تطوير البنية الفكرية
د. طيب تيزيني
ثمة أمر أصبح مجمعاً عليه في أوساط الباحثين العرب، هو أن مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في العالم العربي تغدو -بكيفية مطردة- بحاجة ملحة للقيام بتطويرها وتحديثها، وفق التغيرات الكبرى والصغرى، التي تجتاح العالم، ومن ضمنه البلدان العربية. لا أتكلم هنا عن ما يحدث على صعيد “البنية التحتية” لتلك المراكز، وإنما عن “البنية الفكرية التأسيسية”، فهذه الأخيرة، ببُعدها هذا المذكور، أي التأسيسي، تقتضي من القائمين على هذه المراكز النظر إلى المسألة على نحوٍ مفتوح دائماً، يداً بيد مع التغيرات المعنية. معظم المراكز العربية تواجه استحقاقاً جديداً ربما دخل حيز الحياة السياسية العامة، على الأقل، نعني التوظيف الدقيق والحِذر، بأقصى حد، لِما يمكن اعتباره حدثاً عالمياً مفصلياً في أفق عربي قد يحمل آفاقا أكثر حركية واستجابة لتغيير عربي جديد وذي بعد استراتيجي إيجابي.
قد يكون القول محتملاً بأن مجيء باراك أوباما رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأميركية، يمثل انعطافاً نحو أحوال جديدة في العالم، وهذا الانعطاف من المحتمل مقارنة أهميته مع ما حدث في مقتبل العِقد ما قبل الأخير من القرن المنصرم، نعني نشأة وبروز النظام العالمي الجديد. فهذا الأخير صدّع النظام السابق، وأحدث من التطورات العسكرية والإيديولوجية والسوسيواقتصادية وغيرها ما جعل العالم يقف، مراراً، على كفِّ عفريت. لقد سُحبت السياسة من مجتمعات كثيرة، لتُستبدل بمعظم أو بكل طرائق العنف والرعب وإمكاناتهما. وما اعتُبر تهمة ألصِقت بالأصولية وحدها، بأنماطها المتعددة التي تحدث عنها مايْسي في كتابه (عودة اللاّم) تعبيراً عن الليبرالية، اتضح أنه -كذلك- تهمة تلتصق بوضوح بالنظام العالمي الجديد (في باكتسان وأفغانستان والعراق خصوصاً). وتفتقت الأزمات الملتهبة هنا وهناك، لتمثّل الأزمة المالية الحالية إحداها وأكبرها منذ أزمة الـ(1929). وازداد الفقر والتهميش، وتفكيك الجذور الإثنية والطائفية وبعثها من جديد بصور غير مسبوقة…إلخ. وظهرت مقولة القطب الواحد الوحيد في العالم تدافع عن وجودها واستمرارها مقولةُ الحروب الاستباقية، ونُضيف إلى ذلك تردّي صورة الولايات المتحدة، وتصدع مصداقيتها، مِمّا أنتج سؤالاً عاماً هو: لماذا لا تحبّ أميركا؟
لن نغرق في تعداد التطورات الرئيسية، التي ارتبطت بنشأة النظام العالمي الجديد، ولكننا نسجل فكرة طرحها أوباما في خطبة استحقاقه الرئاسي، وهي مأخوذة عن الرئيس الأميركي الأسبق إبراهام لنكولن: إن مستقبل أميركا هو في أيدي القوى المستقبلية الحية من الشعب هناك. وأضاف الرئيس الجديد، إن أميركا تحتاج حلماً جديداً يحلمه شعبها، وهو الحرية والعدالة والسلام واحترام كرامة كل البشر والشعوب. ومن ثم، فإن إمكانية إعادة بناء أميركا جديدة هو أمر أصبح ضرورياً ضرورة تاريخية ووجودية، بقدْر ما هو -كذلك- ممكن إذا تلقفته أيدي البيض والسود والسمر وغيرها، ودافعت عنه واحتضنته. وهذا ما أكد عليه الرئيس الجديد، حين أعلن، أننا نعيش مرحلة تاريخية جديدة يمكن أن تجيب عن كل ما علق بالبلد من المشكلات والمصائب.
ها هنا، بالضبط، يغدو السؤال التالي حاسماً: ما دور العرب وما موقفهم في هذا التحول الهائل المحتمل؟ ولا نرى سبباً لإفراج البعض عن ابتسامات تسخر من هذا السؤال، لأنه -هو كذلك- سؤال في الوجود كما في التقدم التاريخي العربي. وكلاهما يحتاج الآخر، العرب بالنسبة إلى أميركا، وهذه بالنسبة إلى العرب. في هذه الوضعية نجد دور مراكز البحوث في غاية الأهمية: إن رصد ما يحدث في العالم نظرياً بحثياً عبر طواقم عالمة تستطيع تقديم ما ينبغي تقديمه، يمثل رصيداً ضخماً في التأسيس لاستراتيجيات وخيارات واحتمالات في ضوء الممكن الأقصى.
بعض “مراكز البحوث” العربية، في حاجة إلى إبداع استراتيجيات قريبة وبعيدة بأيدي طواقم علمية بحثية رفيعة. وهذه المراكز لا يجوز أن تكون نسخاً عن بعضها، بل أن تكون مختلفة متحولة وفق خصوصيات البلد المعني، ولكن مع انجاز نواظم مشتركة فيما بينها يمكن النظر إليها على أنها تجليات لمشروع عربي جديد.
جريدة الاتحاد