قضية فلسطين

لكي ننهي الانقسام والاحتلال

د. علي الجرباوي
مواجهةً للفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال في حربه المجنونة على قطاع غزة، واعتزازاً بالصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وقدرته المتجذرة والمتجددة دوماً على مقاومة الاحتلال، وإجلالاً لأرواح الشهداء، وإكراماً للجرحى، وتقديراً للمعاناة الفلسطينية المتفاقمة في القدس والقطاع والضفة والشتات، يتوجب على جميع الفلسطينيين الحريصين فعلاً على حماية المشروع الوطني للشعب الفلسطيني العمل الفوري على إنهاء حالة الانقسام السياسي الحالية، ورعاية انبعاث وحدة وطنية فلسطينية. هذه الوحدة ليست للفلسطينيين خياراً يمكنهم الفكاك منه، أو ترفاً يمكن لهم الاستغناء عنه، أو مِنّة يُسبغها أحد منهم على أحد، وإنما هي ضرورة قصوى تفرضها الحاجة المُلحّة والمستمرة للحفاظ على الصيرورة الفلسطينية وتوفير المقومّات اللازمة لمواجهة فعّالة للاحتلال. فالفُرقة تسبب الضعف، والانقسام يؤدي إلى الوهن، والصراع الداخلي يُفقد المناعة ويُحيد البوصلة عن الاتجاه الصحيح: مقاومة الاحتلال بفاعلية وذكاء حتى يندحر وتتحقق الحرية والاستقلال.
قد يكون هناك من الأسباب ما برّر حصول الانقسام، ولكن وقضيتنا الوطنية تواجه كل هذه التحديات لا يوجد الآن ما يمكن أن يبرّر استمرار هذا الانقسام سوى أن المصالح الفئوية الضيقة تغلبّت على المصلحة الوطنية العليا. والصراع على سلطة تحت الاحتلال يمكن أن يحقق استئثاراً بها من قبل طرف على طرف، ولكنه لا يمكن أن يُحقق إنهاءً للاحتلال، خاصة وأن البواقي المحتلة من فلسطين عام 1967 مقسّمة جغرافياً بين ضفة وقطاع، إلا إذا كان مقبولاً من أحد تحقيق استقلال جزء وترك الآخر يرزح أبدياً تحت الاحتلال.
ولكن الوحدة لن تتحقق بمجرد تمنّيها والتشديد على ضروريتها. بل هي تتحقق عندما يتم، أولاً، الاعتراف بوجود اختلافات بين الفرقاء نابعة ليس فقط من تباين في العقائد والأيديولوجيات والرؤى، بل أيضا من تصادم للمصالح. فبدون هذا الاعتراف تبقى المُصالحات، إن تحققت، هشّة تقوم على طبطبةٍ أساسها إخفاء، وليس الاعتراف، بدوافع أساسية كامنة للخلافات القائمة، كأن تدعّي الأطراف أنها زاهدة في الحكم بينما يتمحور جلّ صراعها على الاستئثار به. أما المتطلب الأساسي الثاني لتحقيق الوحدة الوطنية فهو توصل جميع الفرقاء إلى قناعة بحيلولة إمكانية تحقيق كل منهم لكامل رؤيته ومطالبه. فالوحدة لا يمكن أن تقوم على الإلغاء أو الاقصاء، وإنما على الشراكة والائتلاف. لذلك يجب أن تتوفر لدى جميع الفرقاء، إن هم فعلاً أرادوا تحقيق الوحدة، الرؤية الحقيقية والنيّة الطيبة والإرادة السياسية الايجابية الناضجة لتحقيق الشراكة القائمة على ضرورة التوصل إلى مقاربة خلاّقة تُمكّن من تقليص الخلافات وتعظيم الاتفاقات، وذلك للتوصل إلى عقد ائتلاف. باختصار، لا يمكن أن تتحقق الوحدة دون الخوض الجدّي في عملية تفكيك المواقف المتباينة للفرقاء وإعادة تجميع عناصر منها في تركيبة جديدة متوائمة ومقبولة، بالحّد الأدنى على الأقل، من الجميع. بالتالي، لا يمكن للوحدة أن تتحقق دون التوصل إلى انسجام الحد الأدنى بين الأجندات الفئوية المختلفة والمتصارعة، والخروج بإستراتيجية وطنية مرحلية موحدة، وذلك لإدارة المصالح المختلف بشأنها لحين تحقيق الغايات والأهداف المتفق عليها من قبل الجميع.
خلال السنوات الماضية مررنا بحالة انقسام فلسطينية عصيبة نخرت لنا وضعنا، وأنهكتنا داخلياً وأضعفتنا خارجياً، وأبعدتنا عن تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق الوحدة والحرية والاستقلال. وعوضاً من أن نتعظ من تجليّات وطأة انحسار قدراتنا بسبب صراعنا الداخلي، ونقوم بتدارك أمرنا، استمر تفاقم حالة التفتت السياسي الداخلي والانكفاء الفصائلي على الذات. واضطربت نتيجة ذلك بوصلة اتجاهنا، فعوضاً من أن نصارع الاحتلال، أصبحنا نتصارع على سلطة تحت الاحتلال. وكان للفصل الجغرافي بين الضفة والقطاع أكبر الأثر ليس فقط في تسهيل الانقسام السياسي الفلسطيني، بل في تعظيم إمكانية استمراره وتكريسه لفترة مديدة من الزمن، ما يُنذر باحتمالية انهيار المشروع الوطني الفلسطيني برمّته. وهذا بالتأكيد خطر محدق بالقضية الوطنية الفلسطينية والحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ولذلك يجب تداركه فوراً إن كان تبقّى لدينا أي اهتمام بالمصلحة الوطنية الفلسطينية العليا.
هناك العديد من المساعي والمبادرات التي بُذلت وتُبذل لإطلاق حوار بين الفرقاء الفلسطينيين. ولكن الفشل كان نصيبها جميعاً حتى الآن لأنها تُركّز في معالجاتها على الإجراءات، ولا تنطلق أساساً من إيجاد المقاربة المطلوبة لتحويل الأجندات الفصائلية إلى إستراتيجية وطنية مرحلية موحّدة. أي إن الحلول المطروحة ضمن هذه المساعي والمبادرات تأتي مقلوبة ومبتورة عن السياق، كوضع العربة أمام الحصان ومطالبته ليس فقط بالانطلاق، وإنما بالفوز في السباق. لذلك فإن انطلاق مقترحات الحلول من الاختلاف على تشكيل قيادة وطنية موحدة أو حكومة جديدة، ثم الاختلاف على إن كانت هذه الحكومة يجب أن تكون حكومة توافق وطني أو وحدة وطنية، مع التشديد في المطالبة على إصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة تفعيل وتأهيل منظمة التحرير الفلسطينية، هو انطلاق خاطئ ولن يؤدي الغرض المطلوب. إن ما يؤدي هذا الغرض هو الانطلاق من ضرورة الاتفاق على ما يحكم كل هذه الإجراءات ويضعها في الإطار الصحيح، وهو البرنامج السياسي المرحلي الذي يعطي البوصلة للإستراتيجية المرحلية الموحّدة. فما فائدة الاتفاق مثلاً على تشكيل حكومة جديدة، بأي شكل كان، إن لم تكن منبثقة أساساً عن رؤية متضمنة في برنامج سياسي؟! ألأننا نستصعب الخوض في مسألة تحديد البرنامج نستسهل الهروب وتركيز الجهود على تشكيل الحكومة، وعندها نغوص، بل نغرق، بالتفاصيل التركيبية للحكومة؟! وفي هذا السياق الخالي من المضمون لا يمكن أن يعني تفعيل منظمة التحرير سوى إعادة تقسيم التمثيل داخل هيئاتها وفقاً لنسب تحاصصية جديدة فقط. وكيف يمكن أن تصبح الأجهزة الأمنية مهنية إن لم تُبن عقيدتها على أسس جديدة منبثقة من برنامج سياسي متفق عليه؟ باختصار، يجب أن يكون مُنطلَق إنهاء الانقسام الحالي متمحوراً بالأساس حول الاتفاق على أسس البرنامج السياسي الفلسطيني الذي سيحكم المرحلة القادمة. عندما يصبح هذا هو المنطلق، ويتم التوصل إلى اتفاق بشأنه، تصبح الإجراءات مجرد تفاصيل يسهل التوافق بشأنها، خصوصاً إذا أُخذت التوازنات المصلحية حينئذ بالاعتبار.
ولكي يتم الاتفاق على البرنامج السياسي الموحِّد والموحَّد، يجدر الانطلاق من إيراد أهم محددات المرحلة التي نمّر بها، والتحديات التي تواجهنا خلالها وفي المستقبل المنظور. ويُفترض عدم وجود خلافات جوهرية بين مختلف المكونّات السياسية الفلسطينية على هذه المحددّات، لأنه إن وجدت فسيكون من الصعوبة بمكان توقّع التوصل لاتفاق على البرنامج السياسي المأمول. أما إذا كانت الرؤية حول المحددات مشتركة، فسيكون من اليسير بعدها الانتقال للاتفاق على البرنامج السياسي، ومن ثم الإجراءات الكفيلة بترجمة البرنامج عملياً.
الـمحددات:
1) إن المرحلة التي نمّر بها هي مرحلة تحررّ وطني وهدفها إنهاء الاحتلال وتحقيق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيادية على حدود عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. هذا الهدف الذي يسعى نضالنا الفلسطيني التراكمي لتحقيقه يتطلّب منا جميعاً توفير المقومّات الداخلية والخارجية لإنجاحه، واتبّاع مختلف الوسائل لتحقيقه. ويبرز في هذا السياق، أولاً، ضرورة الاستمرار بشتى الوسائل والطرق بتعزيز الصمود الفلسطيني على أرض الوطن، فهذا هو محور الصراع ومرتكز تحقيق الانتصار: أن نبقى ونزدهر على أرض الوطن. وثانياً، ضرورة الاستمرار بمقاومة الاحتلال وفق القاعدة الذهبية التي تنص من ناحية على أن الاحتلال لا يرحل إذا بقي مرتاحاً، وأن الآلية المستخدمة لمقاومته يجب، من الناحية الأخرى، أن لا تطغى على الهدف منها، وهو تحقيق دحر الاحتلال. ولذلك فإن أساليب المقاومة المختلفة يجب أن تُوظّف بانتقائية ذكيّة وفق أسس المُلاءَمة والكفاءة والنجاعة والفعّالية وحساب التكلفة، بحيث يتم دائماً التنقل من أسلوب إلى آخر وفقاً للحاجة ولطبيعة الصراع المتغيرة. فالمطلوب في نهاية المطاف أن لا نؤذي أنفسنا، بل أن نوقع الإيذاء على الاحتلال الذي لا ينتهي بالعادة إلا بعد عقد مفاوضات والتوصل إلى اتفاق. ولكن لكي تُنتج عملية المفاوضات إنهاءً للاحتلال يجب أن لا تتحول هي نفسها إلى هدف وغاية، وأن لا تبقى مفتوحة إلى الأبد، بل أن تستمر فقط طالما كان لها ضرورة، على أن تبقى مدعّمة دائماً بالأسلوب الملائم من المقاومة.
2) لا تريد إسرائيل تسوية مع الفلسطينيين والعرب على أساس حل الدولتين على حدود عام 1967، وإلا لكانت قبلت بالمبادرة العربية. بل تريد إسرائيل فرض التسوية عليهم بشروطها هي، ما يعني أن أفضل ما يمكن أن تتمخض عنه التسوية بالمنظور الإسرائيلي لن يتجاوز “بقايا” للفلسطينيين المحشورين في معازل متفرقة في الضفة، دون ارتباط برّي يحقق الوحدة الجغرافية مع قطاع غزة، وباقتطاع القدس. ويمكن تسمية هذه “البقايا” دولة واعتبار أن حل الدولتين قد تحقق. لذلك فإن الهدف الإسرائيلي من التفاوض مع الفلسطينيين هو استغلال الوقت لمراكمة عملية تشكيل الوقائع على الأرض وتشكيل الواقع الجديد بالطريقة التي تُحقق لها أقصى ما يمكن تحقيقه من قضم للأرض ودرء المخاطر المستقبلية للديمغرافيا الفلسطينية. وفي هذا السياق يجب فهم خطة “الانطواء” من قطاع غزة، وبناء جدار الفصل العازل، والاستمرار المكثف لعمليات الاستيطان، وتقسيم الضفة بواسطة شبكة طرق محورية إسرائيلية، وعزل أجزائها عن بعضها البعض بواسطة الحواجز العسكرية الإسرائيلية. كل هذه الخطوات تأتي متسقة ضمن السياسة الإسرائيلية المتبعّة لتضييق الخناق على الفلسطينيين، علّ ذلك يؤدي إلى تفريغ البلاد من أكبر عدد منهم. ومن هذا المنطلق أيضاً يجب إدراك أن فصل الضفة عن القطاع يبقى هدفاً استراتيجياً إسرائيلياً مفاده تخلُّص إسرائيل في النهاية من مسؤوليتها القانونية كدولة محتلة له، ما يسمح لها بالاستفراد طويل الأمد بالقدس والضفة، وهما اللتان تشكّلان لإسرائيل المجال الحيوي للصراع.
3) إن علينا فلسطينياً في هذا الصراع المُعقّد مع عدو استيطاني -إحلالي مقيم، وفي ظل اختلال واضح لصالحه في معادلة موازين القوى، أن يكون من أهدافنا الإستراتيجية مراكمة الأصدقاء وتجنّب صناعة الأعداء. فالتأييد الخارجي لقضيتنا هو مفتاح تعديل ميزان القوى لصالحنا، طالما أن إسرائيل مدعومة ومحميّة رسمياً من قبل الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية. هذا التأييد لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تشديدنا على إبراز عدالة قضيتنا، وأخلاقية نضالنا لتحقيق حقوقنا الوطنية الشرعية، وأحقيتنا كشعب يعيش تحت الاحتلال بتلقي الدعم الدولي، الرسمي والشعبي. ويجب في هذا السياق إدراك المحاولات المستمرة التي تقوم بها الماكنة الإعلامية الإسرائيلية لربط نضالنا المشروع بالإرهاب، وتشديدها على استهداف مقاومتنا المسلحة للمدنيين، وسعيها الدائم لإبراز التوازي بين الطرفين في الصراع كي تتحاشى تحمل التبعية الأخلاقية كقوة احتلال. يجب علينا بالمقابل عمل كل ما يلزم لتبديد هذه الصورة التي قاربت أن تصبح نمطية عنّا، وأن نعكسها لتظهر الصورة الحقيقية لإسرائيل العنصرية، المحتلة والمعتدية. وعلينا في هذا السياق أن لا نستهين على الإطلاق بأهمية المجتمع الدولي لنا، مع أن أقوى قواه تعمل حتى الآن ضدنا. فنحن نرتكز على الشرعية الدولية، ونريد تطبيق قرارات الأمم المتحدة، وبالتالي علينا أن نبقى دائماً نسعى لتوسيع حلقة مؤيدينا وتضييق الخناق على إسرائيل ومؤيدها. هذا عمل يحتاج إلى الكثير من الجهد والصبر والقدرة على التحمل والمراكمة، ولكنه يعطي النتائج المطلوبة في نهاية المطاف. وما جنوب إفريقيا إلا مثل يحتذى في هذا المجال.
4) إن أهمية التعامل والتعاون مع المجتمع الدولي لا تعني على الإطلاق ضرورة الانصياع للاشتراطات التي تحاول القوى المؤيدة لإسرائيل فرضها علينا. بل إن ما يعنيه ذلك استغلال كل امكانية موجودة وفرصة متاحة لتوسيع دائرة التأييد لتحقيق هدفنا الوطني المنشود. والآن، وبعد الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزة، توجد فرصة وإمكانية يجب أن لا نضيّع كلاهما. فمن ناحية، يوجد تعاطف عريض ويتنامى داخل أوساط شعبية ورسمية وينتشر عبر دول العالم. يجب علينا أن نعمل على أن يستمر هذا التعاطف وينمو، وان يُوظَف ايجابياً في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وتعزيز حملة التضامن الدولي مع فلسطين، وبدء حملة منظمة لمقاطعة دولية لإسرائيل. أما بالنسبة للإمكانية المتاحة، من ناحية أخرى، فتتمّثل في تغيير الإدارة الأميركية الأكثر سوءاً فيما يتعلق بملف صراعنا مع إسرائيل، أي إدارة بوش المنصرفة، ومجيء إدارة أوباما الجديدة والواعدة بالتغيير. يجب علينا أن لا نتسرع بالحكم على هذه الإدارة القادمة، بل أن نحاول أن نساعدها لتبني مواقف أكثر ايجابية وتفهماً لقضيتنا. هذا يتطلب منا تبنّي مواقف واضحة وعملاً دؤوباً. أما إذا اعتقدنا أن على أميركا أن تُغيّر موقفها بمفردها، أو حرصاً منها علينا، أو هلعاً منا، فسنكون واهمين حالمين.
الاستنتاجات:
تؤدي المحددات المذكورة أعلاه إلى العديد من الاستنتاجات الهامة بخصوص وضعنا الفلسطيني، وأهمها:
1) إعادة التأكيد على أن الوحدة الفلسطينية مسألة أساسية وعلى غاية الأهمية، ولا يمكن تحقيق الهدف الفلسطيني المتمثل بإنهاء الاحتلال بدونها، إذ لا يمكن توقع النجاح في مواجهة التحديات التي تفرضها إسرائيل وحلفاؤها علينا ونحن نعاني تبعات وانعكاسات الصراع الداخلي المرير. لذلك فإن تحقيق هذه الوحدة والمحافظة عليها يُعتبر الأولوية الفلسطينية القصوى. ولكن لا يمكن لهذه الأولوية أن تتحقق طالما بقي المنطلق فصائلياً، والعقلية فصائلية، والمصلحة فصائلية. فالوحدة لا يمكن أن تنتج عن تقوقعات فصائلية، وإنما تحتاج إلى مناخات أرحب، ووطنية أوسع، ومصلحة أعمّ. وإن فشلت الفصائل في استيعاب الفكرة والتقاط الفرصة وعالجت المحنة فستفقد، وإن يكن بعد حين، مبرر الوجود وشرعية التمثيل. وسيكون علينا فلسطينياً البدء من جديد. ومع أن التجديد قد يفضي حيوية وديناميكية على وضعنا السياسي الاستقطابي المُتكلّس منذ حين، إلا أن التحديات العظام التي نواجهها تجعلنا لا نمتلك رفاهية الاستمرار بالتجريب.
2) إن الكيانية السياسية الفلسطينية التي قدمّنا الكثير من التضحيات لإيجادها وتثبيتها تتعرض إلى خطر شديد سيؤدي، إن لم تتم مواجهته ومعالجته بصورة فورية، إلى تفتيت وضياع القضية الوطنية. فمنظمة التحرير التي يُطالب الآن بإصلاحها غُيبّت منذ تم إلحاقها بالسلطة التي من المفترض أن تكون ولدت من رحم المنظمة وبقيت تابعة لها.هذه السلطة التي نشأت لتكون انتقالية يتم استبدالها بالدولة بعد خمس من السنين، بقيت بعد مرور ثلاثة أضعاف تلك المدّة مستمرة، بل ويُتصارع بشأنها بين الفلسطينيين. وبعد أن كان يُعتقد أنها جزء أساسي من الحل، يجدر بنا الاعتراف أن السلطة أصبحت جزءاً أساسياً من المشكلة. فقد أضحت جهازاً بيروقراطياً متضخماً يعاني من قلة الفاعليّة وسوء الإدارة والفساد. ومع ذلك فُرض على الفلسطينيين كامل المسؤولية للحفاظ على استمرارية هذا الجهاز، ما أدى إلى الاضطرار للخضوع لمتطلبات التمويل الخارجي الذي يُسهّل للإسرائيليين ليس فقط استمرار الاحتلال، بل ويؤدي إلى تأمين استفادتهم المادية منه أيضاً. كل ذلك يُستغل إسرائيلياً، وبانتقائية قصوى. فمن ناحية، تستخدم إسرائيل وضع السلطة الفلسطينية المتشرذم لاتهام الفلسطينيين أمام العالم بعدم القدرة على حسن الأداء. وبالمقابل تستغل إسرائيل وجود هذه السلطة للحفاظ على استمرارية عملية مفاوضات غير جادة أو فعّالة تذّر من خلالها رماداً في عيون العالم فحواه أن عملية التسوية السياسية ماضية مع الفلسطينيين إلى مبتغاها، ويجب لذلك تركها تأخذ سياقها ومجراها.
3) علينا الإقرار فلسطينياً أن المسار التفاوضي الذي أُرغم الفلسطينيون، وقبلوا، بإتباعه منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن كان خاطئاً وضاراً بتحقيق هدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. فلكونه بقي مساراً مفتوحاً غير محدد الفترة الزمنية، ولأنه قيّد القدرة الفلسطينية وكبّل إمكاناتها التفاوضية والضاغطة، ولم يُلزم إسرائيل بوقف مجمل نشاطات عمليتها الاستيطانية المكثفة التي استمرت من خلالها بفرض وقائع تُغيّر الواقع المتفاوَض بشأنه لصالحها، ولأن إسرائيل استفادت من اختلال موازين القوى داخلياً وخارجياً لصالحها، فقد تحوّل هذا المسار التفاوضي إلى وسيلة تستغلها إسرائيل لفرض سلسلة اشتراطاتها المتنامية على السلطة الوطنية الفلسطينية. ليس هذا وحسب، بل جرى تسخير هذا المسار إسرائيلياً ليعطي إيحاءً مطمئناً للعالم بأن مسيرة التسوية ماضية ويجب عدم عرقلتها بتدخلات خارجية، وليقدّم من جهة أخرى ذريعة لتبرير مجمل الانتهاكات الإسرائيلية الممارَسة ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة. فطالما أن جلسات ولقاءات التحاور مع الفلسطينيين بقيت مستمرة ومفتوحة، فإن ذلك دلالة على عدم التذمر الفلسطيني من السياسات والأداء الإسرائيلي، احتلالياً وتفاوضياً. بالمقابل، وقد يكون أخطر ما في الأمر، أن الجانب الفلسطيني التفاوضي لم يقم على الإطلاق بعملية مراجعة ومحاسبة ذاتية جديّة لأداء فريقه التفاوضي ولمسار المفاوضات. بل على العكس من ذلك، فقد انهمك هذا الجانب كثيراً في تبرير الاستمرار في هذا المنزلق التفاوضي والدفاع عن مسيرة التسوية السياسية، حتى مع أنها لم تُنتج للفلسطينيين نتائج ايجابية، وللدرجة التي أصبح يُشكّ فيها أن المفاوض الفلسطيني مهتم أكثر بالحفاظ على استمرار عملية التفاوض من تحقيق الهدف المتوخى منها. لقد كان خطأ استراتيجياً فلسطينياً استمرار تكرار الالتزام بالسلام وعملية التسوية السياسية والمفاوضات كخيار استراتيجي وحيد، لا رجعة عنه ولا تبديل فيه. ومما يزيد من فداحة هذا الخطأ أنه يصدر عن الطرف الذي يعاني من اختلال في موازين القوى لصالح عدوّه ومحتلّه. فإن كان هذا هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للفلسطينيين، فما الذي سيجعل إسرائيل تضطر لتقديم الحدّ الأدنى المطلوب فلسطينياً للتوصل إلى تسوية سياسية؟.
4) بالمقابل، علينا أيضاً الإقرار فلسطينياً أن اختزال مقاومة الاحتلال بأسلوب المقاومة المسلّحة فقط، واستخدام هذا الأسلوب دون أي تقنين أو حساب للاعتبارات المختلفة، هو أمر خاطئ وضار بتحقيق هدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. هذا لا يعني على الإطلاق ضرورة الالتزام فلسطينياً بإسقاط المقاومة المسلحة من جدول أعمال مقاومتنا للاحتلال. فهذه المقاومة حق لنا وواجب علينا حتى نتمكن من إنهاء الاحتلال الذي لن يخرج من أرضنا إلا عندما يضطر اضطراراً لذلك. ولكن، بالمقابل، يجب استخدام المقاومة المسلحة بما يخدم تحقيق الهدف، وبالتالي ضمن رؤية وبرنامج سياسي واضحين ومحددين، ووفقاً لتقدير حساب الجدوى. فالمقاومة المسلحة ليست هي الهدف، بل هي الوسيلة لتحقيق الهدف. وعلينا، ونحن نواجه عدواً مدججاً بالسلاح ومدعوماً من قوى خارجية مؤثرة، أن نتأكد أننا عندما نلجأ لاستخدام وسيلة مقاومة ما أنها ستكون مؤثرة وستحقق الغرض المطلوب منها، ولن تؤدي إلى نتائج عكسية علينا. ويجب التأكيد في هذا السياق أن لمقاومة الاحتلال، أي احتلال، أساليب عدّة، تبتدئ بتعزيز الثبات والصمود على أرض الوطن لتصل إلى إشعال الثورة المسلّحة ضده. ولكن يجب الانتباه إلى أنه مع كون جميع الاحتلالات تتشابه في قمعها واستغلالها للشعوب الخاضعة لها، إلا أن لكل واحد منها سمات وظروفاً ومزايا قوة ونقاط ضعف خاصة به. ومن هذا المنطلق يجب أن نواجه الاحتلال الإسرائيلي بما هو فعّال من أساليب المقاومة، بحيث لا يتم استثناء أي منها ابتداءً، ولكن أن يتم استخدام كل واحد منها بانتقائية لتحقيق أفضل النتائج لنا. ولكي يتم التأكد من ذلك فإن الكيفية التي يتم فيها مواجهة الاحتلال تتوقف عن أن تبقى شأناً فصائلياً خاصاً لتصبح شأناً فلسطينياً سياسياً عاماً يجب التباحث فيه والتوصل لقرار بشأنه، وذلك لأن تبعياته وانعكاساته تطال مجمل الفلسطينيين وتؤثر في مجرى قضيتهم وتحقيق هدفهم الأساسي المتمّثل بإنهاء الاحتلال.
5) من المتوقع أن إحدى نتائج الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ستكون التقيّد بتهدئة ، سواء أكانت معلنة ومتفقاً عليها أم ضمنية تلتزم بها الأطراف دون اتفاق مباشر. ومع أن الخلاف مع إسرائيل في هذا المجال يتمحور حالياً حول طبيعة التهدئة إن كانت دائمة أو مؤقتة، وحول مدتها إن كانت مؤقتة، إلا أن الواضح أن المقاومة المسلحة ستتوقف خلال الفترة القادمة من قطاع غزة الذي شهد سابقاً اتفاقات لتهدئات مؤقتة. وبينما تحاول إسرائيل أن تضمن بقاء موضوع التهدئة جزءاً من الترتيبات الأمنية التي تريد ضمانات إقليمية ودولية عليها، وتُصّر على عدم دفع ثمن سياسي مقابلها، فإن حركة حماس تحاول أن تربط التهدئة القادمة بإعادة فتح المعابر فقط، وخصوصاً معبر رفح وبترتيبات جديدة تُمكنّها من إيجاد منفذ مباشر مع العالم الخارجي. ومع أن تَحقُق هذا المطلب سيؤدي إلى تكريس فصل الضفة عن القطاع ويحقق أحد الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يحدّ من المطالبة به أو شَفْعِه بمطالبةٍ مماثلة لفتح الممر الآمن بين القطاع والضفة. يُستدل من ذلك أن الانقسام الداخلي الفلسطيني أدىّ لأن تتقدم الأجندات الفصائلية على الإستراتيجية الوطنية العامة، والتي يُفترض أن تربط بين الإجراءات المطلوبة من قبل إسرائيل لتعزيز ما يسمى بوقف إطلاق النار، مع الخطوات التي يجب أن تبدأ إسرائيل باتخاذها لإنهاء الاحتلال. فما فائدة تهدئة تُوقِف المقاومة الفلسطينية المسلحة ولكنها لا تؤدي إلى خطوات لإنهاء الاحتلال، بل تؤدي إلى إجراءات وترتيبات وضمانات أمنيّة تُكرّس بقاء استمرار هذا الاحتلال؟ وما فائدة فتح معبر سيؤدي إلى إخراج قطاع غزة من معادلة الصراع، في حين تبقى القدس والضفة لقمة سائغة لتكثيف الاستيطان واستمرار الاحتلال؟ .
البرنامج السياسي المقترح:
من المهم الآن أن يتم الاتفاق فلسطينياً على برنامج سياسي مرحلي موحد، ليس من أجل إنهاء حالة الانقسام فقط، مع أن ذلك لوحده يشّكل أولوية قصوى، ولكن لكي نتمكن من ترتيب أوضاعنا الداخلية بما يمكننا من تحديد واضح لمسارنا المستقبلي في مواجهة الاحتلال وتحقيق التخلص منه من جهة، ولنتمكن من التعاطي ايجابياً مع ما يتاح من فرص وإمكانيات للاستفادة منها بالقدر المستطاع، ولنوقف على الأقل استمرار استهدافنا واتهامنا زوراً بأننا العقبة أمام تحقيق السلام، من جهة ثانية. إن التوصل لاتفاق على مثل هذا البرنامج يُخرجنا فلسطينياً من دائرة ردود الأفعال ويُدخلنا في مجال الفعل. فعوضاً عن أن نبقى متلقين يُنتظر منا تقديم الردود والإجابات والالتزامات، نصبح نحن الطالبين الذين ننتظر الردود والإجابات وتحقيق الالتزامات من قبل الآخرين. بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نُخرج أنفسنا من القيود التي تم تكبيلنا بها، ونتمكن من استعادة زمام المبادرة، ونضع إسرائيل والمجتمع الدولي على المحكّ. هذا البرنامج هو الذي سيفتح أمامنا بوابة الخيارات المغلقة. وبدون خيارات فإن الإمكانيات تبقى محدودة ومسيطراً عليها من قبل غيرنا.
يقوم البرنامج السياسي المقترح على المرتكزات التالية:
1) ضرورة تغيير المنحى التفاوضي الذي كان سارياً حتى الآن، فالقبول الفلسطيني بحلّ الدولتين ومبادرة السلام العربية أساساً للتسوية السياسية يجب أن لا يُعتبر قبولاً مفتوحاً لا فكاك منه، ولا رجعة عنه، خصوصاً وأن إسرائيل حولّت التفاوض إلى عملية عدمية خلال الخمسة عشر عاماً الماضية. ولكن لكي لا نُلام الآن على إغلاق هذا الخيار دون مهلة زمنية محددة ومعلنة سلفاً، ولكي نبرهن على حسن النيّة تجاه الإدارة الأميركية الجديدة والمجتمع الدولي، ولكي نضع إسرائيل أمام آخر فرصة لبرهنة الجديّة، فإن علينا أن نُعلن أننا سنُسهم ايجابياً في المساعي السلمية القادمة، وذلك بالموافقة على فتح عملية مفاوضات جدية لمدة عام واحد كامل فقط (يمكن أن تصل المدة إلى عامين، ولكن ليس أكثر من ذلك على الإطلاق)، يكون هدفها الاتفاق على الإجراءات الضرورية لإنهاء الاحتلال على أساس حلّ الدولتين على حدود عام 1967 ومبادرة السلام العربية. ولكي تبرهن إسرائيل على قبولها وجديتها عليها إيقاف توسعها الاستيطاني منذ انطلاق هذه العملية التفاوضية، وإزالة الحواجز العسكرية المنتشرة في الضفة وحول مدينة القدس، وإلغاء القيود على الاستخدامات الفلسطينية للأراضي في المنطقة المسمّاه (ج)، وتسهيل العبور بين الضفة وقطاع غزة والشروع بإجراءات فتح الممر الآمن، وتحرير المعتقلين الفلسطينيين خلال عام التفاوض وفق دفعات متفق عليها مسبقاً.
2) لتوفير مناخ إيجابي لعملية التفاوض فإن الجانب الفلسطيني يتعهد بالقبول بتهدئة شاملة متزامنة ومتبادلة مع إسرائيل تستمر طوال عام التفاوض. يلتزم الجانب الفلسطيني من جهته في هذه التهدئة بإيقاف المقاومة المسلحة خلال تلك الفترة، مقابل التزام إسرائيلي بإيقاف كل أشكال استهداف جيش الاحتلال للفلسطينيين.
3) يُشكّل تعزيز صمود المواطنين في الوطن أحد أهم الأولويات والمرتكزات التي تقع على عاتق السلطة الفلسطينية متابعتها وتحقيقها خلال هذه الفترة. ولكي تحقق السلطة أفضل نجاعة في هذا المجال فإن على مؤسساتها العامة أن تعمل بأقصى مهنية وأعلى كفاءة وفاعلية، وعلى إجراءاتها أن تتسم بكل الشفافية، على أن يخضع أداؤها ونتاجها للمتابعة والمساءلة والمحاسبة بشكل دائم. فالسلطة موجودة لتحقيق غاية، وليس لتصبح هي الغاية. لذلك فان إصلاح مؤسسات السلطة وتطوير أدائها وتقليص نفقاتها، في الوقت نفسه، ليتوجه جُلّ ما يمكن توفيره من دعم لتحقيق مشاريع تطويرية وتنموية، يصبح من الأولويات التي يتوجب متابعتها وضمان تحققها خلال هذه الفترة. فالترهل الوظيفي وسوء الإدارة ومظاهر الفساد جوانب خلل في القطاع العام يجب أن تُواجه بكل حزم وعزم وتصميم، إذ لا يمكن أن يُبنى نظام إدارة عامة كفؤ وفعّال دون التخلص من هذه الجوانب. كما ولا يمكن إقناع العالم بأهليتنا وقدرتنا على تنظيم شؤوننا دون هدر إذا ما بقيت الوظيفة العامة تُعتبر مغنماً يقوم على المحسوبية السياسية والمحاصصة الفصائلية.
4) يجب أن لا يؤدي تركيز العمل الفلسطيني على الأرض المحتلة، على أساس أنها ستصبح الدولة العتيدة المرتقبة، إلى إهمال متابعة شؤون الفلسطينيين في مختلف مناطق الشتات. بل إن من المهم والواجب أن تحظى هذه المتابعة بكل الجهد والاهتمام، ليس على أساس فصائلي، وإنما على أساس فلسطيني عام. وهذا الأساس العام لا يتمثل بالسلطة الفلسطينية، وإنما بمنظمة التحرير الفلسطينية. لذلك، ولأسباب سياسية جوهرية أخرى، يجب إعادة إحياء وتفعيل دور المنظمة خلال المرحلة القادمة.
5) من المفترض أن تترافق كل هذه الخطوات آنفة الذكر مع حملة ديبلوماسية فلسطينية نشطة تطال المستويين الرسمي والشعبي في مختلف أرجاء المعمورة، وذلك للاستفادة من التعاطف الواسع مع القضية الفلسطينية الذي بدأ يُستعاد داخل أوساط مختلفة من المجتمع الدولي، ولاستعادة ما تم فقده فلسطينياً من تواصل حيوي وضروري مع عدد من هذه الأوساط خلال السنوات الماضية، يجب في هذا السياق أن تكون الرسالة الفلسطينية المراد توصيلها واضحة وموحدة، وأن يُعاد توسيع قاعدة التواصل لتشمل العديد من الدول والمجموعات التي تم إهمالها في الفترة الماضية على أساس أنها غير مؤثرة في القرار الدولي.
6) تستهدف كل هذه النقاط السابقة إعادة تركيز الخط السياسي الفلسطيني في برنامج واضح ومحدد غايته امتحان جدية مسار التسوية السياسية، إما لإيصاله إلى الهدف الفلسطيني المنشود، أو إغلاق الباب عليه نهائياً. بالتالي تصبح الفترة المحددة زمنياً بعام واحد على غاية الأهمية، إذ يُنتظر منها أن توضح بالدلائل الملموسة أن غرض مسيرة التسوية السياسية ليس الاستمرار بإدارة الصراع وتقليص كلفة الاحتلال، وإنما إنهاء هذا الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني. من هذا المنطلق فإن قراراً مصيرياً ينتظر الفلسطينيين في نهاية عام التفاوض، فإما الاقتناع تماماً بجدوى مسيرة التسوية السياسية والمضي قُدماً باستكمالها وتنفيذ حل الدولتين، أو إغلاق الباب نهائياً على هذا الحل وتحويل الاتجاه نحو التخلص من الاحتلال الى خيارات وأساليب أُخرى، تشتمل العودة لاستخدام مختلف أساليب المقاومة، ومنها المقاومة المسلحة، وتتضمن إمكانية حلّ السلطة وتوجيه المشروع النضالي الفلسطيني نحو إقامة الدولة الواحدة. بهذه الطريقة فقط ستضطر إسرائيل لحسم خيارها، فإما إقامة دولتين على حدود عام 1967، وإما التحول إلى دولة واحدة تطيح بالمشروع الصهيوني برمته. وعلى العالم أن يعرف مسبقاً أن الفلسطينيين سئموا استمرار المراوغة الإسرائيلية، ولذلك توافقوا على ضرورة حسم الأمر بشكل نهائي وقطعي. فليس من العدل أو الإنصاف أن تبقى إسرائيل تُجرجرنا في مسيرة تسوية لا أفق واضحاً أو نهاية محددة لها.
الإجراءات المطلوبة:
إذا أُخذت المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا بالاعتبار وتم الاتفاق على الخطوط العريضة للبرنامج السياسي، تصبح إمكانية الاتفاق على الإجراءات اللازمة لوضعه موضع التنفيذ أكثر يسراً وسهولة، خصوصاً إذا أُخذت في هذا الجانب مصالح جميع المكونات السياسية للمجتمع الفلسطيني. فلهذه المكونات، وفي مقدمتها الفصائل السياسية، مصالح يجب أن يُراعى في أي حوار وطني قادم تحقيق توازن بينها، لتتمكّن جميعاً من العمل سوياً، وبكل طاقاتها، على تحقيق الرؤية المتضمنة في البرنامج السياسي. ومن أهم الإجراءات اللازم اتخاذها ما يلي:
1) تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولأنها بالتالي تُمثّل بوتقة الكيانية السياسية الجامعة للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده. والمقصود بالتفعيل ليس فقط الاكتفاء باتخاذ الإجراءات الكفيلة بانضواء الحركات السياسية الفلسطينية غير المنضوية حالياً داخل المنظمة، وإنما القيام أيضاً بالخطوات الضرورية لتمتين وتحصين دور المنظمة الحامي للمشروع الوطني الفلسطيني. في هذا المجال توجد حاجة لاتخاذ ثلاثة إجراءات؛ الأول، فصل رئاسة المنظمة عن رئاسة السلطة كي ينتهي الخلط الحاصل حالياً في الأدوار بين المؤسستين، ولتصبح المنظمة مرجعية حقيقية للسلطة، تستطيع مساءلتها ومحاسبتها عن أدائها في إدارة الشؤون الفلسطينية في الأراضي المحتلة. والثاني، تشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد وفق معادلة انتخابية – توافقية تؤدي إلى تمثيل جميع المكونات السياسية والمجتمعية للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، تنبثق عنه بالانتخاب لجنة تنفيذية جديدة. والثالث، القيام بدراسة تقييمية لهيكلية المنظمة بما يؤدي إلى إجراء التعديلات الكفيلة بتفعيل ما يُحتاج من دوائرها ومؤسساتها.
2) إبقاء ملف المفاوضات في العهدة الحصرية للمنظمة، تشرف عليه لجنتها التنفيذية وتكون مسؤولة عنه، وينفّذه طاقم مختص تابع لها. وتُمنع مشاركة السلطة الوطنية الفلسطينية في هذا الملف، إلا ما يتطلبه إسناد عمل الفريق المفاوض من معلومات من جهة، وما تمليه ضرورة المتابعة الإجرائية للشؤون الحياتية للفلسطينيين تحت الاحتلال مع السلطة الاحتلالية الإسرائيلية، من جهة أخرى.
3) تشكيل حكومة جديدة تتولى إدارة الشؤون الفلسطينية في الأرض المحتلة خلال عام المفاوضات. ولأن البرنامج السياسي متفق عليه أصلاً، فإن تركيبة هذه الحكومة تصبح أمراً ثانوياً. فمن الممكن أن تكون حكومة وحدة وطنية، أو حكومة توافق وطني. ولكن بغضّ النظر عن أي من النوعين يتم الاتفاق عليه، فإن نجاح هذه الحكومة يتوقف على أن يكون أعضاؤها من ذوي الخبرة والكفاءة في مجال اختصاص الوزارات المكلفين بها، علاوة على التمتع بالصدقية والنزاهة والسمعة الطيبة.
4) فصل السياسي عن الإداري في الوظيفة العامة، واتخاذ الخطوات الكفيلة بتعزيز مهنية وكفاءة وحيادية القطاع العام، وليس الأجهزة الأمنية فقط. ولدعم استقلالية القرار السياسي الفلسطيني فإن على الحكومة اتبّاع ما يمكن من إجراءات تقشفية في صرف المال العام، وذلك لتقليص الاعتمادية على المانحين الخارجيين، مع ضرورة توجيه المصادر المالية المتاحة نحو القطاعات الحيوية اللازمة لدعم الصمود الفلسطيني على أرض الوطن.
5) الاتفاق على قانون انتخابي جديد، وتقديم كامل الدعم للجنة الانتخابات المركزية للتحضير لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نهاية عام المفاوضات، وليس قبل ذلك. فالمهم هو ليس إجراء انتخابات للسلطة التي قد تبقى تحت الاحتلال، وإنما ضمان إنهاء الاحتلال. لذلك فإن قرار إجراء الانتخابات، وهو قضية مختلفة عن القيام بالتحضير لإجراء الانتخابات، يجب أن لا يُتخّذ إلا بعد استكشاف جديّة إسرائيل في عملية المفاوضات. فإن قارَب عام التفاوض على الانتهاء دون أن يتحقق التقدم الفعلي الملموس والمقنع بأن مسار إنهاء الاحتلال أصبح واضحاً وقاطعاً ولا رجعة لإسرائيل عنه، فقد يكون للفلسطينيين حينئذ قرار آخر غير الحفاظ على استمرارية السلطة وإجراء انتخابات لها.
هذه هي الإجراءات الأساسية المطلوبة لتنفيذ البرنامج السياسي المقترح أعلاه، والذي يُمكّننا من إنهاء الانقسام وتوحيد الجهود لإنهاء الاحتلال. فإن كنا فعلاً جديين في هذا المسعى فإن أمامنا مفترق طرق وعلينا الاختيار بين أن نتحد في مسعانا لإنهاء الاحتلال أو أن تذهب ريحنا هباء في استمرار الصراع الفصائلي على سلطة تدوم تحت الاحتلال.
الأيام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى