كيف نحمي المدنيين في الحروب اللاحقة ؟
زياد الصائغ
أمام دماء المدنيين الابرياء صمت صارخ. ثورة جامحة. دمعة ساخنة. الانفعالية العاطفية بإزاء ما شاهدناه من عهر اسرائيلي إجرامي في غزة لم يتوقف منذ أكثر من ستين عاماً على امتداد الخريطة العربية، تبقى من قبيل الاحساس الانساني الصادق. إنما لا بد من وقفة تأمل عقلانية في كيفية حماية المدنيين بالرؤية السياسية والديبلوماسية التي تُترجم حقوقياً وقانونياً، دون إغفال جوهرية الصمود الميداني. من هنا يتبدى أن بين عدوان تموز 2006 على لبنان وعدوان كانون الاول 2008 على غزة تشابه صميم، يتقاطع مع السعي الحثيث للشعبين اللبناني والفلسطيني على الانتفاضة في وجه من يجد في الإبقاء عليهم في حيّز الساحة المستباحة والورقة الممسوكة، يفاوض بدمائهم الصارخون بالحناجر المدوية والقبضات المرفوعة، ويساوم على حقهم بالقرار الحر الباحثون عن حمايات لانوجادهم في دياجير الشعارات المستنزفة.
ومهما يكن من أمر التصنيفات بين “الممانعين” و”المستلمين” على ما يهوى محترفو التحالفات الموضوعية إطلاقها، فإن البحث الفاعل في إمكان ترسيخ الصمود في وجه الاحتلال من جهة، وإلحاح تحييد الابرياء العُزّل من جهة ثانية، يقتضيان الاضاءة على أجندات ثلاث عنيت الاجندة اللبنانية – الفلسطينية المتشابهة، والاجندة العربية المحتاجة للتزخيم، والاجندة الدولية مقلوبة، كما على نوعيتي المقاومة والمفاوضة.
1- الأجندة اللبنانية – الفلسطينية متشابهة
في عدوان تموز 2006 على لبنان كانت الحكومة والجيش و”حزب الله” والشعب يقاومون معاً. وفي عدوان كانون الاول 2008 على غزة، “حماس” والفصائل والشعب قاوموا معاً. إبان عدوان تموز 2006 خوّن لبنانيون آخرين كما بعض العرب متهمين بالتواطؤ. كذا الامر في فلسطين. منذ بداية عدوان غزة استعيد التخوين في لبنان. ينسى بعض اللبنانيين وبعض الفلسطينيين أن أكبر خدمة تقدَّم لاسرائيل هي نسف الوحدة الوطنية. ويتناسون أخطاءهم الاستراتيجية التي أدت الى تصويب البندقية في اتجاه من هم وإياهم إخوة في المصير.
إن استباحت اسرائيل دماءنا فلأن بعضاً منا نحا نحو التطييف، والمذهبة، والتحزّب، والأدلجة، واستوهم السلطة، وباتت القوة الفتاكة لغته لا الحجة الدامغة. الوحدة الوطنية في لبنان وفلسطين حجر الاساس في أي انتصار على اسرائيل، لا المزايدات المهترئة. والوحدة الوطنية تقتضي صون استقلالية القرار وتوفير مقومات الصمود من الملاجئ الى السلاح، ناهيك بأوسع مروحة من العلاقات الداعمة بقراءة جيو – سياسية، لا باعتلاء المنابر الاعلامية هنا وثمة على أشلاء أطفال يستحقون الحياة، ويأنفون زجّهم في رهانات الكبار الانتحارية.
قد يكون الحوار بين الفصائل الفلسطينية الذي تحتضنه القاهرة بالشامل او التجزئة مدخلاً تأسيسياً لتوحيد الاجندة الفلسطينية بالاستراتيجيا مع بحث تكتيكات الصمود، والاّ يخسر الفلسطينيون القضية، فأي شرعية تعيش بالرؤية الموحدة. في هذا السياق لا بد من الاشارة الى أهمية تنبّه اللبنانيين الى أن تركيا التي كانت وسيطة اساسية مع القاهرة إبان عدوان غزة تصرّ على ما رشح من معلومات على دور لسوريا وقطر وايران في أي تسوية، وقد تُثار على الطاولة مسائل متعددة منها السلاح الفلسطيني في لبنان داخل المخيمات وخارجها. من هنا أهمية أن يكون للبنان صوت مسموع في هذه المسألة السيادية بامتياز، لاسيما وانه محصّن بإجماع لبناني كما من الشرعية الفلسطينية، ما يرسّخ سياسة التحييد التضامني مع شعب غزة، التي تمكّن فيها لبنان، وفي مشهد رمزي معبّر، من جمع منظمة التحرير الفلسطينية وممثل حركة “حماس” فيه، على أجندة واحدة، في مقدمها عدم استباحة السيادة اللبنانية، رغم الاختراقات المشبوهة في هذا السياق. ربما حوار القاهرة محطة اساسية في محاولة إنفاذ قرارات هيئة الحوار الوطني ما يتواءم ومنطق “الظروف الملائمة”.
