قضية فلسطين

بهدوء… لكي ننهي الانقسام الفلسطيني

د.خالد الحروب
المقاربة المطولة التي كتبها علي الجرباوي في “الأيام الفلسطينية” (27 يناير 2009) بعنوان “لكي ننهي الانقسام والاحتلال” تقدم تحليلاً مهماً لمسيرة المفاوضات خلال سنوات “أوسلو”، وتطرح رؤى إيجابية وتوافقية للخروج من مأزق ومأساة الانقسام الفلسطيني الراهن. وتعزز هذه المقاربة الرؤى الفلسطينية التي تقف في المنتصف بين “فتح” و”حماس”، وتقول بضرورة جمع النضال مع التفاوض وعدم الاكتفاء بخيار على حساب الخيارات الأخرى، وهي الرؤى التي يحملها ويشجعها تيار واسع من المثقفين والمفكرين الفلسطينيين المستقلين وغيرهم. وبحسب الجرباوي فشلت مسيرة المفاوضات من تاريخ “أوسلو” ولحد الآن في إنجاز الحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية والمتمثلة في حل الدولتين. ولذا فإن وسائل الكفاح المشروع ضد الاحتلال ينبغي أن يتم تبنيها وممارستها بحنكة وبحسب الظرف الزماني والمكاني، وحتى لا تنحرف عن هدفها وهو دحر الاحتلال. وتخلص المقاربة التي لا يفيها التلخيص حقها إلى أن ضرورة الانفكاك من استراتيجية الخيار اليتيم، وهو المفاوضات، التي أصبحت لعبة وهدفاً بحد ذاتها تستثمرها إسرائيل لتكريس الاحتلال وخلق وقائع جديدة. ومعنى ذلك أن إنهاء الاحتلال كبوصلة جامعة ينبغي أن يُعاد وضعه في صدارة العمل الفلسطيني، وليس “المفاوضات”. كما أن إنهاء الاحتلال هو أيضاً الهدف النهائي وليس استمرار النضال. باعتباره وسيلة وليس هدفاً.
تركز المقاربة على فكرة جوهرية هي أنه من دون الاتفاق على برنامج سياسي موحد تلتقي عليه القوى الفلسطينية المختلفة فإن أي حلول فوقية لحل الانقسام ستنهار. وليس مهماً شكل المصالحة، أو نوعية حكومة الوحدة الوطنية، بل المهم هو البرنامج السياسي الذي لابد من التوافق عليه. ويعرف الجميع بطبيعة الحال صعوبة هذه المسألة، لكن الهروب منها يفاقم من الدمار السياسي والتشرذمي الذي يحل بالفلسطينيين. وهنا يقدم الجرباوي رؤيته الخاصة لعناصر برنامج سياسي توافقي هي باختصار التالية: الإعلان أن مسار المفاوضات والقبول بحل الدولتين ليس استراتيجية مفتوحة زمنياً، بل ستُعطى آخر فرصة عبر عام أو عامين على الأكثر. وإن فشل ذلك المسار يتم اللجوء إلى الخيارات الأخرى بما في ذلك كل أنواع النضال، وكذلك حل السلطة، وتوجيه النضال لحل الدولة الواحدة. وخلال العام أو العامين المقترحين كفرصة أخيرة للتفاوض يتعهد الطرف الفلسطيني بوقف أعمال العنف ضمن اتفاق تهدئة شامل ومتزامن في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويتضمن البرنامج أيضاً تفعيل فلسطينيي الشتات والاهتمام بهم، والقيام بحملة دبلوماسية عالمية شاملة لتوضيح الاستراتيجية الجديدة وكسب أنصار لها. ولإنجاز مثل هذا البرنامج يقترح الجرباوي مجموعة من الإجراءات المطلوبة أهمها تفعيل منظمة التحرير وإعادة تشكيلها، وإناطة مسؤولية المفاوضات بها حصراً، وفصل رئاستها عن رئاسة السلطة الفلسطينية، وتشكيل حكومة جديدة تتولى إدارة الشؤون الفلسطينية يفصل الإداري فيها عن السياسي، بالإضافة إلى صياغة قانون انتخابي جديد. وهناك تفاصيل أخرى مهمة ترد في المقترح وهي تستحق النقاش وإثارة الأفكار. وما يمكن أن يُشار إليه هو عدد من النقاط المُكملة أو التفصيلية على المُقاربة المذكورة، والخاصة بمواقف أهم طرفين في المعادلة المُستعصية الراهنة: “فتح” و”حماس”.
على “فتح” أن تقدم رؤية استراتيجية جديدة وبرنامجاً سياسياً قائماً على تقييم التجربة التفاوضية خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وخسارتها للانتخابات وفوز “حماس” وسيطرتها على قطاع غزة، ثم نتائج الحرب الأخيرة. صحيح أن “فتح” ترتب بيتها الداخلي، بما في ذلك صوغ استراتيجية جديدة، بعقد المؤتمر السادس للحركة، لكن هل سينتظر الوضع الفلسطيني إلى ما لا نهاية انعقاد هذا المؤتمر الذي لا يعلم أحد متى سيُعقد، بل إن كان سيُعقد أصلًا وفعلاً؟ وعنوان استراتيجية “فتح” وبرنامجها السياسي ينبغي أن يكون “إنهاء الاحتلال بكل الوسائل”. وبموازاة ذلك يتمنى المرء، ولا يعرف كيف يمكن تحقيق ذلك عملياً، أن تعمل “فتح” على إزاحة مجموعة من الأسماء والوجوه التي أساءت للحركة وللمشروع الوطني الفلسطيني ولا تعمل على مد جسور التوافق والوحدة، بل تعزز الانقسام، وهي مسكونة بعقلية الإقصاء (وهذا التمني ينطبق على “حماس” أيضاً). وتحتاج “فتح” أيضاً إلى تكريس فصل واضح بينها كـ”حركة تحرير وطني” وبين السلطة القائمة التي أقيمت قبل إنجاز التحرير. ومن المهم “فتحاوياً” الإقرار بأن شكل الشرعية الفلسطينية قد تغير، وأن “فتح” ما عادت اللاعب الرئيسي وشبه الوحيد في الساحة السياسية الفلسطينية، وأن هذا يجب أن ينعكس على شكل وتشكيلة منظمة التحرير الفلسطينية.
على “حماس” أيضا أن تقدم رؤية استراتيجية جديدة وبرنامجاً سياسياً قائماً على تقييم تجربتها خلال العشرين سنة الماضية. وأهم عنصر في التقييم هو إعادة الاعتبار للهدف على حساب الوسيلة، أي “إنهاء الاحتلال”. ولذلك فإن دعوات بعض قادة “حماس” إلى برنامج سياسي موحد أو حكومة وحدة وطنية على أساس النضال تحول الوسيلة إلى هدف. وبوسع “حماس” سياسياً وأيديولوجياً أن تتبنى برنامجاً سياسياً، وكما فعلت خلال السنوات الطويلة الماضية، يقوم على هدف “إنهاء الاحتلال بكل الوسائل” وهو ما يمكن أن يشكل نقطة انطلاق موحدة مع “فتح”. وكذلك على “حماس” أن تشتغل على تقييم وسائلها وآلياتها وتوقيتاتها بكل دقة، لأن الاعتباطية في استخدام هذه الوسيلة أو تلك تجر أضراراً كبرى. كما أن الانتباه وتحييد بعض الوسائل في الوقت المناسب ينعكس بفوائد كبيرة. ومن المهم “حمساوياً” الإقرار بأنه لا يمكن تجاوز “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأنه من العبث السياسي محاولة تشكيل مرجعية فلسطينية جديدة بعيداً عن منظمة التحرير. فمعنى ذلك ليس فقط تعزيز الانقسام إلى الأبد، بل تذريَّة الشكل القانوني للوضع التأييدي العالمي والإقليمي للفلسطينيين. الطريق الأقصر، مع أنه الأصعب على “حماس”، هو تفعيل المنظمة والانضمام لها بحسب اتفاقيات سنة 2005.

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى