قضية فلسطين

ليس في الدم البريء حياد يا ‘بي بي سي’

أمجد ناصر
لم يبق إلاَّ بان كي مون، أو ربما قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع، كي تشعر هيئة الاذاعة البريطانية بفداحة رفضها بث نداء الاغاثة الانساني لسكان غزة. فها هو محمد البرادعي ينضم الى لائحة طويلة من الشخصيات والهيئات التي تدين، تنقد، تقاطع، تستغرب، تتظاهر ضد موقف الهيئة الاعلامية البريطانية الرصينة في خصوص الكارثة التي حلت بغزة. ولحسن الحظ ان الذين أثاروا عاصفة، غير مسبوقة تقريباً، من الانتقادات في وجه الهيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) لعدم بثها النداء الذي أعدته جمعيات خيرية بريطانية لإغاثة غزة ليسوا عرباً. هذه المرة الذين فعلوا ذلك، بالفم الملآن، كانوا مواطنين بريطانيين عاديين، سياسيين رفيعين، صحافيين، رجال كنيسة، جمعيات خيرية إلخ.
كم مرة تعالت شكاوانا من انحياز وسائل الاعلام البريطانية، عموماً، لصالح الموقف الاسرائيلي؟ آلاف المرات. ولكن لم يتغير أداء هذا الاعلام، في الموضوع الفلسطيني، كثيراً. قد يكون تغير في تغطيته لحرب العراق (بعد خراب البصرة) لكنه لم يتزحزح، كثيراً، عن مواقفه ‘التقليدية’ في خصوص الصراع العربي ـ الاسرائيلي. السبب معروف. في الواقع هناك أكثر من سبب ولكن الأبرز هو النفوذ الصهيوني التاريخي في الحياة البريطانية المنسجم، إلى حد كبير، مع مواقف الحكومات البريطانية المتعاقبة، عمالية كانت أم محافظة، في خصوص القضية الفلسطينية.
دعونا نتحلى بشيء من الحس التاريخي. دعونا نتذكر. ‘صنع’ اسرائيل وزرعها ككيان، في قلب العالم العربي، لم يكونا ممكنين لولا بريطانيا. لم يكن ممكناً لهذا السرطان أن ينشب في الجسم العربي لولا الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. اسرائيل، بهذا المعنى، صناعة بريطانية صرف. في لندن وليس في أي عاصمة أخرى صدر ‘الوعد التاريخي’ بقيام دولة اسرائيل. وفي لندن، وليس غيرها، تم التخلي الفاضح عن الفلسطينيين من قبل دولة ‘الانتداب’ المسؤولة، قانونياً، عن مصائرهم. قد يبدو هذا الكلام مجرد استعادة لدرس تاريخي يثوي في الكتب. إنه فعلا كذلك، لكن ليس المقصود منه العودة الى صفحات التاريخ بقدر ما هو محاولة للقول إن هذا ‘التاريخ’ لم يتغير كثيراً على مدى قرن. فالتاريخ، بهذا المعنى، فعل مستمر. ‘الوعد التاريخي’ تتواصل رعايته بلا كلل أو تردد. نحن، فقط، من ينسى التواريخ وكيف تواصل اشتغالها في الواقع. القطائع التاريخية، الفجة، تحصل عندنا، فقط. الخرف ماركتنا المسجلة.

