مـن أيـن يأتـي روح الفـداء الفلسـطيني؟: علينــا أن نفهــم أنفســنا
نجيب جورج عوض
في أكتوبر من عام ٢٠٠٦، كتب المؤرخ والباحث الإسرائيلي إيلان بابي (Ilan Pappe)، أستاذ كرسي قسم التاريخ في جامعة أكستر، بريطانيا، للمجتمع الناطق والقارئ باللغة الإنكليزية كتابه »تطهير فلسطين العرقي« (The Ethnic Cleansing of Palistine). يقدم بابي في كتابه المذكور عرضاً تأريخياً وتحليلاً علمياً مجهرياً لا ينقصهما الشجاعة ولا المصداقية للتطهير العرقي المنظم الذي مارسته الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني منذ تأسيس دولة إسرائيل في منطقتنا، عارضاً للمذابح والأعمال الإجرامية البشعة التي تثير الهلع والتي مارستها قوات وعصابات الدولة العبرية المسلحة منذ عام ١٩٤٧ ضد شعب أعزل ومسالم برمته. وهو لا يتوانى عن تسمية تلك المذابح والفظائع بأسمائها ولا عن رفضها وإدانتها، مقدماً في المحصلة لنا مرجعاً قيماً سيبقى للتاريخ يمثل صوتاً من قلب فضاء الدولة العبرية يتحدث عن إجرامها وما ارتكبته من فظائع في حق شعبٍ ضعيف وأعزل ويفتقر للسند والعون الحقيقيين من أقرانه العرب.
لست بصدد عرض الكتاب وتحليله في هذا المقال، مع أنَّ الكتاب يستحق برأيي أن يترجم إلى العربية ويحظى بكل اهتمامٍ ودراسة من قبل مثقفي وقراء المنطقة العرب. ما أود التعليق عليه هو جملة قالها الكاتب بابي في سياق عرضه للمحــاولات الفاشـلة التي قام بها بعض المقاومون العرب علــى مشارف نكبة أيار ١٩٤٨ في الفصل الخامس من كتابه المذكور. يبين بابي في هذا الفصــل افتقار المقاومة الفلسطينية للعتاد الحربي وللخبر ة العسكرية في مواجهة عصابات مسلحة ومدربــة وتفوقها خبرة عسكرية عملت بشكل منظم ومحــترف على تدمير قرى عن بكرة أبيها واقتراف مذابح في حق المئات من الأبرياء العزل، ناهيك عن تهجير وطرد الآلاف.
ويشير في معرض حديثه هذا إلى الفارق العددي الواسع بين أعداد المتطوعين للمقاومة وأعداد الإسرائيليين في تلك المواجهات، مشيراً إلى امتناع الدول العربية المجاورة لفلسطين، مثل الأردن مثلاً، عن إرسال جيوشها أو السماح للمتطوعين من أبناء شعوبها بالمشاركة في تلك المقاومة؛ مركزاً بشكل خاص في ذاك الفصل على موقف نظام الأردن الحاكم الذي، بحسب بابي، امتلك وقتــها أفضل جيشٍ نظامي عربي من حيث العتاد والتدريب والتعبــئة تلك الفترة، إلا أنه فضل التفاوض مع الإسـرائيليين على ضم الضفة الغربية إلى الأردن مقــابل تحييد الجيش الأردني عن المعركة التي كانت على وشك الاندلاع.
النصيحة
في إطار عرضه لمسألة الفارق العددي بالتحديد، يقول بابي جملة أترجمها بتصرف إلى العربية كما يلي: »لم يفتقر الفلسطينيون إلى راغبين بالتطوع للمقاومة من أجلهم. العديد من الناس في الدول العربية المحيطة خرجوا وتظاهروا ضد تقاعس حكوماتهم عن عمل شيء. الآلاف من الشباب كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل الفلسطينيين. لقد كُتب الكثير عن هذا الشعور العاطفي الفياض، إلا أنَّ هذه الظاهرة تبقى أمراً غامضاً ومن الصعوبة أن يكون عادلاً في الواقع عزوها لمجرد تعاضد عروبي. قد يكون أفضل تفسير »لاستعداد الآلاف للتضحية بحياتهم فداءً للفلسطينيين« هو أن فلسطين مثل الجزائر مثلتا نموذجي صراع عنيف وشجاع ضد الاستعمار، هذا الرفض للاستعمار الذي ألهب الحماسة الوطنية والقومية عند الشباب في بلدان الشرق الأوسط العربية، في حين أنَّ حركات التحرر الوطني في أجزاء أخرى من العالم العربي أخذت طابع المباحثات الدبلوماسية الأقل حماسة بكثير. إلا أنني أشدد ثانية على أن ما قلته مجرد تحليل منقوص لرغبة شباب بغداديين ودمشقيين بالتخلي عن كل شيء من أجل ما اعتبروه مهمة مقدسة، وليس بالضرورة مهمة دينية.
