قضية فلسطين

حرب غزة تلفزيونياً:فصل الصوت عن الصورة

رامي الأمين
مشهد السيدة الفلسطينية التي تلوّح بيديها السمينتين على شبّاك منزلها المقصوف في غزة بصواريخ الطائرات الإسرائيلية، باكية وشاتمة “حماس” بأعلى صوتها، هذا المشهد ظهر على كل الشاشات تقريباً. بعضها أبرز صوت المرأة وشتائمها، وبعضها الآخر استخدم صورة المرأة وطمس صوتها. في الحالين كانت هذه المرأة المتألمة، بغض النظر عن موقفها، مادة للإستخدام الإعلامي لغايات سياسية.
فالمحطات التلفزيونية التي لا تتفق وسياسة “حماس” ومن ورائها حلف الممانعة الممتد من إيران إلى سوريا وبعض لبنان وبعض فلسطين وبعض قطر، أسمعت مشاهديها امتعاض هذه السيدة الفلسطينية من سياسة “حماس” التي جلبت لها الويلات بسبب إطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات الإسرائيلية. المحطات المقابلة، التي تدّعي محاربة “المشروع الأميركي” في المنطقة، طمست صوت السيدة هذه لأنه لا يتناسب وسياسات الممانعة التي تنتهجها.
إعلام حربي
مشهد السيدة الفلسطينية هذه ينقل بأمانة واقع حال الإعلام العربي في تعاطيه مع الحرب الإسرائيلية على غزة، كما يظهر الإنقسام العمودي الذي يمتد إلى كل مرافق الحياة العربية، من السياسة إلى الإجتماع والأمن والإعلام… إلى آخره.
بات معروفاً أن التلفزيون يشكل مكوّناً رئيسياً في الحروب. بل أكثر، التلفزيون يكاد يعادل الأسلحة الذكية المستخدمة في المعارك. وطبعاً كان كذلك في حرب غزة التي شغلت العالم كله من أقصاه إلى أقصاه. فقد تصدّر التلفزيون واجهة المعركة التي دارت بين الجيش الإسرائيلي، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). كلاهما كان يتمترس وراء شاشات خاصة به. الإسرائيليون لديهم إعلامهم، و”حماس” لديها محطاتها التلفزيونية. وإلى الإعلام المباشر لكلا الطرفين المتحاربين، ثمة إعلام متضامن أو “متواطئ” أو “منحاز” أو غيرها من الإصطلاحات، التي يصح بعضها، ولا يصح بعضها الآخر. فالحروب تتطلب، كما هو مألوف، إعلاماً حربياً للقوى المتقاتلة، وتشهد كل الحروب، معارك نفسية وإعلامية، تصدر عن الإعلام الحربي من جانبي الصراع، فيسوّق كلّ منهما لانتصاره، متستراً على خسائره. لكن دائماً يكون هناك حضور لإعلام موضوعي في الوسط، ينقل الصورة كما هي، على حقيقتها، وهذا ما لم يصح في حرب غزة. ربما لم تقم مؤسسة إعلامية عربية واحدة بتظهير صورة شفافة وواقعية عمّا حدث. غرق الجميع في التحليلات، لكن ما اتفقوا عليه هو أن ثمة عدداً كبيراً من القتلى أو “الضحايا” أو “الشهداء” أو “الأرقام”… لا يهمّ، لن نختلف على المصطلح. ما يهمّ أن الرقم كبير جداً، وأن الموت واحد في كل الحالات. الإعلام العربي كلّه اتفق على عدد الموتى في غزة. وكان الإختلاف على جدوى موتهم. كانت المقاومة الفلسطينية تقوم بنقل عملياتها العسكرية ضد الجيش الإسرائيلي، عبر تصويرها ثم بثّها على قناة “الأقصى”، وهذا يذكّر بأسلوب “حزب الله” في لبنان الذي يولي الإعلام الحربي أهمية كبيرة، وتعادل الكاميرا لديه صاروخاً مداه بعيد جداً. والحال أن ثمة مثالين واضحين، يمكن عبرهما حصر المناقشة حول أداء الإعلام العربي في التعاطي مع العدوان على غزة. هذان المثالان هما قناتا “العربية” و”الجزيرة” اللتان كان لهما أسلوبان متناقضان ومختلفان في التعاطي مع الخبر الغزّاوي.
بين “الجزيرة” و”العربية”
طبعاً، لا ضير في التذكير بأن قناة “العربية” تمثل الإعلام السعودي، وهي ممولة من النظام السعودي، أما “الجزيرة” فقناة تمثل النظام القطري وممولة منه. والحال أن هاتين القناتين، نقلتا واقع الإنقسام العربي بين المحورين السعودي والقطري، اللذين يمثلان امتداداً لحسابات إقليمية ودولية تبدأ من واشنطن ولا تنتهي بطهران وكاراكاس. فقد تبدى إنحياز “الجزيرة” إلى “حماس”، لا في مواجهة إسرائيل فحسب، بل في مواجهتها محمود عباس والسلطة الفلسطينية، كما في مواجهتها السعودية ومصر، وغيرها من الدول التي تنتمي إلى ما يسمّى محور “الإعتدال العربي”، فيما كانت “العربية” تشنّ الهجوم المعاكس على ما يسمّى في المقلب الآخر “دول الممانعة”، ومعها طبعاً الجماعات المسلحة المدعومة منها، كـ”حماس”، و”حزب الله” وسواهما. طبعاً اتفقت القناتان على اعتبار اسرائيل عدوة، وتعاطتا معها على أنها المعتدية والمحتلة. لكنهما اختلفتا على تحديد فعل “حماس”، أهو “اعتداء”، أم “دفاع عن النفس”، أم مقاومة، أم “مقاومة تدمر شعبها” على ما وصفها أبو مازن؟
القناتان كان لهما حضور إعلامي فاعل على الأرض في غزة، من مراسلين وكاميرات. وكانت صور المجازر تنقل على الشاشتين بالتساوي تقريباً، وعلى المستوى الإنساني استطاعت “الجزيرة” أن تتفوق على “العربية” في نقل المعاناة الفلسطينية في غزة، من حيث كمية الصور والمشاهد والمقابلات التي تصوّر واقع حال الناس الذين يذبحون في بيوتهم. هذا الجانب الإنساني يحسب لـ”الجزيرة” إعلامياً، لأن الإنسان يجب أن يكون الهدف الأساسي للعمل الإعلامي. بيد أن “الجزيرة” سقطت في فخّ انحيازها السياسي إلى الضحية، وهذا لا يصحّ في العمل الإعلامي الموضوعي. فالضحية يجب أن تبقى ضحية إنسانية، ويجب ألا تتخذ طابعاً سياسياً يراد به توجيه الرسائل إلى أطراف سياسيين. فـ”الجزيرة” في خلال نقلها صور غزة، كانت تأتي بمحللين وصحافيين وسياسيين ذوي آراء ومواقف معروفة ليعلّقوا على الصور، ويشتموا وينتقدوا ويحمّلوا دولاً وأنظمة وأشخاصاً المسؤولية، دون دول وأنظمة وأشخاص تحمّلهم “العربية” من جهتها مسؤولية عن الحرب. هكذا يتكامل المشهد.
التواطؤ الشامل
مع مشاهدة القناتين، يتبين أن كل العرب متواطئون وعملاء ومع العدوان على غزة. هذا يذكّر بما يقوله زياد الرحباني في “فيلم أميركي طويل” عن جمع الثمانين في المئة مع الثمانين في المئة الذي يعطي مئة وستين في المئة، ما لا يدخل في طور المنطق والعقل لأن المئة والستين تتجاوز المئة، هذا لأن النسبة نفسها من الناس تعبّر عن آراء متناقضة في استطلاعات الرأي. هكذا يمكن الناس أن يشاهدوا القناتين ويخرجوا بأن العرب جميعاً ضد القضية الفلسطينية ومتواطئون عليها. وهذا يتبدى واضحاً في النظامين اللذين يقفان وراء القناتين، فقطر لديها علاقات ممتازة مع إسرائيل، لم تتجرأ في خلال “قمة غزة” التي عقدت في الدوحة إلا على تجميدها، فيما السعودية تعتبر الحليف الرئيسي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة. وفي حين تحتفي “الجزيرة” بطرد فنزويلا سفير إسرائيل في كاراكاس، كما لو أن الدوحة هي التي فعلت ذلك، تصور “العربية” الرئيس الفلسطيني وكأنه كان السبب في وقف إسرائيل حربها على غزة.
“الجزيرة” وضعت خانة على موقعها الإلكتروني تسأل فيها “متى يقطع العرب علاقتهم بإسرائيل؟”. هذا السؤال موجّه الى العرب، لا الى قطر، لأن الإمارة التي تحوي أكبر قاعدة عسكرية أميركية في العالم، وتضم مكتباً للتبادل التجاري مع إسرائيل، تتحالف مع إيران الخمينية، ضد العرب “المعتدلين”، مثلما يولد الإرهاب في المملكة السعودية، وهي التي تدّعي محاربته في معركة شاملة تنضم فيها إلى الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي.
وإذا كان قد ظهر من يصف “العربية” بأنها قناة عبرية، فإن ذلك لم يطل “الجزيرة” لأن الجناس والطباق لا يصحان في هذا الموضع، لكن هناك أصواتا كثيرة تقول بزيف الخطاب الذي تتبناه “الجزيرة” وتعتبره خطاباً موجهاً في الدرجة الأولى ضد السعودية وليس مع “حماس” أو ضد إسرائيل. فإذا تمّ فصل صوت “الجزيرة” و”العربية” عن صورتيهما، كما حدث مع السيدة الفلسطينية المذكورة في فاتحة هذه السطور، تبدّت واضحةً المعركة التي تخاض على الشاشات، والتي لا تولي أهمية الى غزة ولا الى سواها، فالمعركة قائمة قبل غزة وبعدها، ومعها وبدونها.
في النهاية تنتصر الشاشات لأنها الأقوى، ويموت الناس لأنهم ليسوا إلا خبراً رقمياً عاجلاً أسفل هذه الشاشات ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى