ما وراء أزمة غزة
: مقابلة مع جلبير الأشقر
دانيال فين: ما هي بنظركم الأهداف الرئيسة لإستراتيجية إسرائيل الراهنة في هجومها على قطاع غزة؟
جلبير الأشقر : إنها فعلا مسألة معقدة، حيث تتداخل مستويات عدة. فمن زاوية نظر كبيرة، تندرج هذه الإستراتيجية في الصراع الجاري بين إسرائيل من جانب وحركة حماس وحزب الله من جانب آخر، صراع بلغ ذروته السابقة في العام 2006، لما خاضت إسرائيل حربين في الآن ذاته، إحداهما ضد غزة و الأخرى- وقد كانت هجوما واسع النطاق- ضد لبنان. كانت هاتان الحربان مرتبطتين بالإستراتيجية العامة لإدارة بوش في مواجهتها مع إيران. فبالفعل يقوم التصور السائد في واشنطن على اعتبار حركة حماس وحزب الله أدوات بيد الدولة الإيرانية ومن ثمة قسما من قوى يتعين سحقها لتثبيت السيطرة الأمريكية وأمن إسرائيل على السواء. لذا يمثل ما يجري حاليا مرحلة جديدة من حرب جارية انطلقت منذ بضع سنوات.
وإذا نظرنا من زاوية أضيق، يغدو جليا أن هذه الحملة جرى إطلاقها في هذه اللحظة بالذات، منذ 27 ديسمبر، لاعتبارات سياسية قصيرة الأمد. فمن جهة، الإدارة الأمريكية مقبلة على الانصراف، وتدل كل الإشارات من فريق أوباما أن ليس للحكومة الإسرائيلية أي داع لخشية تغير كبير في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق الأوسط. لكن ثمة، مع ذلك، وعد أوباما خلال الحملة الانتخابية بشروع الإدارة الأمريكية الجديدة في مفاوضات مع إيران. وفي هذه الحالة يمكن تليين المساندة الأمريكية لموقف متشدد في المواجهة مع إيران. بالنظر إلى هذا، تتمثل إحدى أسباب إطلاق الحملة هذه اللحظة بالذات في تجنيب الإدارة الجديدة مواجهة أزمة كبرى بالشرق الأوسط منذ الوهلة الأولى .
لذا كان حدوث الأمر في ظل إدارة بوش مريحا لفريق اوباما. المشكل أن العملية دامت أكثر من المرتقب، وهذا أمر بات متواترا خلال الاعتداءات الإسرائيلية: لقد ولى زمن “حرب الستة أيام”. كانت حكومة إسرائيل تود، وهذا إمكان أثاره محللون ُكثر قبل بضعة شهور- ضرب إيران مباشرة قبل انصراف إدارة بوش. لكن الأمر بات مستحيلا لجملة أسباب متصلة بما تتخبط فيه إدارة بوش ذاتها من مشاكل كبرى. وفعلا ثمة، علاوة على الضعف السياسي العام لرئيس فاقد للمصداقية وفي نهاية ولايته، الأزمة الاقتصادية التي تجعل كل مواجهة عسكرية مع إيران في اللحظة الراهنة مضرة، بلا شك، بمصالح الاقتصاد العالمي. [جرت هذه المقابلة قبل أن تكشف إدارة بوش رفض طلب إسرائيل الإذن بضرب المواقع النووية الإيرانية] وبدل ما تمنت إسرائيل من ضربات لإيران، هاهي تهاجم حركة حماس المعتبرة وكيلة لإيران.
ثمة أخيرا اعتبار أضيق، ألا وهو الرهانات الانتخابية بإسرائيل. ستجري كما تعلمون انتخابات إسرائيلية جديدة قريبا. والحال أن الأحزاب الممثلة بحكومة التحالف- كاديما، حزب أولمرت وليفني، وحزب العمل لإيهود باراك- تواجه منافسة قوية من حزب الليكود، أقصى يمين الحالة الصهيونية السائدة بإسرائيل. إن هذا الهجوم على غزة هو، بنحو ما، طريقة لاستباق المزايدة التي لا شك أن ناتانياهو أسس عليها حملته الانتخابية. إذا اعتبرنا هذه الأوجه مجتمعة، نتبين أنه كان ثمة تحديد تضافري، أي عدة أسباب لإطلاق هذه العملية في هذه اللحظة بالذات. و ليس ما عدا ذلك، مثل صواريخ حماس، الخ، إلا ذرائع، مثلما لم يكن اختطاف حزب الله لجنديين في يوليو 2006 غير ذريعة استعملتها إسرائيل لشن عدوان مصمم واسع النطاق.
انتهت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس وحزب الله في 2006 بهزيمة كبرى لإسرائيل، ما أثار كل صنوف المؤاخذات داخل النخب السياسية والعسكرية. هل تعتقدون أن لإسرائيل حاليا حظ واقعي لقلب هذا الفشل وتحقيق نصر، أم أنها تتجه صوب هزيمة جديدة؟
هذا بالذات ما يجعل الوضع بالغ الخطورة ومخيفا في هذه اللحظة. بدأ هذا الهجوم يوم 27 ديسمبر، ما يعني أن المعارك دامت زهاء أسبوعين. وقد باتت حصيلة القتلى، بأرقام مطلقة، تفوق ما كان بلبنان بعد أسبوعين من القصف الكثيف. و ثمة ضحايا أكثر بكثير إذا اعتمدنا أرقاما نسبية، علما أن سكان لبنان يمثلون 3 أضعاف سكان غزة. إن المخيف جدا والخطير بالوضع الراهن هو أن فشل إسرائيل الذريع في لبنان صيف 2006 لا يسمح لها بفشل آخر نظير. وهذا لأسباب إستراتيجية وأخرى انتهازية أو على المدى القصير، حسابات سياسية سافلة.
من جهة، تخاطر دولة إسرائيل بفقد الكثير من مصداقيتها العسكرية المزعومة إذا ُمنيت بفشل جديد، لا سيما أن عدو هذه المرة- حركة حماس بغزة- أضعف بلا شك مما كان حزب الله بلبنان. وفعلا حزب الله أقوى داخل الطائفة الشيعية اللبنانية من حركة حماس في غزة، حيث ثمة تنافس شرس بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية / حركة فتح، فضلا على مجموعات أخرى منافسة تتنازع الجمهور ذاته. ثم إن حزب الله كان يتوفر على كميات سلاح أكثر بكثير من حركة حماس بغزة، شريط الأرض الضيق هذا المطوق من كل جانب والمراقب بدقة. إن بوسع الفلسطينيين في غزة أن يدخلوا سريا بعض الأسلحة الخفيفة، لا أسلحة ثقيلة، فيما كان حزب الله بلبنان يستفيد من الدعم السوري.
لذا، إن كان لإسرائيل أن تصاب بفشل ذريع آخر، علاوة على أنه سيكون ضد حركة حماس الأضعف من حزب الله، فسيشكل الأمر كارثة كبرى لها، أسوأ من كارثة 2006. ثم هناك، في مقام ثان، الحسابات الصغيرة للسياسة الانتخابية. إن كان للتحالف الحاكم بإسرائيل أن يخرج من هذه الحرب بإخفاق جديد، فلن تحتاج أحزابه التقدم إلى الانتخابات حتى. سيسحقها ناتانياهو كليا وهي تدرك ذلك. لذا لا يمكن للتحالف الحاكم أن يتحمل فشلا لهذين الاعتبارين مجتمعين، وهذا ما يجعل الوضع مقلقا لهذه الدرجة. قد يصابون بأعراض الوحش الجريح، وتغدو شراستهم أشد مما كانوا حتى اللحظة.
يزداد مستوى فظائع إسرائيل حربا بعد حرب. كانت حرب 33 يوما في يوليو 2006 أعنف عدوان في تاريخ طويل من الحروب الإسرائيلية، أعنف استعمال إسرائيلي للقوة، مع قصف كثيف لمناطق كاملة من لبنان، مناطق مدنية.
كانت الذريعة آنذاك، كما هي الآن، أن المقاتلين يختفون بين السكان. إنها حجة منافقة تماما، فماذا تتوقع إسرائيل أن يفعلوا؟ أن يتجمعوا في ساحة مكشوفة رافعين لافتة:”أقصفونا هنا” ؟ هذا سخيف. الحقيقة أن إسرائيل تسعى إلى سحق أحزاب سياسية جماهيرية. بالطبع، هذه الأحزاب مسلحة، لكنها مجبرة على ذلك لأنها مهددة على نحو دائم. إنها حركات شعبية مسلحة. وليس أغلب أعضائها المسلحين مقاتلين محترفين يعيشون في ثكنات. إذا اعتبرنا أوجه المشكل هذه كلها نرى أن ما عبرت عنه الوكالات الإنسانية من مخاوف متعاظمة يقوم على دواع بالغة الجدية. يشعر الكثير من الناس حاليا أن سكان غزة مهددون فعلا بالإبادة. ليس هذا ضربا من المبالغات المألوفة، بل تقييما رزينا بالنظر إلى مستوى العنف و الوحشية، يوما بعد يوم، مع عدد متنام من الحوادث المزعومة المستهدفة لتركزات مدنية، والمؤدية إلى مذابح جماهيرية. يتمثل السبيل الوحيد لتفادي إسرائيل الفشل في توسيع هجومها البري في مناطق الكثافة السكانية الكبيرة. وعلى هذا النحو يصبح الأسوأ واردا، ما يعني آلاف و آلاف القتلى، دون حساب المعطوبين والجرحى، وهذا مرعب.
ما الواجب على حركة حماس إن أرادت اعتبارها منتصرة، ولو جزئيا، عند نهاية هذه المواجهة مع إسرائيل؟ هل يكفي بقاؤها قائمة ؟
تقصدون نجاح حركة حماس فعلا في الخروج من الحرب رافعة الرأس. الواقع أنها تكبدت، بفعل الشروط الجغرافية، نسبة قتلى بصفوفها أعلى مما تكبد حزب الله في 2006. في أول أيام القصف الإسرائيلي، أُستهدفت مقرات قوات أمن حركة حماس، وفورا كان عدد القتلى كبيرا جدا. لكن إن نجحت حركة حماس، مع ذلك، في الخروج من هذا الهجوم محافظة إلى هذا الحد أو ذاك على قيادتها وبنيتها التحتية، وإن لم تقم بتنازل كبير- أو بالأحرى تنازل كبير غير متبادل – أي أن تحقق شيئا من قبيل :” نوقف القصف بالصواريخ، لكن مع أن تضمنوا لنا انتم الإسرائيليون وقف قصفنا وفرض حصار علينا وخنقنا” – سيكون الأمر آنذاك فشلا إسرائيليا سيعتبر نصرا سياسيا لحركة حماس، كالذي حققه حزب الله في 2006.
لكن هذا ليس إلا فرضية في لحظتنا هذه إذ لا يسعنا التنبؤ بمجريات الأمور مستقبلا. الجلي، على صعيد إقليمي وعالمي، أن هذا الهجوم الإسرائيلي عزز شعبية حركة حماس. لكن لا يمكن اعتبار الأمر حاصلا أيضا بين سكان غزة، بفعل تنافس حركة حماس وحركة فتح بالذات. التقارير متضاربة بصدد هذه المسألة. طبعا سيقول أنصار حركة فتح:« لقد زجت بنا حركة حماس في وضع رهيب، ونحن نعاني بسببها، طبعا إسرائيل أول من ُيدان و لكن…» هذه “لكن” التي نجد في تصريحات بعض الأنظمة العربية. هذا ما عبرت عنه بوجه خاص منذ البدء الحكومة المصرية، المتعاونة بجلاء مع هذا العدوان الإسرائيلي. وهذا ما صدر أيضا، هنا وهناك، عن حلفاء الولايات المتحدة العرب. إنها نفس الخطابة المسموعة في 2006 عندما كان يُنحى باللائمة على حزب الله بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان. لا ندري بعدُ ما سيكون المخرج السياسي النهائي لحركة حماس. أعتقد أن الأوان لم يحن بعدُ لوضع تقييم للنتيجة على المدى البعيد، وحتى المتوسط. الأمر الوحيد الأكيد لحد الساعة، كما أسلفت، هو تنامي شعبية حركة حماس على صعيد إقليمي. وهذا نتيجة شبه آلية كلما حددت إسرائيل هدفا عربيا وشرعت تضربه. يصبح المستهدف شعبيا على نحو آلي بفعل الحقد إزاء إسرائيل وتعدياتها الدائمة بالمنطقة: تضمن كل ضحية لإسرائيل، وبخاصة كل قوة مقاومة لإسرائيل، أن تصبح شعبية بالمنطقة.
جرى في الأسبوع المنصرم حديث عن استياء ما في صفوف شباب حركة فتح. وكانت ثمة تقارير تقول إن مروان البرغوثي قد يكون بعث رسائل من زنزانته حيث ينتقد تصريحات محمود عباس. أتعتقدون إمكان تحقق ذلك، و سحب البساط من تحت القيادة الحالية لحركة فتح؟ هل ترون إمكان تغيير حركة فتح لتوجهها؟
البرغوثي هو، بنحو ما، ورقة احتياط بيد حركة فتح. فقد أحرق محمود عباس إلى حد بعيد أوراقه. فقد كل مصداقية ويبدو شخصا ذليلا، وبيدقا ثانويا في هذه اللعبة الإقليمية. و ليس شعبيا، حتى داخل حركة فتح. جلى إذن أن حركة فتح ستكون بحاجة – فورا أو قريبا جدا، لشخصية قائدة أخرى، وسيكون البرغوثي حلا بديلا. لكن وجوده بالسجن يجعل مصيره، إلى حد بعيد، وقفا على إسرائيل، وعلى واشنطن طبعا. أما معرفة ما سيكون موقف البرغوثي إن خرج من السجن، فأمر صعب. يتمثل المشكل الرئيس في معرفة نوع علاقته مستقبلا مع الولايات المتحدة الأمريكية و بيدقها الفلسطيني الأول، محمد دحلان. كان دحلان والبرغوثي متحالفين في انتخابات 2006، فهل سيواصلان ذلك التعاون ويشكلان فريقا سائدا في حركة فتح بعد عهد عباس، أم سيتنافسان؟ هذا في حكم الآتي.
قلتم إن النظام المصري بوجه خاص، وبدرجات متباينة الأنظمة العربية الأخرى التابعة للولايات المتحدة، ُتعتبر متواطئة مع إسرائيل. إذا كان للتصعيد أن يتواصل، و إذا كانت إسرائيل ،كما وصفتم، ستتصرف كوحش جريح وتستعمل طرقا أشد فأشد عنفا ضد الفلسطينيين بغزة، فكيف تتمكن الحكومة المصرية من احتواء الغضب- الذي بات يبدو كبيرا- داخل شعبها.
هده الأنظمة لا ُينظر إليها بما هي متواطئة مع إسرائيل وحسب، بل هي فعلا متواطئة. وقد أوردت الصحافة أنها كانت على علم بالهجوم على غزة قبل اندلاعه. يوم بدأ الهجوم، نشرت صحيفة القدس العربي، اليومية العربية الصادرة بلندن، مقالا لمراسلها من الضفة الغربية أورد أن وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني أعلمت السلطات المصرية، أثناء زيارتها للقاهرة، أن إسرائيل مقبلة على شن عملية ضد حركة حماس. وطلب منها صراحة الجنرال سليمان، رئيس الاستخبارات المصرية، أن تستهدف إسرائيل مقاتلي حركة حماس مع الحرص على تفادي المدنيين. و الحال أن الهجوم انطلق يوم صدور المقال المذكور، وكان أولى أهدافه بنايات شرطة غزة. كان الأمر إذن في الظاهر هجوما متفاديا للمدنيين ومستهدفا بوجه خاص القوات المسلحة. هذا ما يدل، بلا أدنى شك، على أن النظام المصري أُخبر بما سيجري. ولم يقم حتى بتحذير حركة حماس، التي أُخذت لحظة بدء الهجوم على حين غرة، ومن ثمة حصيلة القتلى الكبيرة في البدء داخل صفوف قواتها المسلحة.
تتمنى الحكومة المصرية، وباقي الأنظمة العربية حليفة الولايات المتحدة، رؤية حركة حماس ضعيفة. إنهم لا يؤيدون القضاء على حركة حماس – إن كان ذلك ممكنا- لأنهم يعلمون كلفته البشرية الهائلة والمروعة. إنهم يتمنون حركة حماس مضعفة لن يكون لها آنذاك خيار غير أن تقطع علاقاتها مع إيران وتضطر إلى التبعية لهم لضمان بقائها: هذا ما يتمنون. يريدون حركة حماس ُمدجنة، وينتظرون اضطلاع إسرائيل بترويضها. على هذا النحو، حالما تكون إسرائيل لقنت درسا لحركة حماس، يكون بوسع مصر والسعودية والأردن أن تقول لحركة حماس:« لا خيار أمامكم غير التعاون معنا، فإما أن تدخلوا اللعبة بشروطنا، بقطع صلاتكم بإيران وسوريا، أو عليكم أن تواجهوا إسرائيل وحيدين، مع إمكان أن تسحقكم».
لكن إذا فشلت العملية الإسرائيلية، ستقلب تلك الأنظمة فورا معطفها، بمحض انتهازية، وتشرع في توبيخ إسرائيل، بإكثار تصريحات الاستهجان التي لا تذهب بعيدا. و يمكن للنظام المصري تضخيم حجم خلافه مع إسرائيل حول مسألة القوات الدولية على الجانب المصري من حدود غزة، التي تطالب بها إسرائيل وترفضها مصر. سيجري مبالغة أمور من هذا القبيل على نحو غير متناسب كي يتيح للقاهرة و حلفائها العرب التظاهر بمواجهة إسرائيل. تقول خطاباتهم المنافقة المألوفة إنهم يواجهون إسرائيل بشكل مسؤول لأنهم يعلمون القوة العسكرية الإسرائيلية ويحرصون على سلامة السكان، وليس مثل مجانين حركة حماس، وهكذا دواليك.
نظم حزب الله بعض المظاهرات الكبيرة في لبنان تضامنا مع حركة حماس وسكان غزة. هل من شأن دعمه الاقتصار على صعيد سياسي أم ثمة إمكان فتح حزب الله جبهة ثانية مع إسرائيل على الحدود الشمالية، كما أثار البعض بصيغة تخويفية.
أنا أستبعد كليا إمكانية من هذا القبيل. يبدو أن الصواريخ الثلاثة المطلقة من لبنان نحو شمال إسرائيل من فعل مجموعات فلسطينية صغيرة مرتبطة بدمشق. و قد أنكر حزب الله على الفور أي مسؤولية من جانبه، و ندد التحالف الحكومي اللبناني الذي يضم حزب الله بإجماع بإطلاق تلك الصواريخ.
ثمة في الواقع، في هذا الطور، مظاهرات تضامن سياسي ضخمة، لكن حزب الله استخلص أيضا درس 2006. لا ننسينّ أن أمين عام حزب الله صرح في مقابلة، بعد حرب 33 يوما عام 2006 ، أنه لو علم أن إسرائيل سترد بذلك النحو على اختطاف الجنديين يوم 12 يوليو، لأحجم حزب الله عن خطفهما. كان يريد قول، أخذا بالاعتبار المشاعر الإنسانية، « لم أكن لأعطيهم هذه الذريعة لو علمت أنهم سيدمرون بلدي ويقتلون 1500 شخص من شعبيۛ».
وفي الآن ذاته نعلم أن الاختطاف لم يكن، بالنسبة إلى إسرائيل، غير ذريعة: لو لم يُختطف أي جندي، لوجدت إسرائيل، أو صنعت صنعا، ذريعة ما للقيام بما حاولته آنذاك. لقد قبل حزب الله القرار 1701 لمجلس أمن الأمم المتحدة. كان ذلك القرار يقضي لا بنشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان وحسب، بل أيضا قوة دولية – الفينول، ما لم يكن في صالح حزب الله بالنظر إلى أن قسما كبيرا من تلك القوة مكون من جنود حلف شمال الأطلسي، ويمثل بالتالي خطرا على الحزب. و مع ذلك قبلها حزب الله لأن البديل كان يعني مواصلة الحرب الرهيبة ولأن ثمة حدودا إنسانية بهذا الصدد. لم يكن بوسعه إذن السماح لنفسه بالظهور كحزب عديم حس المسؤولية بالمبادرة إلى فتح جبهة ثانية – لا سيما بلا ضوء أخضر من دمشق و طهران.
و من جهة أخرى، كيف يمكن توقع فتح اللبنانيين جبهة ثانية فيما الفلسطينيون أنفسهم بالضفة الغربية، حتى حركة حماس، لا يفعلون ذلك؟ لم تطلق حركة حماس صواريخ من الضفة الغربية. وهذا يدل على فداحة خطأ حركة حماس بقرار استلامها كامل السلطة وحيدة في غزة، مؤدية على ذلك النحو إلى فصل المنطقتين الفلسطينيين. لا أقصد ألاّ تستبق الضربة التي كان محمد دحلان يعدها ضدها بدعم أمريكي وإسرائيلي، بل لم يكن عليها إبعاد حركة فتح كليا من مؤسسات السلطة الفلسطينية كما فعلت. هكذا، فيما ثمة ضرورة إستراتيجية لتنظيم النضال على صعيد المنطقة، هاهي الساحة الفلسطينية ذاتها مجزأة قسمين. هذا أمر مؤسف. كما توضح هذه الأحداث كامل مشكل الاختيار الاستراتيجي للأسلحة.
إن مقاومة حركة حماس بطولية، طبعا، لكن لا يمكن مقارنة شروط لبنان بتلك القائمة في فلسطين. لقد خاض حزب الله خلال سنوات احتلال إسرائيل للبنان حرب استنزاف، مركزا نشاطه بشكل أساسي على قوات الاحتلال بالمناطق اللبنانية. لا بل عقد في أبريل 1996 اتفاقا مع المحتل، بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، ينص على:« ألا تقوم المجموعات المسلحة اللبنانية بهجمات على إسرائيل بواسطة الكاتيوشا أو أسلحة أخرى. و ألا تستعمل إسرائيل والمتعاونون معها أي قوة ضد المدنيين أو أهداف مدنية بلبنان. كما يلتزم الطرفان بعدم مهاجمة مدنيين في أية ظروف، وألا ُتستعمل مناطق سكن المدنيين والمناطق الصناعية والتجهيزات الكهربائية قواعد لإطلاق هجمات.» كانت الطبيعة الجغرافية للميدان بلبنان، ووجود قوات إسرائيلية في المناطق اللبنانية المسكونة، يتيحان إستراتيجية مقاومة شعبية. وهذا ما أفضى إلى النصر لما ُأجبرت إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 فيما يشبه الكارثة.
الأمر مغاير تماما بغزة، حيث كانت القوات الإسرائيلية منسحبة من داخل القطاع ومطوقة إياه. لا كثير معنى، من وجهة نظر إستراتيجية، لمواجهتها عسكريا بإطلاق صواريخ صوب المناطق المسكونة بجنوب إسرائيل. الواقع أنه، من زاوية نظر الأراضي الفلسطينية المحتلة، يبدو جليا جدا من حصيلة لنضال الفلسطينيين ضد دولة إسرائيل منذ 1967 أن هذا النضال بلغ ذروة فعاليته في العام 1988، مع “ثورة الحجارة”، الانتفاضة الأولى، دون استعمال أسلحة نارية، ودون عمليات استشهادية، و دون صواريخ، لا شيء من هذا القبيل- التعبئة الجماهيرية فقط. هذه التعبئة ما أرعب إسرائيل، إذ وضعت الإسرائيليين في عوص سياسي كبير جدا.
يجب استخلاص دروس ذلك. إن مختلف القوى السياسية بالمنطقة لا تولي المسائل الإستراتيجية كافي الاهتمام. ثمة حاليا في النضال الفلسطيني كثير من القصوية المستلهمة للدين، كما سادت من قبل قصوية مستلهمة للقومية العربية. إن ما ينقص على العكس، هو تقييم واقعي للظروف من أجل بلورة إستراتيجية. لا إستراتيجية استسلام باسم “الواقعية”، طبعا، مثل إستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية – أقصد السلطة الفلسطينية- عرفات ومحمود عباس حاليا. إنما إستراتجية مقاومة وتحرير، مقاومة شعبية، لفرض كل هدف استراتجي ممكن على إسرائيل في الشروط القائمة. و ما يبقى واردا في الشروط الموضوعية الراهنة هو الحصول من إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، مع إمكان تنظيم تلك الأراضي لحكومتها الخاصة على نحو ديمقراطي، والحصول بالأقل على سيادة سياسية – الأمر غير ذلك حاليا، لما نرى كيف ردت إسرائيل و مساندوها الغربيون على فوز حماس بالانتخابات.
وفيما يتجاوز هذا الهدف الآني، يجب أن تتضمن الإستراتيجية الوحيدة المعقولة على المدى الطويل قلبا للمجتمع الإسرائيلي ذاته. ولن تكون مبلورة كإستراتيجية خارجية كليا بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي كما كانت استراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، سابقا، وحركة حماس حاليا. لا يمكن هزم إسرائيل عسكريا من خارج. هذا متعذر على صعيد الأسلحة التقليدية، لأن إسرائيل أقوى بكثير على هذا الصعيد من البلدان العربية المجاورة مجتمعة – دون اعتبار أن هذه غير مستعدة بتاتا لمواجهة إسرائيل، ولا أقصد مصر و الأردن فحسب بل حتى سوريا. و ليس لـ”حرب شعبية” من أجل تحرير فلسطين التاريخية معنى، لأن الإسرائيليين يشكلون أكثرية عريضة في أراضي قبل 1967. ليس الأمر كما لو تعلق بجيش احتلال، مثل الجيش الأمريكي في فيتنام، أو أفغانستان أو العراق، أو جيش إسرائيل في لبنان. و يدرك الجميع، من جهة أخرى، أن إسرائيل قوة نووية منذ متم سنوات 1960. إن كل مشروع قائم على تدمير الدولة الإسرائيلية من خارج مشروع لاعقلاني إذن، بكل دلالات الكلمة.
هكذا، حتى بوضع متطلبات النزعة الأممية جانبا، أي طراز النصر على الدولة الصهيونية الذي قد يكون مرغوبا، ليس ثمة، بكل الأحوال، إستراتيجية معقولة لهزمها دون اعتبار ضرورة قلب كبير للمجتمع الإسرائيلي ذاته. لا بد من معارضة قسم من المجتمع الإسرائيلي للسياسات الحربية للحكومة الإسرائيلية معارضة نشطة، ومن نضاله من أجل تسوية سلمية، دائمة، قائمة على العدالة، وتقرير المصير، و نهاية كل أشكال الميز. هذا شرط أساسي، وحاسم، وهذا ما يجعل انتفاضة 1988 كانت هامة جدا، حيث أثارت أزمة حقيقية، عميقة، داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته. وعلى العكس، ما نشهد حاليا هو درجة تماسك عالية وإجماع الإسرائيليين على هذا العدوان الأشرس والأعنف في تاريخهم، والأمر نذير شؤم. و لن تكون النتيجة في هكذا شروط، حتى مع تكبد إسرائيل إخفاقات مثل إخفاق 2006، إثارة قطع أقسام هامة من سكان إسرائيل مع سياسة الحكومة (وأقل منه مع الصهيونية) ومعارضتهم للحرب، كما كانت حال قطاعات عريضة من سكان ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى أو السكان الأمريكيين إبان حرب فيتنام. ستكون النتيجة بالأحرى انزلاقات جديدة إلى يمين. لهذا السبب تظل اللوحة العامة بالمنطقة قاتمة جدا. كما سبق القول، إذا انتهى هذا الهجوم إلى فشل – وهذا ما نتمنى- نعلم مسبقا أن ذلك يعنى وصول ناتانياهو إلى السلطة، وهو أسوأ من القادة الحاليين. يصعب جدا التنبؤ بما سيؤول إليه هذا كله.
يبدو فعلا أننا إزاء حقبة خطيرة جدا بالنسبة للفلسطينيين، ربما أخطر لحظة منذ 1967. ُيتداول في إسرائيل في وسائل الإعلام، وفي المؤسسة، أمر نقل قطاع غزة إلى السلطات المصرية ومناطق آهلة بالسكان إلى الأردن. إذا جرى تطبيق خطة من هذا القبيل، فستكون، بلا شك، شؤما على التطلعات الوطنية الفلسطينية طيلة سنوات عديدة. ما التدابير التي يتعين بنظركم أن تتخذها القوى داخل المجتمع الفلسطيني لتحسين آفاق الحركة الوطنية؟
حقيقة ً، لا أرى الأمور كما تصفونها. أولا، الملكية الأردنية ذاتها ستخاف بالأحرى إن كان عليها أن تتسلم اليوم الإشراف على الضفة الغربية. لما كان ذلك منظورا فعليا أخذت بالحسبان نضالية الفلسطينيين المتنامية، وذلك ما جعل خطط الملك حسين قائمة على اتحادية تقضي بوجه خاص أن يكون للضفة الغربية أو الضفة وغزة حكومة ذاتية. بيد أن المشكل قائم حاليا في استحالة أن تعول الملكية الأردنية على أناس مثل محمود عباس للسيطرة على السكان الفلسطينيين. تدرك الملكية الأردنية أنها إزاء سكان جذريين جدا وأن التقاء جديدا، وانصهارا جديدا بين فلسطينيي الضفة الغربية و فلسطينيي الأردن، الذين باتوا أغلبية بهذا البلد، سيكون بالغ الخطر على الملكية الأردنية. هنا يكمن المشكل.
بلا شك سيكون التقاء جديد بين الضفة الغربية والأردن في صالح الفلسطينيين، لأن الدولة المستقلة المزعومة بالضفة الغربية وغزة عديمة المعنى. أنا متفق تماما، بصدد هذه المسألة، مع منتقدي حل الدولتين: لا معنى لدولة مستقلة مزعومة بالضفة الغربية، إن كانت ستقع رهينة بين إسرائيل والأردن كما بين المطرقة والسندان. إن الشعب الفلسطيني بحاجة، كي يتنفس، إلى المنفذ المتمثل في الأردن، ناهيك عن العلاقات الإنسانية والعائلية بين ضفتي نهر الأردن. ثمة وحدة تاريخية طبيعية للجماعة البشرية التي تعيش على ضفتي هذا النهر، ولكي تتمكن هذه الجماعة من ممارسة حق تقرير مصيرها لا بد من طراز حكومة مغاير في الأردن، حكومة ديمقراطية فعلا، وليس وضعا حيث أغلبية السكان مضطهدة من نظام ُيذكي الانقسامات العرقية ذات الطبيعة القبلية، كما الحال الآن.
لهذا السبب، لا اعتقد أن الحكومة الأردنية متحمسة لمنظور التقاء جديد بين الضفتين، ولا حتى أنها تفكر فيه بنشاط. لماذا قطع الملك حسين في العام 1988 علاقاته مع الضفة الغربية؟ ببساطة لأن الانتفاضة كانت في عزها في 1988 وأدرك أن هذه الضفة الغربية التي سادت عليها مملكته منذ صفقة جده مع الصهاينة عام 1948 – الضفة الغربية التي حكمتها المملكة بلا صعوبة كبرى حتى 1967- أصبحت مستعصية على التدبير بسبب الانتفاضة. كانت أصبحت محفوفة بالمخاطر، فقطع رسميا صلاته بها وتخلى نهائيا عن أي مطالبة بالضفة الغربية.
أتعتقدون أن الساحة السياسية الفلسطينية ستظل بين أيدي حركتي حماس وفتح في المستقبل المنظور، أم أن لبعض القوى الهامشية حاليا حظ في تبوأ مكانة أكبر؟
حقيقة ً لا أرى منظورا من هذا القبيل حاليا. أقصد أنه ليس ثمة حتى اللحظة منافسون للفاعلين الرئيسيين المتمثلين في حركتي حماس وفتح. فقدت القوى الأخرى، لا سيما اليسار الفلسطيني، مصداقيتها على مر السنين، بعد أن فوتت فرصا عديدة. لا يمكن والحالة هذه توقع أن تتطور فجأة بفعل معجزة، ما عدا إن انبثقت قوة جديدة – لم نسمع عنها بعدُ- وحتى في تلك الحالة يلزمها وقت لتنضج. ما سيجري، في الوضع الراهن، هو تطورات جديدة داخل القوتين المستقطبتين المجتمع الفلسطيني، وصراع بين مختلف أجنحة حركة فتح، و داخل حركة حماس أيضا. ليس أي من هاتين القوتين وحيدة الاتجاه، لأنهما كبيرتان ولهما قاعدة جماهيرية.
لذا يمثل حدوث تغيرات داخل هذه الحركات أمرا أرجح حاليا من صعود حركات جديدة خارجها. بعد قول هذا، آمل كثيرا أن تتمكن قوة ثالثة من الظهور، قوة تكون حركة تقدمية، مستندة على تقاليد اليسار القائمة بين الفلسطينيين والتي لا ُيستهان بها، حتى في غزة، رغم أنها غير قوية بما يكفي لموازنة حركة فتح أو حركة حماس. أتمنى كثيرا أن تنبثق قوة يسارية وتصبح فاعلا كبيرا على الساحة الفلسطينية. لكن بصراحة، خارج الأمل والتمني، ليس هذا لحد الساعة منظورا واقعيا إذ لا نرى مقدماته.
تعريب: جريدة المناضل-ة
*جلبير الأشقر: عاش سنوات عديدة بلبنان واستقر في باريس ثم ألمانيا والمملكة المتحدة حيث يدرس حاليا بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن. كتب وشارك في كتابة مؤلفات عديدة منها : صدام الهمجيات (2002 – دار الطليعة )، والشرق الملتهب (2003 –دار الساقي) وحرب 33 يوما ( مع ميخائيل فارشافسكي – دار الساقي) و السلطان الخطير ( 2007 مع ناعوم تشومسكي). يصدر كتابه المقبل العرب و محرقة اليهود في خريف 2009.
أجرى المقابلة التالية دانيال فين
Daniel Finn
يوم 10 يناير الأخير للمجلة الالكترونية الايرلندية
Irish Left Review
. و نقلتها إلى الفرنسية آن سبانيولي
Anne Spagnoli
المشرفة على الموقع السويسري
Non à la guerre !