في الشرعية الفلسطينية؟
أمجد ناصر
السلطة الفلسطينية جاءت من ساحة النضال. هذا هو الوجه الذي تنحصر فيه شرعيتها. عدا ذلك لا شيء. حتى ‘صناديق الاقتراع’ لن تفعل. ففي حالةٍ مثل فلسطين لصناديق الاقتراع وجهة واحدة لا ينبغي أن تخطئها: انجاز الاستقلال بكل السبل الممكنة. وهذه تعني، في الحالة الفلسطينية اليوم، الطرق التالية: المفاوضات أو الانتفاض المدني أو البندقية. المفاوضات نعرف، بعد نحو عقدين من بدئها، الى أين وصلت. الانتفاض والعصيان المدني مكنا السلطة الفلسطينية من الوجود. البندقية أكدت ‘حالة غزة’ أنها ممكنة بل قابلة للعمل. حصل أن السلطة الفلسطينية القادمة من ساحة النضال اكتفت بالمفاوضات، والمفاوضات التي تؤدي الى مزيد من المفاوضات فيما ما تتفاوض عليه يتآكل، تدريجاً، تحت أسنان البلدوزر وصولاً الى لحظة لا تجد فيها ما تتفاوض عليه، فتفاوض على بقائها الصرف في ‘المقاطعة’. الكلام، الآن، كثير عن ‘الشرعية’ الفلسطينية. يكثر هذا الكلام بعد الحرب الاسرائيلية المجرمة على غزة التي يفترض أنها هزَّت ما قبلها من مواضعات. يعلو صوت القائلين بالشرعية بعد اعلان ارقام المساعدات المالية العربية لاغاثة غزة المنكوبة، فيما لم نسمع صوت ‘الشرعية’ الفلسطينية، كما ينبغي، وغزة تحترق. لم نر، تقريباً، سوى التراشق التافه بالأسباب والعلل. لم نر غير تلك الوجوه الكالحة (القادم بعضها من اليسار، ياسر عبد ربه مثالاً فاضحاً) التي تكاد ترد الجريمة الاسرائيلية الى ‘حماس’. هذه تقريباً هي الشرعية الفلسطينية الآن: رقم حساب مالي لمزيد من الفساد والتفسخ الوطني وادارة الظهر، بالكامل، لسيل من الدم المسفوح على مذبح القضية. علينا أن نشك بكلمة ‘الشرعية’ عندما نرى تلك الوجوه، عندما تلهج بها الادارات الغربية التي سارعت الى ارسال فرقاطات لمنع تهريب الاسلحة الى غزة، عندما سيقوم اولمرت، في القريب العاجل، بتقبيل وجنتيها المترهلتين والتربيت على كتفها المتهدلة.
”’
تصرف اولمرت، الذي خاض حربين فاشلتين فضلا عن كونهما اجراميتين، كأنه يخوض حرباً مع جيش ودولة عندما أوقف اطلاق النار. حرص على أن تكون نبرته انتصارية. ثم ترك الكلام لوزير دفاعه الذي عزف النغمة نفسها. لكن من يدقق في وجهي رجلي الحرب المجرمة على غزة لن يلمح بوارق النصر ولن يرى مخايل أكاليل الغار. الأهداف التي قالا إن حملتهما الاجرامية على غزة قد حققتها لم تحصل. لم تستسلم غزة. صحيح أنها اثخنت بالجراح. صحيح أنها لم تعرف دمارا كهذا من قبل. لكنها، أيضاً، لم تركع أمام أطنان الرصاص المصهور، أو المسبوك. صحيح أنها ترنحت تحت القصف السجادي الذي لم يتوقف، تقريباً، طوال ثلاثة أسابيع لكنها لم تسقط. لم ترفع الراية البيضاء. فأي أهداف حققتها الحملة الاجرامية على غزة إذن؟ نتذكر أن أول الأهداف التي أعلنها طاقم الحرب الاسرائيلي هو تدمير ‘منصات’ اطلاق الصواريخ. ‘منصات’ الصواريخ، على ما يبدو، لم تدمر. نتذكر كذلك أن ثاني الأهداف هو القضاء على سلطة ‘حماس’ والحاق هزيمة كاملة بها. سلطة ‘حماس’، كما هو واضح، لم تتقوض بل أمكن للحركة أن تقول، بعد بدء الانسحاب الاسرائيلي، إنها انتصرت. ما هو غير معلن من أهداف مثل: استعادة ‘قوة الردع’، باعتبارها حجر الزاوية في العقيدة الأمنية الاسرائيلية لم تتحقق كما أرادت. رمت اسرائيل كل ما في جعبتها من أسلحة في الميدان. مارست أقصى قدر من التدمير المنهجي. لكنها، على ما أظن، لم تستطع استعادة قوة الردع التي بدا أنها فقدتها في حربها مع حزب الله في صيف عام 2006. قد تكون فعلت ذلك عربياً. روعت الانظمة وجعلتها تتحسس رؤوسها لكنها لم تستطع أن تفعل ذلك، تماماً، في فصائل المقاومة في غزة ولا في الشارع العربي.
”’
ماذا بقي من أهداف اسرائيلية في الحرب على غزة؟ إعادة السلطة الفلسطينية اليها؟ إن كان هناك أمل بسيط للسلطة في العودة الى غزة، أو حتى في التمتع ببقية شرعية وطنية، فإن أداء أركانها أثناء الحرب قد جعل ذلك في خبر كان. ليست اسرائيل وحدها أكبر الخاسرين في هذه الحرب بالمنظور السياسي والأخلاقي، بل لها شريك كبير خاسر أيضاً: السلطة الفلسطينية (لن نتحدث، هنا، عن النظام العربي الرسمي الذي مزقته هذه الحرب). عرت الحرب الاسرائيلية على غزة سلطة رام الله المهترئة أصلا. أوضحت عجزها أمام شعبها. بينت تبعيتها لمحور عربي ودولي كان ينبغي أن تحرص على أخذ مسافة منه إن لم يكن الابتعاد عنه تماماً. إن كان الفلسطينيون سيحمّلون ‘محور الاعتدال’ مسؤولية عدم التحرك الجدي لنجدة غزة من خلال قمة عربية طارئة فإن انحياز السلطة الصارخ لهذا المحور أطلق رصاصة الرحمة على السلطة أو يكاد. اسرائيل تلطخت، سياساً وأخلاقياً، في هذه الحرب المجرمة التي أوقعت أعداداً هائلة من الشهداء والجرحى وأحدثت دماراً مرعباً في البنية التحتية المدنية لقطاع غزة المحاصر أصلا، لكن ‘المقاطعة’ فقدت بقايا شرعية وطنية كانت تتحلى بها. لا أعرف ما هو مدى تأثير هذه الحرب على الوحدة الوطنية الفلسطينية المأمولة، ولكني أظن أنه لن يكون ايجابيا. أقصد الوحدة بين جناحي الحركة الوطنية الفلسطينية الكبيرين ‘فتح’ و’حماس’، اللهم إلاَّ إذا نضت حركة ‘فتح’ عن نفسها عباءة السلطة الوهمية التي تتلفع بها. اللهم إلاَّ إذا تخلصت من الانتهازيين والفاسدين والانهزاميين واليساريين المتساقطين الذين يلتفون حول رئيسها. وهذا دونه خرط القتاد. هذا يبدو، في ظل تجذر الانهزام، في قلب الممسكين بزمامها، شبه مستحيل. هناك ما هو أقل جذرية من ذلك: المبادرة اليمنية لرأب الصدع. ولكني اظن أنها لن تتكلل، للأسف، بالنجاح. فنحن نتذكر مصير المبادرة اليمنية السابقة. هناك عمر سليمان الذي يحتكر هذا الملف. ونحن نعرف، أيضاً، أي نوع من الوحدة الوطنية الفلسطينية يريده عمر سليمان!
القدس العربي