تـحــرّكــــات الــكـــائــن الــداخــلـــي
سِحر
I
كنت سابقا عصبي المزاج. ها انا في مسلك جديد: اضع تفاحة على الطاولة، ثم اضعني في هذه التفاحة. يا للسكينة!
يبدو الامر بسيطا. ولكن مضت عشرون سنة وانا احاول راغبا في البدء من هنا. لِمَ لا؟ ربما كنت اخالني مهانا، نظرا الى صغر حجمها وحياتها غير الشفافة والبطيئة. وقلما تكون افكار الطبقة السفلية جميلة.
وعليه، بدأتُ بشكل آخر واتحدتُ بنهر الأيسكو.
الأيسكو في مدينة أنفير، حيث وجدته عريضا ومهماً ويدفع موجة عظيمة. ويحمل سفن الضفة العليا التي تأتيه. فهو نهر، نهر حقيقي.
لقد صممتُ على ان اتّحد به. كنت امكث على الرصيف كل ساعات النهار. لكني كنت أتوزع في مناظر عديدة وغير مجدية.
ثم، على رغمي، كنت انظر الى النساء من وقت الى آخر، وهذا امر لا يسمح به نهر، ولا تفاحة تسمح به، ولا شيء آخر في الطبيعة.
الأيسكو اذاً، وألف احساس. ما العمل؟ وفجأة، امتنعت عن كل شيء، ووجدتني…. لا اقول في مكانه، لأنه والحق يقال، لم يكن الامر كذلك قط. فهو يجري باستمرار (وهذه صعوبة كبرى) وينزلق نحو هولندا، حيث سيلتقي البحر والعلو الصفر.
واعود الى التفاحة. هنا ايضاً، كانت لي بعض التلمّسات والاختبارات، وهذه قصة طويلة. فمغادرة المكان قلما تسهل، وكذلك تعليلها.
ولكن في كلمة اقول، انه العذاب.
عندما جئت التفاحة، كنت متجمداً.
II
ما إن رأيتها حتى اشتهيتها.
اولا لأغويها، مددتُ سهولاً وسهولا. سهولا ناتئة من عيني كانت تستطيل، طيّعة، محبّبة، مطمئنة.
ومضت افكار السهل لملاقاتها، وبدون أن تعرف، كانت تتنزه فيه، وقد غمرها السرور.
واذ وجدتُها جد مطمئنة، وطئتها.
من ثم، وبعد استراحة قصيرة، عدت الى طبيعتي، وتركت حرابي تعود الى الظهور، واسمالي وأغواري.
وأحسّت ببرد شديد، وبأنها خُدعت تماماً من جهتي.
ومضت بسحنة شاحبة وضامرة، كأنها تعرّضت لعملية سلْب.
III
يشق عليّ تصديق أن ذلك طبيعي ومعروف من الجميع. أحياناً أكون مندمجاً كليا في ذاتي ككرة وحيدة وثقيلة، فيما انا جالس على كرسي، على بعد مترين من مصباح المكتب. لا ألقي عليه ولو نظرة، مع ان عينيّ محملقتان، الا بعد وقت طويل وبصعوبة كبرى.
يتملكني شعور غريب في هذه الشهادة من ناحية الدائرة التي تعزلني.
ويبدو لي ان ما من قنبلة قد تصيبني او حتى صاعقة، لكثرة ما طرحتُ عليّ من أفرشة من كل جانب.
وانه لأمر جيد أن يكون، بكل بساطة، جذر القلق قد دُفن لبعض الوقت.
أحس في هذه اللحظات بجمود كهف.
IV
هذه السنّ الامامية المسوّسة كانت تخزني أبرها عميقا جدا في جذورها. تقريبا تحت الانف، يا للأحساس المقيت!
والسحر اينه؟ لا شك في ذلك. ولكن تجب اذ ذاك الاقامة في كتلة تحت الانف تقريبا. يا له من عدم توازن! ومن جهة اخرى، كنت اتردد مستغرقا في اجراء دراسة عن اللغة.
في اثناء ذلك استيقظ التهاب اذن قديم، كان راقداً منذ سنوات ثلاث، وشرع في ثَقبه الدقيق في عمق اذني.
وعليه، كان يجب ان اقرر. كنت مبللاً كغاطس في الماء. متقلقلاً في وضعي التوازني، كمن يبحث عن وضع آخر.
فأتخلى، والحال هذه، عن الدراسة وأفكر مليا. وفي ثلاث او اربع دقائق، ازيل الم الالتهاب (فقد عرفت طريقه). وبشأن وخز السن، كان يلزمني ضعف ذلك الوقت. فهو كان يشغل مكانا غير مألوف، تحت الانف تقريبا. واخيرا اختفى.
الشيء نفسه دائما. في المرة الاولى الوحيدة يكون مفاجأة. والصعوبة في اكتشاف موضع الالم. فتستجمع قواك، وتتجه نحو ذلك الموضع، باحثا عن وسيلة لتحديده (ذوو الاعصاب الضعيفة يشعرون بالالم في كل مكان لعدم قدرتهم على التركيز)، ثم بقدر ما تحدّ منه، تسدد نظرك اليه بعناية زائدة، حيث يصبح صغيرا، صغيرا، اصغر بعشر مرات من رأس دبوس، وتظل تراقبه بلا تراخ، في انتباه متزايد، دافعا اياه عنك بانشراحك البالغ، حتى لا تعود تحس بأي الم. وهكذا تكون قد اكتشفته تماما.
والآن عليك ان تبقى بلا عناء. فبعد خمس دقائق من الجهد يجب أن تتبعها ساعة ونصف الساعة او ساعتان من الهدوء واللاشعور. اتوجه بالكلام الى الناس وليس الى الاقوياء والموهوبين بنوع خاص، ومن جهة اخرى فهذا “هو زماني”.
(بسبب التهاب الانسجة، يلازمك احساس بالضغط في كتلة صغيرة منعزلة، كمثل ما يلازمك بعد حقنك بسائل مخدر).
V
انا انسان ضعيف جدا (وهذا ما كنته خصوصا)، بحيث ما ان اتوصل الى التوافق ذهنياً مع اي كان، حتى اقع فورا تحت سلطته، ويبتلعني واصبح تابعاً له كلياً، على اني لا احيد عيني عنه محترسا، وبالاحرى مستميتاً لأكون ذاتي دائما فحسب.
بفضل هذا النظام تزداد حظوظي الآن اكثر فأكثر في ألا أتوافق مع اي ذهن كان، وان استطيع التجول بحرية في هذا العالم.
وأحسن من ذلك، فإنني حالما استرجع قواي الى حد ما، اروح اتحدى اقوى الرجال. ما تهمني ارادته؟ لقد اصبحت مفصلاً ودقيقاً بحيث لا يتوصل الى كشفي، ولو كنت قبالته.
ليل الاختفاءات
الليل ليس كالنهار
فهو يملك الكثير من المرونة.
ينفغر فم الانسان. ينقطع اللسان بعنف ويرجع الى العالم المائي سابحا في لذة والاسماك لا تستغرب كيف ظل مرنا. ويلحق به الانسان فاقدا دمه، والماء يعوقه. لا يبصر فيه بوضوح. لا، لا يُبصر بوضوح.
البيض لوجبة المساء اختفى. ابحث عنه في الخارج. وليكن ساخنا. البيض في نَفَس العجل. الى هنا يمضي البيض. هنا يروق له. فهو يتواعد في انفاس العجول.
اذهب وابحث لي عن اعاصيري. اين دخلت اعاصيري؟ لقد اخذ الاعصار امرأته وابناءه. انه يدحرجهم ويمضي بهم. منطلقا في وسط البحار. منطلقا نحو بركان، بركان ذي قنزُعة مضيئة تجذبه بقوة.
الحدقة تجد سلتها المنطادية. اوه! ارجعي! يا سلة المنطاد ارجعي. وتبكي. تتمسك بها. المنطاد لا يحتاج كثيرا الى رؤية سلته. انه يحتاج على الاخص الى ريح قوية.