نعرف أن الـ ‘بي بي سي’ تفخر بـ ‘حيادها’ المهني. تلك هي أسطورتها. لكن فصل القمح عن الزوءان، كما يقولون، يظهر حقيقة تلك الاسطورة. قد تكون الـ ‘بي بي سي’ محايدة في تغطياتها البريطانية المحلية: في الصراع السياسي بين ‘المحافظين’ و’العمال’، بين الحكومة والمعارضة، بين الكنيسة والعلمانيين، ذوي الميول الجنسية الطبيعية والمثليين، لكنها ليست كذلك في السياسة الخارجية. وما يهمنا، هنا تحديداً، في موضوع فلسطين. هناك دراسة شهيرة أعدت قبل سنوات في جامعة بريطانية أظهرت أن انحياز التغطية الاعلامية للموضوع الفلسطيني في الـ ‘بي بي سي’ لصالح الموقف الاسرائيلي يتجاوز ثمانين بالمئة من المادة المبثوثة باللغة الانكليزية. ‘الانحياز’، هنا، ليس على الطريقة العربية (نبرة ‘الجزيرة’ مثلا) بل انه أشبه بدس السم في الدسم. نعرف، نحن الذين نشتغل في الاعلام، أن البدء، مثلاً، بخبر عن اطلاق ‘حماس’ صاروخاً على مستوطنة اسرائيلية يعقبه قصف اسرائيلي لغزة هو صنع ترتيب معين في ذهن المستمع (أو المشاهد) للأفعال، بصرف النظر عن السياق التاريخي للأحداث وعما أوقعته صواريخ ‘حماس’ من قتلى أو جرحى في الجانب الاسرائيلي وما أوقعه ‘رد الفعل’ الاسرائيلي في الجانب الفلسطيني. الانطباع الذي يرسخ في ذهن من يتلقى هذا الخبر أن صاروخ ‘حماس’ طال سكاناً مدنيين فيما طال القصف الاسرائيلي مطلقي الصواريخ. لن يعرف المستمع، أو المشاهد، أن المستوطنة الاسرائيلية التي أطلق عليها الصاروخ ليست قانونية (بمعيار الأمم المتحدة) وان اسرائيل، في هذه الحالة، هي كيان محتل، وان ‘الفعل’ الفلسطيني، سواء قامت به حماس أو فتح، هو مقاومة لاحتلال، وانه لا يتناسب، اطلاقاً، مع ‘رد الفعل’. هذه الحقيقة البسيطة لا تلوح في مقدمة الخبر ولا في خلفيته.
لنواصل فحص الخبر المفترض: ‘حماس’ توصف بالتنظيم الاسلامي المتشدد في الخبر ولا تقترن اسرائيل بأي وصف أو نعت. هذا يعني أن دولة ما اسمها اسرائيل تعاني من ويلات التشدد الاسلامي، كما هي الحال في أمكنة عديدة في العالم. التشدد الاسلامي صار يحيل في ذهن المتلقي الغربي، كما نعرف، الى ‘القاعدة’ أو من هم على شاكلتها. لا تصف الـ ‘بي بي سي’ حركة ‘حماس’ بالارهاب. لا تفعل ذلك مباشرة. ولكن عندما تقرنها، كل مرة يأتي ذكرها، في خبر من الأخبار، بالتشدد الاسلامي فهي تحيل أفعالها، بطريقة غير مباشرة، الى لائحة الارهاب. خبر كهذا يشتغل، كما نعلم، على زرع الموقف في اللاوعي. في البنية النفسية العميقة لمن يستمع إليه أو يقرأه. أي ‘رد فعل’ بعد ذلك سيكون مبرراً أو مفهوماً. الأمر يتعلق، إذن، بنوع من مكافحة الارهاب. وهذه بعد 11 أيلول (سبتمبر) صارت مبررة بدورها.
عدم بث الـ ‘بي بي سي’ نداء اغاثة خيريا لغزة ليس التزاماً بحياد مهني. إنه انحياز، غير مباشر، للعدوان الاجرامي الذي طال مدنيي غزة، المتضررين الفعليين من القصف الاسرائيلي المجنون للبيوت، المدارس، المرافق العامة. هذه ليست حيدة. فليس هناك حياد في حاجة المدنيين إلى الدواء والغذاء والماء والكهرباء. ليس هناك حياد في حاجة الناس الى فتح معابر لمرور مواد الاغاثة. ليس هناك حياد في حاجة المدنيين الى أمكنة ايواء آمنة. لو قامت الـ ‘بي بي سي’ بإحصاء بسيط لعدد القتلى، في الحرب على غزة، لوجدت أن نسبة القتلى الاسرائيليين (ومعظمهم جنود) هي واحد إلى مئة: يعني اسرائيلي واحد مقابل مئة فلسطيني! لا يمكن أن تكون معادلة إزهاق الأرواح هذه، بأي معيار، صحيحة. هناك خطأ ما. هناك ما هو غير ‘مضبوط’ في هذه المعادلة. إنه ليس ‘الافراط’ في استخدام القوة بل في صب جحيم هذه القوة على رؤوس الجميع بلا استثناء. فكيف تلتزم هيئة اذاعة رصينة، محترمة، مهنية، بالحياد حيال هذه المعادلة المختلة؟
A
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى