحديثة دون فهم علاقتها بالعقلانية القديمة التي نشأت في الشرق، فهي المفاصل الضروري والمطوّر للعقلانية اليونانية. 3ـ الجوهر الأيديولوجي، الذي أشرت إليه، انتهى بانتهاء العصر الذي كانت فيه الزراعة هي وسيلة الإنتاج الأساسية، أصبح متخلفاً عن الواقع الذي فرضه التطوّر الرأسمالي (والصناعي تحديداً). واستمرار هذا الجوهر عندنا (استمرار الأيديولوجيا الدينية عموماً) يشير إلى أن الطابع الزراعي لازال قائماً (وهذه إشكالية التخلف)، رغم التطوّر الذي تحقّق خلال العقود الماضية. ورغم تغلغل الفكر الحديث. ولهذا سنلاحظ أن التضاد نشأ بين الأيديولوجيا القديمة والفكر الحديث، ولم يتصاعد دور الأيديولوجيا القديمة إلا بعد تفكّك الفكر الحديث، ولهذه الواقعة أهمية، لأنها تشير إلى أن هذه الأيديولوجيا «حلّت» محلّ الفكر الحديث المنهزم، رغم أنّ التطوّر في العقود الأخيرة حدّ من الطابع الزراعي (وإن لمصلحة طابع مدينيّ مشوّه). إن انهيار الفاعل الاجتماعي (الثقافي والسياسي) الحديث، دفع الفئات المأزومة للتعبير عن سخطها في إطار وعيها (التقليدي ). إن انتهاء دور القوى الحديثة الصراعي، وتراجع دورها في التعبير عن الهوية القومية، أسّس لأن تملأ الأيديولوجيا القديمة الفراغ (وفي إحلال الهوية الإسلامية، وفي الصراع)، وهنا نستطيع تفسير «نهوض» الأيديولوجيا القديمة، انطلاقاً من وعي المشكلات الواقعية، وليس بـ«الهروب» إلى الماضي. لكن الارتقاء، وتجاوز التخليف يفرضان تأسيس أيديولوجيا حديثة وعقلانية، مطابقة للواقع الراهن، وليس باستعادة الماضي، أو تحديث «الأيديولوجيا القديمة”، أو التوافق معها بتأسيس توليفة مشوهة. بمعنى أن ما هو ضروري يتمثل في النقد الجذري للأفكار الحديثة التي انتشرت في الوطن العربي منذ بداية القرن العشرين، ولا يتحقّق ذلك إلا بوعي أعمق للفكر الأوروبي الحديث، ووعي منهجياته العقلانية والنقدية، من أجل وعي الواقع وعياً حقيقياً، وتحديد الحلم الممكن، ومن ثمّ تحديد آليات تحقّقه. لكن ماذا تفيدنا العودة إلى التراث؟ وإلى العقلانية الرشدية (حسب دعوة الجابري)؟ لقد أشرت لمسألتين، الأولى: تاريخية تتعلّق بصيرورة تطوّر الفكر البشري، وموقع الفلسفة الكلاسيكية العربية في هذه الصيرورة، والثانية: وعي الشعب، التقليدي والمستمد من الماضي، رغم أنه شكْل مبسط ومختزل (وربما مشوّه) من الأيديولوجيا القديمة، بمعنى أنه ليس هي، وكل مطابقة تقود إلى خطأ في التحديد، لأنه وعي يفتقد لعناصر أساسية فيها. هنا، ولتحديد الإشكالية بدقة نعود إلى مسألة الشكل والمضمون، ونحن نتناول الإمكانات التي يقدمها التراث في تحديث الفكر العربي (وهي دعوة الجابري)، حيث من الضروري إهمال المضمون الذي عبّر عنه الفكر العربي الإسلامي، ليبقى الشكل، وتحديداً في الفلسفة. فهل تفيد، مثلاً، عقلانية ابن رشد في عقلنة الفكر العربي الحديث؟ إذا كانت المسألة تتعلق بمنطق أرسطو وشروح ابن رشد عليه، فقد أصبح جزءاً من الماضي، لهذا يستند الجابري إلى لالاند وشتراوس وماركس وغرامشي، وليس إلى أرسطو وابن رشد. بمعنى أن التطوّر الفلسفي في العصر الحديث قد قطع معها (وإن تضمّن مقولاتها أو ما هو حقيقي منها )، أما مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة، فإن التطوّر الحديث قد تجاوزها، ولم تعد مشكلة قائمة. والعودة إلى «توفيق» ابن رشد لا يقود إلى عقلانية، في الوقت الراهن، بل يؤكّد اللاعقلانية حيث أنها تقوم على سلطة الميتافيزيقا (الفاعل الأوّل)، بينما أسقط التطوّر الحديث الميتافيزيقا من أساسها، وأسّس لسلطة العقل. ولا شك في أنها يمكن أن تكون مرتكزاً لتأكيد العقلانية الحديثة، في الإطارات التي تسود فيها الأيديولوجيا القديمة، لكنها لا تشكّل بأيّ حال من الأحوال مرتكزاً لعقلانية الفكر، بل أنها مرتكز لا عقلانيته. بمعنى أن تناول الفلسفة العربية الإسلامية يمكن أن يسقط الأحادية التي تطرح فيها الأيديولوجيا القديمة، وهو الأمر الذي يسهّل قبول سلطة العقل، وبالتالي يضعف مقاومة الأيديولوجيا القديمة للفكر الحديث (بمعنى أن الهدف تكتيكي هنا لأنه يتعلق بإعادة صياغة الوعي الشعبي، وليس بصياغة الفكر ). لقد «رُحِّل» ما هو حقيقي في فلسفة ابن رشد إلى الفكر الأوروبي الحديث، وأصبح جزءاً منه. أي إنه دخل «كجزء عضويّ» في صياغة الفكر الحديث. وهذا الفكر هو «النقطة الأعلى» في صيرورة التطوّر الفكري (الفلسفي)، لهذا لا يمكن أن تضيف العودة إلى ابن رشد شيئاً فيه، سوى في نقطة واحدة تتمثل في التأكيد على أن الفكر الحديث هو «الابن الشرعي» للفلسفة العربية الإسلامية، أما تجاهل هذه الصيرورة والعودة إلى ابن رشد، فلا تقود سوى إلى تكريس اللاعقلانية، أي «مواجهة» العقلانية الحديثة بعقلانية عتيقة. 4ـ فكرة «تبيئة» الفكر شائعة، وتتخذ أحياناً شكلاً هزلياً، وربما كان الجابري يهدف إلى ذلك، لهذا يعلي من قيمة عقلانية ابن رشد، وكأن الهدف هو القول إنّ لدينا «عقلانيتنا» ولا نحتاج عقلانية أوروبا، أو التأكيد على العقلانية الحديثة عبر دمجها بعقلانية ابن رشد. إن مسألة «الخصوصية» (والهوية) تلعب دوراً مهماً في هذا المجال، وكأن العجز عن «استيعاب» العقلانية الحديثة نابع من «الخصوصية» بالتحديد، وأرى أن في ذلك ابتسارا فظّا، يمكن أن تكون القطيعة التي حدثت في التطوّر التاريخي لعبت دوراً في هذا العجز، لأن الانهيار الذي حدث في التاريخ العربي، أدّى إلى نشوء وعي بسيط وأسطوريّ وساذج، مما أفضى إلى غياب «اللحظة الرشدية» (وكل التطور الفلسفي والعلمي السابق لها). وهذه القطيعة في صيرورة الوعي، جعلت إمكانات استيعاب الفكر الحديث أمراً صعباً، لهذا تحوّل إلى «هزل» حينما طرح في الوطن العربي، لكن من غير الممكن تعميم هذه المسألة أولاً، وكذلك يجب ملاحظة التطوّر في الوعي، والذي تحقق في العقود الماضية، ثانياً. وربما كان البحث في صيرورة التطور الفكري في إطاره التاريخي، يسهم في ردم هذه الهوّة، ولاشك في أن دراسة الفكر العربي الإسلامي (وخصوصاً الفلسفة العربية الإسلامية)، وقبله الفكر اليوناني، ومن ثم دراسة الفكر الحديث هام وضروري في الوقت نفسه. لكن، التأكيد على الدراسة شيء وصياغة تصوّرات «مختلطة» شيء آخر. فالمسألة لا تتعلق في إعادة طرح المشكلات القديمة (مثلاً العلاقة بين العقل والنقل، الفلسفة والدين)، بل تتعلق في تحديد تاريخية الفكر، كأرضية للبحث في مشكلاته الحديثة. المسألة اليوم تتعلق، مثلاُ، بعلاقة الدين بالدولة، وصيغة ابن رشد تقدّم جواباً متخلفاً، لأنها تساوق بينهما في إطار الميتافيزيقا، وفي الدولة في إطار الدين، والديمقراطية التي هي مسألة راهنة تتعلق بدور البشر السياسي لا يمكن مقاربتها بالشورى، وحق المواطنة لا يتوافق ومفهوم الرعية، ولا يتوافق ومفهوم الملل، والمجتمع الصناعي (أو الذي ينزع نحو الصناعة) لا يتوافق ومفاهيم مجتمع زراعي، والعلم الحديث أوضح أن كثيراً من الأجوبة القديمة هي أسطورية. في إطار الظرف الراهن، حيث ترسّخت الأفكار الحديثة (بغضّ النظر عن نقدنا لها) كما ترسّخت بنى حديثة، تبدو العودة إلى «توليفة» ابن رشد ردّة، لأنّ المشكلة المطروحة ليست علاقة العقل والنقل في إطار الدين، ولا علاقة الفلسفة بالدين في إطار الميتافيزيقا، بل علاقة العقلانية الحديثة بالميتافيزيقا، وعلاقة الدين بالسياسة، وبالتالي فإن العودة إلى «توليفة» ابن رشد تعني الإقرار بهيمنة الميتافيزيقا (في الفكر) والدين (في السياسة). وهذه لاعقلانية مفرطة، لا تختلف كثيراً عما يدعو له الفكر الديني (من هنا نفهم التقارب). إننا بحاجة للتأكيد على الصيرورة التي خضعت لها فكرة ابن رشد والتي أفضت إلى نفيها لمصلحة تركيب أعلى، وأقصد العلمانية بالتحديد. لتبدو، بالتالي، الدعوة إلى «تبيئة» العقلانية الحديثة، وكأنها تأسيس لسلفية «حديثة»، أي الإغراق في اللاعقلانية. ولقد لمست سابقاً الطابع «السلفي» في فهم الجابري لـ«تكوين العقل العربي». فهو في أساس تقسيمه «العقل العربي» إلى: بياني وعرفاني وبرهاني. ولتحقيق ذلك خلط بين الشكل والمضمون، بين المنهجية (التي هي واحدة) وشكل التعبير عنها (وهو بالضرورة متعدِّد)، وهو هنا لا يرقى إلى رؤية ابن رشد، الذي أكد، كما أشرت، على واحدية الحقيقة، وتعدّد أشكال التعبير عنها، لهذا فإن القول بـ «عقل بياني»، وآخر «عرفاني» وثالث «برهاني». يشير إلى الشكل ربما، لكنه لا يشير إلى المنهجية، وهنا نلمس اختلال مفهوم الجابري حول العقل. واستخدامه لـ«لالاند» في تقسيمه العقل إلى: «عقل مكوِّن» و«عقل مكوَّن»، لم يفضِ به إلى تحديد منهجي لمفهومه للعقل، بل ساعده على تشويه مفهوم العقل، حيث أحلّ «العقل المكوَّن» (منتوج «العقل») محل «العقل المكوِّن» (أي المنهجية). بمعنى أنه أحلّ الشكل محلّ المضمون، ويمكن القول أنه أحلّ الأيديولوجيا محلّ المنطق، وإشارة جورج طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) حول اجتزاء النصوص وتحويرها يصبّ في هذا المنحى. إن «سلفية» تكمن في أعماق الجابري، توجّه بحثه. ولا شك في أن مفهوم الابستمولوجيا ملتبس لديه، فهو أحياناً المنهج (الطريقة) وهو أحياناً «العقل المكوَّن» (أي منتوج العقل)، وهو أحياناً ثالثة انسجام (أو عدم انسجام) المنهج مع منتوجاته (مقدمة كتاب مقدمة العقل العربي)، وهو في بحثه ينطلق من أنها «العقل المكوَّن». أي الأفكار (التصوّرات). كما أن المنهجية التي يستند إليها، والمعادة إلى لالاند، شتراوس، ماركس، غرامشي. تبدو غير متسقة وخاضعة لحاجاته الأيديولوجية، وهي بالتالي منهجية مفككة. وكل ذلك يوضّح سيطرة الأيديولوجي وليس المعرفي. وهنا نلمس المعنى الدقيق لـ«الخصوصية»، حيث أنها تعني الإغراق في الأيديولوجيا القديمة، لكن في «شكل» حديث. ونلمس هنا أن الجابري يبلور فكراً مناقضاً لفكر عصر النهضة العربية، حيث كان «الشكل» القديم إطاراً لاستيعاب الفكر الحديث. آنذاك كانت الأيديولوجيا القديمة تمهّد الطريق لتغلغل الفكر الحديث. أم اليوم فإن الفكر «الحديث» يمهّد الطريق للأيديولوجيا القديمة لكي تنتصر. إن إشكالية الفكر الحديث التي أفضت إلى تقهقره، أدت إلى ميل العديد من المثقفين إلى تأسيس «توليفة»، هي ـ في جوهرها ـ تحقيق التوافق مع الأيديولوجيا القديمة، وأعتقد أن هذا الهاجس كان في ذهن الجابري وهو يؤسس لـ«نقد العقل العربي». بمعنى أن الفكر الحديث بدلاً من أن يوجه النقد لـ«ذاته». من أجل تحقيق إعادة تأسيس، تعمّق بنيته، «هرب» إلى «التوليف»، لقد فرض «انهيار» الفكر الحديث و«تصاعد» الأيديولوجيا القديمة، استحضار «عقلانية ابن رشد»، وبالتحديد صيغته المتعلقة بالعلاقة بين الفلسفة والدين. لكن إذا كانت الصيغة، زمن ابن رشد، تعبّر عن تقدّم وعقلانية، فإنها اليوم تنقلب إلى لاعقلانية، لأن التطوّر التاريخي (في الواقع وفي الفكر) قد تجاوزها، ولأن المطروح اليوم ليس المساوقة بينهما في إطار سلطة الميتافيزيقا، بل يتمثل في انتصار سلطة العقل، أو سلطة الميتافيزيقا، والدولة المدنية أو الدولة الدينية، القانون الوضعي أو الشريعة، «الإيغال» في التحديث أو هيمنة سلطة الماضي. وصيغة ابن رشد (في شكلها الفلسفي أو في شكلها الديني) تقوم على الميتافيزيقا (سلطة الفاعل الأول)، وهي في الوضع الراهن تعبّر عن جوهر الأيديولوجيا القديمة، وأن كانت تسمح بـ«التحديث» ففي الشكل تحديداً، وبالتالي فإن «استلهام» لحظة ابن رشد يفرض بالضرورة تجاوزها، بالتأكيد على سلطة العقل، والعلمنة، الأمر الذي يعني: إلغاء دور الدين كأيديولوجيا (وبالتالي كسياسة)، وتأكيده كمعتقد. 5ـ هل أقسو على د. الجابري؟ ربما، لكن «منطقه» يفضي بالضرورة إلى ما أشرت إليه، وإن كان لا يقصد، ربما، ذلك. كنت قدّمت تقييماً إيجابياً لمشروعه، ورأيت أنه يقدّم ما هو أعمق مما قدّمه بعض الماركسيين في تناول التراث (د. طيب تيزيني، حسين مروّة)، ولقد أبديت ملاحظات عديدة عما كتب (تعليق على كتابه «نحن والتراث» ), ولا زلت أعتقد أنه حاول تجاوز مشكلات البحث في التراث، لكن مجمل مشروعه «نقد العقل العربي». كشف عن «الكامن» الأيديولوجي فيه، والذي أبان عن لا عقلانية مفرطة، حيث الراهن يستحضر السالف لكي يحل مشكلاته عبره، وهنا جذر اللاعقلانية. لقد أشرت إلى أن صيغة ابن رشد تنقلب في الراهن إلى نقيضها، أي تكريس سلطة الأيديولوجيا القديمة، وإن عقلانيته ستبدو لاعقلانية إزاء التطوّر الفكري الحديث، وبالتالي لا يمكن مواجهة الأيديولوجيا القديمة، المنبعثة راهناً، إلا عبر تعميق الفكر الحديث، هذا في المستوى النظري، وتطوير فعله الواقعي، لكي يستقطب الأساس الاجتماعي الذي تستند إليه تلك الأيديولوجيا. لهذا ألمس أن لانبعاث الأيديولوجيا القديمة وانهيار الفكر العربي، جذرا واحدا، هو التحوّلات التي تحقّقت في التكوين الاجتماعي العربي في العقود الماضية، بفعل «التطوّر» الإمبريالي والمضاد للإمبريالية معاً. وبالتالي فإن مهمة المثقف تتحدّد في إعادة تأسيس الفكر، انطلاقاً من وعي أعمق بالواقع. ولن يتحقق ذلك إلا عبر تحقيق التطوّر في الرؤية (المنهجية/ الطريقة) من جهة، وإعادة تأسيس الفكر، على ضوء ذلك، وانطلاقاً من وعي أعمق بالواقع، يفضي إلى تبلور تصوّر حقيقي عن الواقع، ومشكلاته، وآليات تحويله من جهة أخرى.