2- الأجندة العربية والتزخيم
تحتاج هذه الاجندة تزخيماً في الوقاية والفعل أكثر منه الاستشفاء ورد الفعل. كما يحتاج بعض العرب وقف فبركة التمحور والتموضع بحسب مصالح غير عربية. واللبيب من الاشارة يفهم. والتزخيم الوقائي الفعل يقتضي الاستثمار في أجدى رؤية ثقافية سياسية وديبلوماسية واعلامية للضغط على مواقع القرار. فاسرائيل لدى هذه المواقع أقوى. أما المراهنون على التصويب في اتجاه هذه المواقع ناهجين العزل والانعزال خصوصاً في لبنان وفلسطين، فما عليهم الاّ التنبه الى أن من يساندهم شعاراتياً، مسدياً النصح، مستنكراً، لا يحرك ساكناً في اتجاه حقن دمائهم من ناحية، ولا يتجه لإيلام العدو من ناحية أخرى.
الاجندة العربية لا تستقيم الا اذا تحركت بديبلوماسية هجومية، وفي هذه الديبلوماسية ذروة الاستراتيجية الدفاعية، لتقارع الأخطبوط الاسرائيلي. قد تكون المسألة افتقاد كوادر، لكن من طرازي غسان تويني وبطرس غالي أكثر منه أولئك الصاعدون تهويلاً وتحريضاً ولا من يسمع. القرار 1860 و1701 انتزاع لبناني وفلسطيني وعربي شرعي من الشرعية الدولية. أما المصافحات التي شهدتها قمة الكويت، فربما الأجدى اعتبارها اعترافاً بالادوار، ولو متخاصمة، والملح توافق على الحد الادنى، أقله في تحييد عملية إعادة إعمار قطاع غزة عن مزايدات المحاور، كما أولوية الدفع في اتجاه إنشاء حكومة وحدة وطنية فلسطينية لا تكريس الانقسامات بالشعارات التي باتت فارغة الا من اقتناع مطلقها بقدرتها على تحسين مواقع المفاوضة.
3- الأجندة الدولية مقلوبة
حتى الآن الاجندة الدولية تعنيها اسرائيل أولاً. ومن يلتمس الحماية من اسرائيل ثانياً. تغيير الاجندة استُهل منذ عدوان 2006، واستكمل منذ عدوان غزة، ذلك عبر تحركات شعبية ضاغطة، وبعض المواقف الرسمية الدولية الممتعضة من اسرائيل رغم ادعائها صداقتها. فاعلية التغيير تتطلب اختراقاً جدياً في الولايات المتحدة الاميركية، عنيت اختراقاً في عهد أوباما الجديد، عبر تكوين المجموعة العربية كتل ضغط على كل المستويات، وتناسي الانزلاق في تصفية حسابات على حساب القضية المركزية أي فلسطين المحتلة وأهلها، ودولتها القائمة بالقوة بحسب القرار 181. ويجب ألا يغيب عن ذهننا أهمية أن يؤدي الاتحاد الاوروبي دوراً توازنياً في الدفع في اتجاه حل الدولتين، لا مساندة اسرائيل في الإبقاء على حال قطاع غزة منفصلة عن الضفة، والغمز من قناة أنها مع هذا ضد ذاك، والحقيقة أنها ضد الاثنين.
إن هذه الاجندات الثلاث يرسّخها توافق الشرعيات الوطنية والعربية والدولية على الحد الأدنى من إحقاق العدل والحد الأقصى من احترام حقوق الانسان. أما من قرّر رفع السلاح في وجه الشرعيات لإخضاعها او تطويعها، لإنهائها او تقزيمها، عبر فرض أمر واقع بخيارات محسومة سلفاً، تراه مرتاحاً لثيوقراطية اسرائيل وديكتاتوريتها، إذ انها قائمة على التطرّف ويستهويها التطرف ديمومة وجود والا تفقد المبرر. شرعية الدبابة منطق اسرائيلي منذ ما قبل 1948. وهنا يتبدى سؤال قائم على معادلة انتحارية مفادها أن من المستفيد من أسلمة القضية الفلسطينية عدا طارحي يهودية اسرائيل؟
أما في ما يتعلق بنوعيتي المقاومة والمفاوضة، أما آن أوان الانخراط في بناء عقل مقاوم، واقتصاد مقاوم، وتنمية مقاومة أكثر منه تكديس التجارب المدمرة؟ أوَلم يحل وقت منهجة العمل المفاوض؟ واليقين أن أكثر المدّعين الممانعة أقدرهم احترافاً للمفاوضة، فرويداً رويداً أيها المستجيرون بالرمضاء…
زياد الصائغ
(كاتب)