الذراع التي تشوّر بالوداع. تمضي فجأة، غير مطيعة، الا اشارتها. تتوجه بصعوبة في الليل الحالك. تصطدم. تتمسك باليد. وتدور الذراع مترددة بين الشرق والغرب. وإن يحدث ان تلتقي بالحبيب، فكيف يُستقبل؟ كيف؟ طبعا، سيخاف. ها هو يموت متعلقاً بغصن.
مجموعة من المُدى ارتفعت في جذع الشجرة كما في حجرة مصعد. تتقاذف ثم تطعن الحقل. والمغامرة فيه ضرب من الطيش. والارانب التي اضطرت الى الخروج لسبب او لآخر، ندمت على ذلك بمرارة وتبرّح بها الجروح.
وفي الاخير تعبر الفرشاة الكهربائية. من كل فرد تنتزع شرارات وحيوانات ايضا. واشجارا. تنتزع شرارات اولا. وهذا مفرح. ثم تنتزع اسلاكا مضيئة، اسلاكاً مقطعة، وكذلك الحياة. والرجال المستهدفون لن يكونوا رجالا، ولا الكلاب كلابا، ولا الصفصاف صفصافا. ليس سوى انصاب صغيرة من الرماد والفحم. انصاب صغيرة متفرقة في الحقل، تحجبها الريح تدريجاً في انسيابها.
تحركات الكائن الداخلي
ان مخزن البارود والمتفجرات في الكائن الداخلي لا ينفجر دائما. قد يُظن انه من رمل. ثم فجأة يكون هذا الرمل في الطرف الآخر من العالم، وينهال عبر ترع غريبة سيل القنابل.
وفي الحقيقة، ان من يجهل الغضب يجهل كل شيء. ويجهل المباشر.
ثم يلتقي الغضبُ الصبرَ الملتف على ذاته. وما ان يمس الصبر حتى ينتصب ويمتزج بالغضب، ويهجم كمثل قذيفة مدفع. وينبذ كل ما يصادفه، ويثقبه.
ثم يلتقيان وهما يتدحرجان معا، الثقة برأسها الضخم، والفضائل الاخرى، ويمتد الاختلال الى كل المناطق.
والسرعة تحل مكان الوزن وتحتقره.
كهدب ناتىء في طرف جفن مرتاح في مركزه اكثر من طرف أنف، هكذا هي السرعة في الكائن الداخلي. انها تبدو طبيعية اكثر مما هي قائمة سلحفاة مصابة بالشلل.
وعندما الشبق يجر مراكب حُمّاه في الحقل الشاسع للكائن الداخلي… ماذا هناك؟ ما هي اذا تلك الضبابة المتصاعدة؟
يصارع الكائن الداخلي باستمرار يرقانات كثيرة الحركات. ويجد نفسه فجأة وقد افرغ منه كصرخة، كحطام جرفه اعصار مفاجىء.
لكن الاجتياح يعود ثانية سريعاً من الاسفل، ويُرفع الهدوء لحظة، ويُثقب كما تثقب حبوب القمح التائقة الى النمو غطاء الحقول.
يجب ان ترى الكائن الداخلي في هجومه على الشبق. اي خبّاز ادخل في معجن مثل هاتين اليدين الغليظتين؟ اي خبّاز رأيناه مرهقاً هكذا، بجبل العجين المتحرك، الصاعد، المنهار؟ عجين يبحث عن السقف وسيشقّه.
يتعاون الكائن الداخلي مع الشبق في الفرح وبتحفظ. لكن ذلك المجتاح المنتفخ يلاحقه دائما.
للكائن الداخلي جملة التحركات. ينقضّ بسرعة سهم، ثم يعود كخلد. وله اسبات مرموط لا ينتهي. يا له من كائن متحرك! البحر ابطأ، واحقر من أن يستطيع المقارنة به، البحر ذو الشدق الفتاك.
واخيرا، الخوف المنقض على الانسان المهزوم سلفا.
عندما الخوف، ذو السيلان الزئبقي، يجتاح شخصية انسان، مسكينة، تصبح في الحال اشبه بكيس قديم،
عندما يدخل كسلطان مزيلا من امامه كل شيء، فيجلس ويكشف عن صدره على المقاعد المقلوبة لكل الفضائل،
عندما الخوف، هذا المزيل الوحيد لاحتقان السعادة،
عندما الخوف هذا الجراد البحري الشرس، يمسك النخاع الشوكي بكفيه المعدنيتين…
آه، يا لها من حياة كريهة ابدا!
اليأس والعناء يتحدان. والشمس تتجه من جانب آخر.
نشيد الموت
القدر ذو الجناحين العريضين، القدر بعدما ذهب بي خطأ مع الآخرين الى بلده الفرح، فجأة، وفيما كنت اتنفس اخيرا سعيدا، نسفتني صواريخ صغيرة لامتناهية في الجو، ثم انبثقت مُدى من كل مكان وسددت اليّ طعنات، الى ان سقطتُ على ارض وطني الصلبة، ارضي انا الآن الى الابد.
القدر ذو الجناحين من القش، القدر بعدما رفعني لحظة فوق الضيقات والتحسّرات فجأة انقضت علينا جماعة من ألف شخص مختبئة بفضل شرودي، بغبار جبل عال، جماعة معدّة للقتال حتى الموت من زمان، انقضت علينا فجأة مثل نيزك، وسقطتُ على ارض ماضيَّ الصلبة. ماض حاضر الآن الى الابد.
القدر مرة أخرى، القدر ذو الملاحف الجديدة بعدما تلقّاني بلطف، وفيما كنت ابتسم لكل من حولي، موزعاً كل ما كنت املك، امسك بي لا اعرف ماذا، جاءني من اسفل ومن خلف، وفجأة ترجّحت كبكرة لرفع الاثقال تنفصل، وكانت لي قفزة هائلة، وسقطتُ على ارض مصيري الصلبة، مصيري انا الآن الى الابد.
القدر مرة اخرى، القدر ذو اللسان الزيتي، بعدما غسل جروحي، القدر بعدما أمسك بي وضمني اليه بشكل دائم، كشعرة نتناولها ونجدلها مع شعرنا، فجأة وفيما كان الفرح يغمرني اقبل الموت وقال: “لقد ازف الوقت، هيا”. الموت، الى الابد الموت الآن.
(من مجموعة Plume)
نحو الصفاء
من لا يقبل هذا العالم لا يبن فيه بيتا. إن يبرد، فبدون ان يشعر بالبرد. وإن يشعر بالحر فبدون حرارة. وإن يقطع اشجار بتولة، فكأنه لم يقطع شيئا. لكن اشجار البتولة هناك، على الارض، وهو يتلقى المبلغ المطلوب او بالاحرى لا يتلقى سوى الضربات. يتلقى الضربات كهبة بلا معنى، ويمضي بلا اندهاش.
يشرب الماء بدون أن يشعر بالعطش، وينغرز في الصخر بدون أن يحس بألم.
وإن كُسرت ساقه تحت شاحنة، يحتفظ بمزاجه الطبيعي ويحلم بالسلم، السلم، السلم، الذي يصعب الحصول عليه كثيراً، ويصعب الاحتفاظ به كثيراً، ويحلم بالسلم.
بدون أن يخرج إطلاقاً، العالم مألوف عنده. فهو يعرف البحر جيداً. والبحر دائماً تحته، بحر بلا ماء، ولكن ليس بلا موج، ولا بلا اتساع. وهو يعرف الأنهار. وهي تعبره دائماً، بلا ماء، ولكن ليس بلا تباطؤ، ولا بلا سيول مفاجئة.
أعاصير بلا ريح تهيج في ذاته. جمود الارض كذلك جموده. تجتازه دروب، عربات، وقطعان بلا نهاية، وتُنضج فيه شجرة ضخمة بدون سلّولوز ثمرة مرة، مرة غالباً، ونادراً حلوة.
وهكذا على انفراد، دائماً وحده في الموعد، بدون أن يمسك أبداً بيد في يديه، ويحلم، والشصّ في القلب، بالسلم، السلم اللعين المؤلم، سلمي، وبالسلم الذي يقال إنه فوق هذا السلم.
خِرقة
قلّما صادفتُ في حياتي أناساً كانوا في حاجة مثلي الى إعادة نفخهم كل لحظة.
لا أُدعى قط الى اجتماع. فبعد ساعة او ساعتين (حيث أبدو في هيئة تعادل الوسط على الاقل)، ها أنا أتجعّد. وألتوي، وأختفي تقريباً، وتتسطّح سترتي على بنطلوني المسطّح.
وينهمك إذذاك الحاضرون بألعابهم الاجتماعية. ويُبحث عما هو ضروري. فيخترقني أحدهم بحربته، او بالاحرى يستعمل سيفاً (توجد يا للاسف! مجموعات من الاسلحة في كل الشقق). ويوجّه اليّ آخر بفرح ضربات قاصمة بقنينة خمر “موزيل”، او بإحدى قناني “شيانتي” الكبيرة ذات الليترين، بحسب المتوافر؛ وتنهال عليّ امرأة حسناء ضرباً بكعب حذائها العالي؛ وينطلق ضحكها مزماريّ النغم، والحضور يتابعونها باهتمام، فيما كان فستانها يتمايل ناعماً. الكل طافح حبوراً.
غير أني أعيد نفخي. وأنظّف بسرعة ثيابي بيدي، وأمضي مستاء. وينفجر الضحك خلف الباب.
على أمثالي أن يعيشوا في نُسك، فهذا أفضل لهم.
الليل يهتزّ
I
فجأة يُظهر زجاج النافذة في الغرفة الهادئة بُقعة.
إذذاك يصرخ لحاف الريش، يصرخ ويقفز، ثم يسيل الدم. وتبتلّ الملاحف، وكل شيء.
وتنفتح الخزانة بعنف؛ يخرج منها ميت ويسقط. طبعاً ليس هذا بمُفرح.
ولكن من الممتع أن تضرب ابن آوى. ثم يجب أن تُسمّره على بيانو. يجب ذلك حتماً. بعدئذ تمضي. يمكنك ايضاً أن تسمّره على إناء. لكن ذلك صعب. الإناء لا يتحمّل. فذلك صعب. يا للخسارة!
ويضيّق مصراع على آخر ولا يتركه. وينغلق باب الخزانة.
آنذاك تهرب، ويهرب الألوف، من كل جهة، سباحة؛ كانوا كثيرين جداً!
يا نجمة الاجسام البيضاء، التي تشعّ دائماً، تشعّ…
II
تحت سقف غرفتي الصغيرة المنخفض، يقبع ليلي، هوّة عميقة.
أُقذَف دائماً آلاف الامتار عمقاً، في هوّة تحتي فائقة العمق، وأتمسك بصعوبة كبيرة بالتضاريس، منهكاً، بدون وعي، بدون تفحّص، حائراً بين الاشمئزاز والعناد؛ ويتلاحق الصعود – النملي في بطء لامتناهٍ. والتضاريس التي تقل أكثر فأكثر، تكاد تظهر على الجدار العمودي. وتلتحم الهوّة، والليل والرعب بازدياد في لحمة أبدية.
III
… وظهرن متقشرات في هدوء من عوارض السقف الخشبية… ظهرت قطرة ماء، كبيرة كبيضة زينية، وسقطت في بطء، قطرة ماء سقطت، ضخمة البطن، على الارضية.
وظهرت قطرة ماء جديدة، رحم لامعة، وإن تكن معتمة، وسقطت. كانت امرأة. قامت بمجهود غريب، وشاق للغاية بدون أي شك، ولم تتوصل الى شيء.
وظهرت قطرة ماء ثالثة، وتضخمت، وسقطت.
والمرأة التي تشكلت منها، وتمدّدت للتو، قامت ببعض المجهود… وانقلبت.
على الفور. ثم توقفت كل حركة.
طويلتين ساقاها كانتا، طويلتين. كانت تبدو راقصة.
وظهرت مجدداً قطرة ماء وتضخمت دمّلاً رهيباً لحياة نشأت بسرعة مفرطة، وسقطت.
كانت الاجساد تتكوّم، مطّاطاً حياً، سوى أنها بشرية تماماً الاّ من حيث التمدّد.
ثم كفّت قطرات الماء عن الجريان. فاستلقيتُ قرب كثرة من النساء الصغيرات، مخبّل الذهن، متوجعاً، لا أفكر فيهن ولا في نفسي، ولكن في مرارة الحياة اليومية.