»لقد كتب الكثير عن هذا الشعور العاطفي الفياض، إلا أنّ هذه الظاهرة تبقى أمراً غامضاً«. أرى في وقــفة مؤرخ إسرائيلي مثل بابي أمام هذا الاستعداد القــوي للتضحية فداءً للآخر، الذي قرأه هذا الأخير بتبصر في موقف الشباب العربي، نقطة جوهرية وهامــة جداً يجب أن تستوقفنا اليوم أيضاً. استــوقفني بعمق شديد خلال أحداث غزة الأخيرة، وأنا أتابع من على الإنترنت من أميركا يوماً بيوم وساعة بساعة فظائع الدمار والقتل والعنف الذي يفوق حدود التصور، أخبار مواقف الجــمهور على امتداد بلداننا العربية تجاه ما يحصل. توقفت بصمت ورهبة أمام مطالبة الآلاف المؤلفــة من الناس (غالبيتهم من الشباب) في كافة الدول العربية، خاصة دول الطوق المخاصرة لبؤرة الصراع، لأنظمتها الحاكمة إما بالذهاب بجيوشــها (المشكّـلة لحماية الأنظمة في الدرجة الأولى والأخيرة وليس أي شيء آخر) لنصرة أبرياء ومواطني غزة أو فتح حدودها وتسليح الناس والسماح لهم بالذهاب للموت من أجل أو مع الفلسطينيين.
ظاهرة عميقة وإنسانية استوقفت إيلان بابي في تأريخه لقصة الصراع التاريخية، وهي برأيي تحتاج من العرب قبل غيرهم التوقف عندها اليوم أيضاً. إنها ظاهرة تتطلب من الأنظمة العربية قبل سواها أن تحللها وتفكر فيها عميقاً وبلا كلل، بل وربما تصبح أنظمة تخدم شعوبها ولا تقمعهم، بل تحترم إنسانيتهم بسببها. يجب أن تستوقفنا جدياً حقيقة أن أولئك الذين أعلنوا استعدادهم للتضحية من أجل الفلسطينيين ليسوا مجرد أفراد بسطاء سذج، محدودي التعليم أو الثقافة، تسيـّرهم عواطف مجردة أو انفعالات عمياء. وهم ليسوا كذلك مجرد أشخاص تسيـّرهم عقيدة »أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً،« أو فكرة الجهاد العقائدي والــتوق لجنة الخلد. لست أنكر أبعاد العاطفة والشـعور القــومي والديني وربما العرقي والقبلي التي تسيطر على العقل العربي وتتحكم به عند كثيرين. إلا أنني أقول أنه لا يوجد سبب علمي منطقي لافتراض تلك الأبعاد دائماً أو عند كافة أطياف العرب بشكلٍ تعميمي وبديهي. أو عند أو أتوقف هنا عند حقيقة أنَّ صرخة الشارع العربي كانت أيضاً صرخة أهل علم وثقافة ومعرفة، صرخة علمانيين وليبراليين وأشخاصٍ لا يؤمنون بالجهاد العقائدي أو التطرف بأي نوع من أنواعه. كانت صرخة تبدو لي عامة وشـاملة أكــثر مما نعـتقد أو نريد أن نعتقد، أكثر مما نفهم » أو نـريد أن نفهم أنفسنا«.
من أين نبدأ
ما الذي يجعل الشارع العربي الشاب المعاصر مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل الفلسطينيين؟ ما الــذي يجعل شاباً وشابة في مقتبل العمر وعلى مشارف المستقبل يعلنان استعدادهما للتضحية بكل شيء ونصرة آخر في أرضِ سمعوا عنها ولكنهم لم، وربمــا لن، يزوروها يوماً؟ هل الشــباب العربي مجرد قطيعٍ يدار بالعصا أو مجرد بحر بشري تهوج فيه أمواج العاطفة العمياء والانفعالات الحسية بعيداً عن العقل والمنطق والعــمق الإنساني؟ قد تكون تلك نظرة أعداء العــرب لهم اليوم، لا بل وقد تكون تلك النظرة هي الرؤيــة المضمرة عند حكام الأنظمة العربية أنفسهم تجاه شعوبهم. ناهيك عن أنها نظرة صنعها عن العرب أمام العالم أتباع تيار التطرف الذين يرون في العــنف والموت حلاً لأي صــراع أو لإعــلان أي موقف أو لنيل أي حق. من لا يرضى باخــتزال الإنسان العربي إلى مجرد أداة بيد سلطة أو كائن انفــعالي لا عقلاني أو إرهابي متطرف يقف حتماً ليسأل عن كينونة استعداد الآلاف في العالم العربي لفداء الفلسطينيين، خاصة الشباب المعاصر الذي لم يولد في عام ١٩٤٨ ولم يعش أحداث وتبعات الخسائر العربية المتوالية أمام إسرائيل بشكل مباشر، أو ذاك الجيل الشاب الذي لم يتشرب في خلفيته الأسرية أو التربوية أفكاراً عروبية مثل »بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد«، أو مفاهيم دينية مثل »أمة الإسلام« أو لم يتربَّ في خلفية أسرية عشائرية أو قبلية الطابع.
ألا تستحق ماهيـة هــذا الجيل، الذي صرخ عالياً استعـداه لفداء غزة في الجريمة الإسرائيلية الأخيرة، منا تحليلاً معمقاً على المستوى السوسيــولوجي والانــثربولوجي والثقافي؟ ألا يجــب علـينا أن نفــهم أنفسـنا؟ هذا ما يدعـو إليـه إيــلان بابي حين يعـترف بأن تلــك الظاهـرة الفدائـية تحــيّر عـدو العرب نفـسه وتجعل عقــلاء الطــرف الآخـر من جدار العــداوة والصراع يتوقـفون ويتساءلون عن مكونــات ومصدر ومسـببات هذا الخــزان الهائل من روح الاستعداد للتضحـية بكل شـيء لأجل الآخر. على مدى الستين سنة الماضية من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، يبــدو لي أنَّ عدونا تعلم عنا وفكر بنا وأمضى وقــتاً طويلاً في تحليلنا ودراسة تركيبتنا السوســيولوجية والانثربولوجية والثقافية (بصرف النظر عن نجاحه أو فشله) أكـثر بعشــرات، بل بآلاف المرات من الوقت الذي قضته الأنظـمة العربية ومعــها طابور مثـقفـيها ومفكــريها وخبرائها ومنظريها الخامــس لا في فهــم عدوها فقط (هذا إن كان عدواً للأنظـمة فعــلاً) بل وفي فهم تركيبة شعوبها وماهية الإنســان العربي المعاصر قبل أي شيء آخر. وهي إن توقــفت عند صراخ الشــارع ومطالبه، فإنَّ ما يجعلها تفعل هذا هو الخوف لا الرغبة بالفهم والتواصل.
تخاف الأنظمة العربية من ردات أفعال شعوبها الغاضبة وتحسب لها حساباً فقط من زاوية الحرص على البقاء وحماية السلطة والنفوذ. هذا فقط وليس أي سبب آخر ما يمكن مثلاً أن يجعل القادة العرب يعلنون في إحدى قممهم العقيمة المصالحة في ما بينهم والتعالي على الخلافات والتعاضد معاً في سبيل القضية وخير الأمة. إلا أنَّ لا أحد من تلك الأنظمة وأتباعها من أصحاب القلم والفكر والكلمة والتحليل يصرف حتى الآن وقتاً في التفكير بتركيبة الشارع العربي المعاصر واستعداد جيل اليوم العميق للتضحية بكل شيء وللموت في سبيل ما يعانيه آخر يجاوره في المنطقة. ما الذي يجعل هذه الروح الفدائية والتضحوية مستمرة وحاضرة من جيل إلى جيل وما الذي يعطيها الديمومة والحياة برغم التاريخ والزمن؟
السؤال
كتب إيلان بابي عن تطهير الصهيونية العرقي ضد الشعب الفلسطيني لا ليحلل فقط الإنسان العربي، بل ليحلل في الدرجة الأولى أمته ودولته وذهنية مؤسسيها. كتب ليخاطب الشارع الإسرائيلي والشارع المعاضد له ويدعوهما للتوقف عند البعد السوسيولوجي والثقافي الذي يكمن وراء جرائم وفظاعات ارتكبها الصهاينة في حق أبرياء وأصحاب حق وأرض من خلال إشارته إلى أنَّ الإنسان الذي يقف على الضفة المقابلة عنده قابلية للتضحية ولفداء الآخر المسحوق لا تقف في وجهها جرائم وقوة وهيمنة عسكرية وسياسية وعرقية قامت عليها دولة إسرائيل. من يا ترى يكتب اليوم في العالم العربي عن الشارع العربي وما يتصف به أبناؤه من هوية وتركيبة إنسانية في ضوء ما يأخذه هذا الشارع من مواقف حيال مصير الشعب الفلسطيني؟ من يتأمل في الجيل المعاصر ويدرس قابليته للتضحية وكيفية تعامله مع مشاكله وما يعصف به وبأخوته في البلدان العربية الأخرى من أزمات؟ ما الذي يجعل الإنسان العربي المعاصر ما هو عليه كإنسان؟ ما الذي يكمن خلف استعداد الشباب للموت وربما ترحيبه به كحل، كموقف، كمبدأ أو ربما أحياناً كهدف؟ ما الذي يجعل المفكرين العرب يخلون الساحة في هذا الإطار للحركات المسلحة والعنفية كي تستثمر هذا الاستعداد في خدمة طروحاتٍ وحركات مقاومة قد لا تخدم في المحصلة هـذا الشـارع بل تزيـده ضعفاً وخسائر؟
لطالما سألني أصدقائي الغربيون: ما الذي يجعلك تتعاطف مع الفلسطينيين وتدافع عن قضيتهم بهذه الجدية، وما الذي يجعل الشعب السوري أو اللبناني أو العربي عموماً يتفاعل بكل هذا العنفوان والحيوية مع الفلسطينيين؟ هل لأنكم كلكم عرباً؟ أم لأنَّ الفلسطينيين مسلمون؟ أم لأنَّ حكوماتكم الديكتاتورية تجبر الناس على هذا؟ أجيب على الاحتمال الأول بما قاله بابي في جملته، »المسألة أعمق من مجرد تضامن عروبي. إنها بالنسبة لمعظم الجيل العربي المعاصر مبدأ إنساني مقدس«. وأجيب على الاحتمال الثاني بالقول »الفلــسطينيون ليسـوا مسلمين فقط، كما أنَّ العرب ليسوا مسلــمين فقط أيضاً. المسألة أبعد من دين، مــع أنَّ المقاومات المسلحة التي نشأت باسم القضية أساءت لها بأن أسلمتها قلباً وقالباً«، وأجيب عن الاحتمال الثالث بالقول »الكثير من الذين ترونــهم يهتــفون في الشوارع العربية من أجل فــداء الفلســطينيين قد يكونون من المعــارضين بشدة وبشكل جذري لأنظمـتهم الحــاكمة، لا بل ويتمنون ربما سقوطها والتخلص من قبضتها الحديدية. كما أنهم قد يكونون في العــمق غــير مقتنعين بجدوى المقاومة العنفية والمسلحة الإقصائية التي لا تحسب دوماً النفقة«. ما أود قوله بهذا لأصدقائي أنَّ هناك الآلاف من الشباب العرب المستعدين للموت وللتضحية من أجل الفلسطينيين لسبب أعمق من أي من الأسباب الثلاثة الأخرى.
يمضي أصدقائي أكثر حيرة مما كانوا قبل أن يطرحوا السؤال وأمضي أنا أيضاً ساهماً في سؤال عميق جداً عن ظاهرة عضوية في المشهد العربي كما يبدو لي؛ ظاهرة لم نتوقف لندرسها ونتعلم من تحليلها شيئاً كعرب حتى هذه الساعة. ظاهرة استوقفت إسرائيلي كإيلان بابي وجعلته يفكر ويحاول أن يتعلم.
([) كاتب سوري في الولايات المتحدة