قضية فلسطين

غـــزة

الطاهر بن جلون
لعل من بين الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية أنها حملتنا على أن ننسى ليس فقط القضية الفلسطينية وإنما أيضا المصير غير المحتمل إنسانيا الذي فرضته إسرائيل على سكان قطاع غزة بسبب إطلاق بعض الصواريخ على أراضيها. أطلق بعض المقاتلين الفلسطينيين صاروخين على إسرائيل في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فكان الرد العقابي الذي لا تتغير أساليبه. تحويل القطاع إلى سجن ينبغي للجميع أن يعاني داخله بل وأن يموت بسبب الأفعال المرتكبة من لدن مقاتلي حماس. يتم التعامل مع البشر كما لو أنهم بهائم من دون شفقة؛ بحيث ان الحصار الذي فرضته الحكومة الإسرائيلية يسبب المجاعة ويمنع المستوصفات القليلة من العمل بشكل طبيعي وتجعل من أي تحرك مستحيلا. عرف 70 في المئة من قطاع غزة انقطاعا متواصلا للكهرباء، ونعلم بأن المستشفيات تحتاج إلى مولدات كهربائية لكي تتمكن من مواجهة الحالات المستعجلة.
تبرز الصور الأطفال وهم يقتاتون من طعام القطط والكلاب وأطباء عاجزين عن مزاولة مهنتهم وأمهات يرزحن كالمجرمات تحت وطأة هذا العزل القاتل. وليست هذه أول مرة تلجأ فيها إسرائيل إلى هذا الأسلوب، وتعمد إلى التجاهل المطبق للاحتجاجات الصادرة عن البرلمان الأوروبي كما حدث مثلا في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) أو تلك الصادرة عن المنظمات الإنسانية التي تناضل من أجل التمكن من إرسال المواد الغذائية أو الأدوية إلى ساكنة معزولة ولا صوت لها. وكما قال المفوض العام لمكتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن ‘غزة على وشك أن تصبح أول بلاد تفرض عليها حالة الفقر بكيفية مقصودة’، ذلك أن البحرية الإسرائيلية تهاجم بانتظام صيادي قطاع غزة الذين يحاولون العودة بالسمك إلى السكان. ومصر التي لها حدود مع هذا القطاع منعت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2008 مرور قافلة من المعارضين لسياستها والتي كانت تنقل أدوات ومعدات طبية إلى الفلسطينيين. هذا البلد
‘الشقيق’ أغلق حدوده عند معبر رفح لكي يمنع تسرب الرجال والنساء المهددين بالمجاعة. وكان على السكان أن تقوم بحفر أنفاق لكي تتمكن من نقل المواد الغذائية والأدوية. وبهذا الصنيع، وجد مليون ونصف مليون فلسطيني ذواتهم مضطرين إلى العيش في كفاف تزداد حدته يوما تلو آخر.
تشكل هذه السياسة شكلا من أشكال الاغتيال الجماعي. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: ما الذي تترقبه إسرائيل؟ أن ينقلب السكان المهانون والمجوعون ضد حركة حماس؟ إن هذا الأمر مستحيل؛ لأن الأمر يتعلق بحزب وصل إلى السلطة بشكل ديمقراطي. ومع افتراض عدم رضانا عن طريقته في مقاومة الاحتلال، فإنه يبقى في المقام الأول والأخير حركة مقاومة. ومحمود عباس الذي يدين بدوره سياسة هذا الحزب لا يملك إلا أن يثور ضد الطريقة المهينة التي تعامل بها إسرائيل جزءاً من شعبه. كيف يمكن التفاوض مع دولة تمارس الابتزاز بواسطة تدمير السكان وتفجير المنازل لمجرد الاشتباه في احتضان عائلة لمقاتل في حماس؟ ما الذي تعنيه المفاوضات في ظل ظروف من هذا القبيل؟ إلى متى تظل المشكلة الفلسطينية مرهونة بالإرادة الطيبة لحفنة من الساسة الأمريكيين والإسرائيليين لا يترددون في التضحية بالحقوق الأساسية للإنسان؟ يتعلق الأمر باستيطان واحتلال أراضي الغير وبالرفض المنتظم لمنح الفلسطينيين الحق في دولة يمكن العيش فيها وذات حدود جغرافية عادلة. وليس السلام بسلسلة من الأقوال الجميلة. السلام إرادة وشجاعة القبول بحقائق ووقائع التاريخ، وهو القبول الذي تقفوه أفعال ملموسة. والحال أننا لا نكف منذ عقود عن التقهقر وجعل شروط حياة الفلسطينيين بل وقدرتهم على البقاء على قيد الحياة تسوء باطراد.
ينتظر العالم بطبيعة الحال اليوم الذي يتسلم فيه باراك أوباما مقاليد السلطة. ونحن ننتظر ربما الشيء الكثير من هذا الرجل الذي احتفلت شعوب العالم العربي بانتخابه ورأت فيه إشارة أمل وانعتاق أيضا. وذلك انطلاقا من الحقيقة التي مفادها انه لم يعرف العالم سياسة أسوأ من تلك التي انتهجتها إدارة جورج بوش. نعرف أن هيلاري كلينتون سوف تتكلف بالشؤون الخارجية، ونعرف أنها عموما أقل تعاطفا من زوجها مع الفلسطينيين. لكننا نشرع في الحلم على طريقة مارتن لوثر كينغ بيوم يعيش فيه الفلسطينيون والإسرائيليون جنبا إلى جنب في دولتين ديمقراطيتين تحترمان بعضهما بعضاً. إنه حلم، لكن في انتظار بداية سنة 2009، يعاني الرجال والنساء وطأة احتلال لا يمكن في العمق إلا أن يسم مشاعرهم بالتطرف ويؤجج الحقد بين الشعبين.