IV
كنا دائماً ثلاثة في هذا القادس. اثنان للمحادثة وأنا للتجديف.
كم هو شاقُّ الخبز اليومي، شاقُّ كسبه، وشاقٌّ ابتياعه!
هذان الثرثاران هما كل سلواي. ولكن يشق عليّ في الوقت نفسه أن أراهما يأكلان خبزي.
إنهما يتكلمان طول الوقت. اذا لم يتكلما طول الوقت، فمن المؤكد أن شُسُوع المحيط وهزيز العواصف، كما يقولان، قد يتغلبان على جرأتي وقواي.
الاّ أن العمل وحيداً على إبحار مركب بمجذافين، ليس بالامر المريح. والماء جهد عبثاً في الا يُظهر غير القليل من المقاومة… وقد أظهر ذلك. لا بأس. أظهره، وبخاصة ثمة أيام…
آه! كم أود أن أتخلّى بطيبة خاطر عن مجذافي.
لكنهما يراقبانني، إذ ليس يشغلهما غير ذلك، وغير الثرثرة وأكل خبزي، حصتي الصغيرة التي سبق أن قُرضت عشر مرات.
V
يا عزيزاتي الصغيرات، يمكنكن قول ما تشأن، فلست أنا بمنزعج. أمس ايضاً نزعت ذراع أحد عناصر السلطة (ربما ذراع عريف. لست أكيداً. نزعتها بحُميّا. ورميتها كذلك).
ملاحفي لم تكن قط بيضاء. ولحسن الحظ أن الدم يجفّ بسرعة. والاّ كيف سأنام؟
ذراعاي التائهتان تغوصان من كل جهة، في بطون، في صدور، في أعضاء يقال إنها خفية (خفية بالنسبة الى البعض!).
ذراعاي تجلبان دائماً معهما، ذراعاي النشيطتان الثملتان، لا أعرف ماذا دائماً، أقطعة كبد أم أجزاء من رئة، أخلط كل شيء، شرط أن يكون حاراً، ورطباً، ودامياً.
وفي الاساس، إن ما أحب هو العثور على الندى، العذب جداً، والمهدئ جداً.
إن ذراعاً بيضاء، طازجة، مغطاة بعناية بجلد صقيل، ليست بالامر السيئ. لكن أظفاري، وأسناني، وفضولي النهم، والقليل مما يمكنني تعوّده من سطحي… وأخيراً، هذه هي الحال. أحدهم ذهب لأجل قبلة فجلب معه رأساً.
صلوا لأجله، فهو يكلب لأجلكم.
(من مجموعة: La Nuit Remue)
بضعة أيام من حياتي في ضيافة الحشرات
مع أنها حشرات، لا بشر، فقد قرّرت رأساً أنه لا يمكنني أن أبقى وحيداً وقدّمت لي يرقانة بحجمي أستطيع أن أمضي الليل معها.
إنها يرقانات أنثوية، من غير المتوقع طبعاً، ولكن كل شيء كان غير متوقع.
كان جلدها مخملياً، من اللون الاخضر – المزرقّ الأجمل، ليمونياً من الأسفل، لكنه بارد ومُشعر.
وتأملت مفتوناً في ذلك الصف المتموّج والمنحرف للأبدان السمينة، وهو يتقدم بجلال نحوي، ملكة وموكباً.
يا لها من رفقة مخيفة!
ولكن عندما أوشكت اليرقانة أن تلمسني، شعرت كمن يسير الى المقصلة، الاّ أني، بجسم راضٍ، مهزوم، ومبهور، استسلمت.
وتشكلت بعد ذاك عشرون بؤرة كثيرة العضل وشرهة، محيطة بكياني المرهق.
وهبّت عاصفة، عاصفة طويلة، تلك الليلة.
وفي الصباح، عندما أفقتُ تعباً وفي الوقت عينه مكفياً كما لم أكنه في حياتي، بدا لي أني لا أجرؤ البتة على رفع بصري الى أيٍّ كان، وأني في الوقت عينه أستطيع مذذاك، وقد بلغت صميم الاشياء أخيراً، أن أواجه الطبيعة جمعاء، والحيوانات، والارض.
الواقع أن الاستقبال الذي أُجري لي آنذاك، كان طبيعياً وعفوياً أكثر مما كانه البارحة.
وما كانت الحشرات أبدته نحوي من انزعاج وضبط نفس، عائد اذاً الى حذري وتحفظي. يا للتحفظ الجميل! أي رجل في تاريخ الانسانية أظهر أقل من ذلك؟
غير أن الحياة استمرت، تُلهيني الايام عن الليالي الفاتنة.
وأتى صباح من الغيظ وثورة الاعصاب فـ… أمسكتُ بيرقانتي وقصفتُ رقبتها (ليس بسهولة، فهي ضخمة وعضلة!) وما إن كادت تموت، ولا تزال ترتعش وتشكّل خطراً، بحيث قد تعض ارتكاسياً، حتى شققتُ رأسها، ونزعت خِزعة من دماغها.
كانت خِزعة شهية، لا يسعني أن اشبّهها الاّ بلبّ النخيل، لكنها أحلى ومعطرة قليلاً بالونيليا.
ترى، ماذا سيقول الرئيس؟
لقد استعلم ببساطة عما اذا كنت استطيبُتها. وبدا مشغولاً، فقدّم لي عوضاً عنها نصف دزينة قائلاً، كمن يشاء أن يُطاع: “اختر الأبكار فقط للأكل”. لأي سبب، لا أعلم. ورتّب لي ست يرقانات لهذا الغرض، وتصرفتُ أنا بواحدة لهذيان الليل.
وقد حاولت مع ذلك أن أتمالك نفسي، فلا آكل الا في فترات طويلة، مقاوماً العادة الناشئة المخادعة.
يبدو أن ثمة الكثير من هذه اليرقانات ذات الشق الفَرجي. ظاهرة مدهشة. في المساء أراها. في الليل أسمعها. وكان الضغط المستمر على سطحي، يُنبئني عن ثقل العبور الساحق فوقي لتلك المجموعات الحيوانية التي تعذبها الشهوة…
وقمنا ايضاً برحلة صيد للرجال. يا للمنحطين!
في أثناء الطيران، وأنا مفرشخ على كوسل حشرة بأربعة أجنحة، كنت أقطع الرؤوس، بينما كانوا يسعون بخطى حليمة، منتظمة، ومضحكة، هي من سماتهم، وتنمّ عن الخبث.
وكان أبناؤهم أطيب مذاقاً. ولم يكن علينا سوى أن ننخفض قليلاً لنمسك بهم، وبدون أي جهد. وبأدنى رشاقة ايضاً. كانوا قصاراً بطاناً، بدون اي فطنة، لا يملكون سلاحاً، وحتى لو كانوا يملكون، لا يستطيعون استعماله.
وقريباً من منطقتنا، هناك منطقة الزنابير الماردة التي كانت تشكّل خطراً.
وذات يوم هجمت عليّ نمسية هائلة، وتعذّر عليّ تلافي مثقبها الذي شاءت جزماً أن تُغرزه في صلبي لتُفرغ فيه بيوضها الوافرة التي عليّ تالياً أن أغذّي من جسدي في صبر طوال أشهر، يرقانات مقزّزة ومسيطرة.
يمكن الظن أني قد تخبطت. لكن وإن كنت قليل التمرّس باستعمال السيف، وايضاً العصا بنوع أقل، وهي سلاحي الوحيد حالياً، فقد تعلمت ثانية في بضع دقائق القليل مما كنت تعلمته من خدع، والتفافات سريعة، وتجنّب الضربات. لا ريب أن قبضتي كانت ستلتوي من التعب، لو لم يُعطني الخطر عضلات فولاذية واطمئناناً مذهلاً… وباستمرار كانت السماء تبصق عليّ ثانية ذلك العفريت ذا الكوسل الاسود النشط جداً.
وأخيراً، هجمت تلك الأم العنيدة تطارد الجميع في طيران مفاجئ، وخطط مختلفة، مخلية أفقي وحياتي من كل تهديد مرعب ¶
(من مجموعة: Face aux verrous)
هنري ميشو
(ترجمة هنري فريد صعب)