ما بعد العدوان على غزة
بيان إعلان دمشق
لقد شنّت إسرائيل عدواناً وحشياً وغير مسبوق ضد شعبٍ أعزل ومحاصر في قطاع غزة، تذرّعاً بالصواريخ التي أطلقتها حماس ومنظمات مقاومة أخرى، ومارست ما لم يكن ممكناً تخيّله من فنون القتل والتدمير والاستخدام العاري والمفرط للقوة مخلّفاً وراءه آلاف الضحايا ثلثهم من النساء والأطفال.
ما حصل في غزة كان كبيراً، وستكون له تداعياته على مستقبل المنطقة وعلى منظومة القيم التي تؤطّر الأداء السياسي في العالم المعاصر. وفي هذا السياق، برز التضامن العالمي والإنساني من شعوب الأرض كافة مع الشعب الفلسطيني في وجه الصلف الصهيوني والقوى الداعمة له. وربما أفرزت جراح غزة لغةً عالمية جديدة، تقول بوجوب وقف قتل المدنيين العزل بشكل نهائي والتطبيق الصارم للاتفاقات الدولية ذات الشأن؛ ومنها اتفاقات جنيف؛ وأن القتلة يجب ألاّ يفلتوا من العقاب.
على الرغم من أن جراح غزة ما تزال طرية، وحالة الهياج العاطفي من هول ما حصل ما زالت حاضرة، لكن لا بدّ لصوت العقل أن يجد له مكاناً. فقد بيّن العدوان على غزة، وأكثر من أي وقت مضى، خطورة الانقسام الفلسطيني على القضية الوطنية الفلسطينية وحلم الشعب الفلسطيني في الحرية وبناء دولته المستقلة، وبدا كأن الإنجازات التي راكمتها تجربة النضال الفلسطيني الطويلة والدامية قد ذهبت أدراج الرياح، أو هي ماضية في هذا الطريق.
وأياً تكن الحجج التي تُساق لتبرير هذا الانقسام، إيديولوجيةً كانت أم سياسية أو مصالح حزبية ضيقة، فإن الفلسطينيين، وفي المقدمة منهم النخبة الفلسطينية، لا يغيب عنهم حقائق التاريخ التي أنضجتها التجربة البشرية، مع التنويه بأن النخب العربية ولأسباب ذاتية ومصلحية، لعبت دوراً سلبياً وتضليلياً بحق الفلسطينيين، وساهمت في انقسامهم وديمومة هذا الانقسام. ولعل في مقدمة تلك الحقائق:
1ً- إن قوة القضية الفلسطينية، كانت وستبقى، ليس فقط في عدالتها، بل في بُعدها العالمي، من حيث هي قضية شعب تعرض لاحتلال استيطاني، وله كل الحق في تقرير مصيره ورفع الظلم عنه. وانحازت شعوب الأرض إلى جانب الشعب الفلسطيني، وتَشكّل على مدى العقود الماضية رأي عالمي داعم للقضية الفلسطينية، رافقه تحول تدريجي وبطيء في عالم الدول ومواقفها في هذا الشأن.
وقد توصّل العالم أخيراً، أو لنقل الفاعلون فيه، إلى خيار الدولتين، وضرورة أن تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة عل الأراضي المحتلة عام 1967في الضفة والقطاع، الأمر الذي يجعل انفصالهما أمراً بالغ الخطورة على لقضية الفلسطينية.
أغلبية الشعب الفلسطيني إلى جانب هذا الخيار. ومنذ انطلاق عملية السلام على المسار الفلسطيني التي عطلها التطرف الإسرائيلي ومماطلة الإدارات الأميركية والظروف الناشئة بعد الحادي عشر من أيلول، ما زال هذا التوجه يصطدم بالتهرب الإسرائيلي والضعف العربي، إلا أن المهم للفلسطينيين هو ألا يسمحوا بإدارة الظهر لهذا الخيار، لأنه الخيار الوحيد الممكن في ظل التوازنات الدولية القائمة في عالم اليوم.
2ً- يعرف الفلسطينيون، كما تعرف النخب العربية أن الثورة وسيلة والدولة غاية، لأن الدول هي التعبير السياسي والحضاري عن كينونة الشعوب. وإذا كان من حق الفلسطينيين كشعب محتل أن يختلفوا حول أولوية الثورة أو الدولة، فإن الخطأ كل الخطأ يكمن في ممارسة هذا الاختلاف خارج إطار إنجاز المشروع الوطني العام الذي بلورته تجربة النضال الفلسطيني وكرسته قرارات قمة الرباط، باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني؛ كما اعترفت بها الأمم المتحدة وكذلك فعلت دول العالم؛ وهو ما أسّس لكل التطورات اللاحقة. من هنا فإن التنازع على شرعية التمثيل الفلسطيني سيصيب مقتلاً من القضية ومستقبلها.
إن من حق الفلسطينيين، بل من واجبهم، أن يقاوموا، وأياً يكن شكل المقاومة، وأياً يكن شكل المقاومة التي يرتئيها هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، فإن هذه المقاومة يجب أن تندرج في إطار المشروع الوطني، وأن تكون في خدمته قولاً وفعلاً، فهو الذي يضبط إيقاعها بما يضمن تقدم القضية نحو أهدافها، وقاعدته وحدة الفلسطينيين وتوافقهم ووعيهم بأن قضيتهم قضية وطنية، قبل أي توصيف آخر، عربي أو إسلامي أو غيره.
3ً- إن الدول، على خلاف الأنظمة السياسية، ذات رسوخ تاريخي كبير. وقلّما قامت دولة أو زالت أخرى إلا بقرار دولي، وبالتالي فإنه من الخطأ أن يكون مشروع الدولة الفلسطينية رهناً بالتجاذبات العربية والإقليمية. وعلى العرب ألاّ يتدخلوا في الشأن الفلسطيني، إلاّ بما يخدم وحدة الفلسطينيين ومشروعهم، وألا يسمحوا للدول الإقليمية أن تتخذ من القضية الفلسطينية مدخلاً لسياستها التوسعية في المنطقة.
4ً- إن قوانين التاريخ لا تسمح أبداً بفراغ القوة الاستراتيجي. والمنطقة العربية بموقعها الحساس وإمكاناتها الهائلة تعاني انكشافاً فاضحاً في هذا الشأن، وأصبحت ساحة لتصادم القوى الدولية والإقليمية.
إن فشل النظام الرسمي العربي، والنخب العربية التي انحازت إلى مشاريعها الإيديولوجية الخاصة على حساب مشروع الأمة، منع من مراكمة العمل العربي المشترك وأضعف القدرة على مواجهة الاستحقاقات الكبرى، وآخرها عدوان غزة. فعلى الرغم من تعدد القمم والتحركات، فشلت قمة الكويت باستصدار بيان ختامي ذي معنى وعلى مستوى الحدث.
وفيما يخص ما حصل في قمة الكويت من بوادر مصالحة سورية سعودية مصرية، نأمل بأن تكون جادة، وأن تفتح الطريق أمام عودة سوريا إلى حضنها العربي، الأمر الذي طالما دعونا له نحن في إعلان دمشق، إيماناً منا بأن التلاقي المصري السعودي السوري شكّل دوماً ضمانة الحد الأدنى لتماسك الموقف العربي.
إن العدوان على غزة، كواحد من الأحداث الكبرى، ترك دروساُ وعبر من المفيد للعرب أن يقفوا عندها، إذ طالما تجاهلها الخطاب التعبوي العربي، ومنع من تقليبها وبحث سبل فهمها وتجاوزها، الأمر الذي أبقى الأداء السياسي العربي في التاريخ الحديث متشابهاً ومكروراً.
العبرة الأولى، هي أننا ومنذ هزيمة ال67 في حالة انتصار دائم، مرةً بدعوى بقاء الأنظمة التقدمية، ومرة أخرى بدعوى بقاء المقاومات، ونتجاهل عن عمد التباسات الحروب الحديثة حول مفاهيم الهزيمة والانتصار، مما بات يستدعي الوقوف عند هذه المفاهيم ومراجعتها، كي نعرف وبشكل واقعي أين نقف وماذا سنفعل. لقد آن لنا أن نًنزل الانتصارات من رؤوسنا إلى أرض الواقع، لأننا لا نملك من مقومات الانتصار، في ظل الوقائع العربية القائمة، سوى إرادة الشعوب التي لم تنكسر. وهذا جيد ولكنه غير كافٍ. لأن الجميع يعرف أن هذه الشعوب كانت وستبقى بعيدة كل البعد عن مراكز القرار ما دام الاستبداد هو القاسم المشترك الأعظم بين أنظمتنا العربية.
والعبرة الثانية، هي ذلك المشهد المشجع الذي أبدته شعوبنا التي خرجت في كل عاصمة ومدينة عربية تضامناً مع شعب غزة وتنديداً بالعدوان. لكننا على ثقة بأن كل عربي يعرف في قرارة نفسه، أنه إذا لم يأت الوقت الذي يستطيع فيه هذا الإنسان الخروج إلى الشوارع العربية نصرةً لقضايا الحرية والكرامة والخبز في وطنه، وعلى الدرجة نفسها من الحماس والحرية التي يخرج فيها من أجل فلسطين أو العراق أو سواهما، فإن صوته سيبقى عابراً دون صدى أو فاعلية، لأن قضية الحرية واحدة لا تتجزأ.
الشعب الفلسطيني في غزة، يحتاج إلى تضامن العرب جميعاً والوقوف إلى جانبه، كي يستطيع لملمة جراحه وإعادة البناء وفك الحصار، وضماناً ألاّ يتكرر العدوان.
عاشت وحدة الشعب الفلسطيني..
وعاشت سوريا حرة وديمقراطية.
في 27/1/2009