إن لائحة مشاريع السلام منذ ثلاثة عقود طويلة، بيد أنه ليس ثمة منها من أفضى إلى نتائج ملموسة. تشرين الأول (أكتوبر) 1981: مشروع الملك فهد بن عبد العزيز، أيلول (سبتمبر) 1982: مشروع الرئيس ريغان، نيسان (أبريل) 1987: مخطط لندن، 1991: مشروع اوسلو، أيلول (سبتمبر) 2000: مشروع كلينتون/ باراك، مفاوضات طابا عام 2001، مبادرة جنيف ‘شعبان/دولتان’ الموقعة في الفاتح من كانون الأول (ديسمبر) 2003، الخ. إننا نلاحظ على العكس من ذلك ان التراب الوطني الفلسطيني لا يني عن التقطيع والتشتت والاشتمال على عدد وفير من الحدود. وهو تراب مفتت يستحيل تجميعه وتحويله إلى دولة يمكن العيش فيها. وقد سئمت وسائل الإعلام والعالم من هذا الوضع. صحيح أيضا أن الفرقة الحاصلة بين الفلسطينيين وصراعاتهم الداخلية ونزاعاتهم تخدم مصالح المحتل، ووحدهم الأكثر عوزا ممن لم يروا من فلسطين إلا مخيمات اللاجئين من يدفع الثمن غاليا.
لقد توجه محمود عباس مباشرة إلى باراك أوباما في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الفارط مطالبا إياه بتطبيق المبادرة العربية التي صاغها الملك عبد الله: انسحاب إسرائيل من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية علاوة على تسوية قضية اللاجئين. وفي المقابل، تلتزم سبع وخمسون دولة عربية وإسلامية بالاعتراف بدولة إسرائيل وتطبيع العلاقات معها. وكان هذا المشروع قد نشر في شكل صفحات إشهارية في العديد من الصحف. وكان أوباما قد ألقى خلال حملته الانتخابية خطابا انتقد فيه بكيفية صارمة إسرائيل وقبضتها القوية على القدس.
يحتاج أوباما إلى كثير من الخيال والعزم لكي يصوغ مشروعا حقيقيا للسلام وليس فقط مع محمود عباس الذي ينفق وقته في التفاوض مع إسرائيل دون أن يحصل على شيء. التباحث مع كل الأطراف والجمع بينها في كلية واحدة تدعى فلسطين هو لعمري البداية الحقيقية للحل. وشأن كل الشعوب التي عرفت انتخابات ديمقراطية، فإن الشعب الفلسطيني يتوفر على رجال ينتمون إلى اليسار وآخرين إلى اليمين وأناس متدينين وآخرين علمانيين، وثمة المسلمون والمسيحيون وأيضا من لا يحتفظ بأية صلة بأي دين.
فالشعب ليس علبة محكمة الإغلاق لها طريقة واحدة في التفكير والفعل. وحين يكون الأمر كذلك، فإننا نكون أمام نظام شمولي يحكمه حزب واحد. لقد تشكل الفلسطينيون بواسطة التاريخ والحروب المتعددة ووفرة من أشكال الاستعمار والإخفاقات وأخطاء الزعماء والآمال غير المحسوبة جيدا والخيانات أيضا. لا توجد عائلة فلسطينية ليس فيها ابن أو أب مات أو اغتيل في غمرة هذا الصراع. والمقابر الفلسطينية تغص بالشباب المغتال والمناضلين الذين وهبوا حياتهم فداء لقضية وطنهم. ليس من الشذوذ في شيء أن نقاوم احتلالا، بل العكس هو الصحيح. وبصرف النظر عن طبيعة الشعب، فإن التاريخ يعلمنا أن وحدها المقاومة من تستشرف في النهاية الغاية المتمثلة في التحرير. والفلسطينيون ينشدون العدالة، وليس حشرهم في مخيم كبير لا يصل إليه شيء.
وعلى مستوى أكثر عمومية، ثمة بعض القرائن القادمة من واشنطن تسمح بقليل من التفاؤل. فقد اختار أوباما برنت سكوكفورت مستشارا له. كان هذا الرجل الذي شغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي إبان ولاية بوش الأب قد كتب مقالا قبل أسبوع من الاجتياح الأمريكي للعراق أدان فيه هذه المغامرة المجنونة. وقد صرح مؤخرا في برنامج فريد زكرياء على قناة سي إن إن أن أولى أولويات الرئيس أوباما تتمثل في منح دولة للفلسطينيين؛ لأن ظلما حاق بهم وينبغي رفعه.
تشير كل القرائن إلى التزام شامل للولايات المتحدة من أجل الخروج من المستنقع العراقي والعمل على تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين بشراكة مع دول المنطقة وخصوصا سورية وبشكل غير مباشر مع إيران. تحتاج إسرائيل إلى السلام فيما يحتاج الفلسطينيون إلى الوجود، وقد تعب الشعبان من هذا الكم الهائل من الحقد والتدمير والآمال الخائبة. وإذا كان كثير من الإسرائيليين لم يحتفلوا بفوز أوباما، فلأنهم يرتابون فعلا في أن هذا الرجل الساعي إلى التغيير والتجديد هو في الآن نفسه رئيس مأخوذ بالعدالة، وكما قال مستشاره الجديد: ينبغي أن نتوخى العدل مع الفلسطينيين؛ لأن ذلك هو الذي سوف يضمن السلام الذي يتوق إليه الإسرائيليون.
ترجمة عبد المنعم الشنتوف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى