«فلسطين إسلامية أقوى من فلسطين عربية»
دلال البزري
تكرّرَ المحظور وتلقّفت أنظمة إسلامية المزيد من خيرات قضية الشعب الفلسطيني. قبل عامين ونيف، كان «حزب الله» يخوض بإسلاميته الإيرانية حرب «الوعد الصادق». وينتصر باحتفاظه بسلاحه «من اجل فلسطين». وها هي «حماس» الآن تكرّس اسلامية قضية شعبها، وخالد مشعل، قائدها، يهدر بطلاب جامعة طهران بأنهم سيشتركون معه في فتح القدس. وفي الخلفية الكلمة المدوّية التي أطلقها القائد الأعلى، علي خامنئي، بأن «غزة جزء من الأمن القومي الإيراني»، الى ما شابه من إشارات إيرانية «حماسية» زخرت بها يوميات الحرب على غزة وكلها تصبّ في خانة التلفّق الإيراني للقضية، بل وفي توسّع الدائرة الإسلامية.
فلم يكن ينقص المشهد غير الموقعة التلفزيوينة الموفّقة لرئيس الوزراء التركي أردوغان. موقعة الانفعال المدروس لمحنة ضحايا غزة (دون ضحاياه، الأكراد، بطبيعة الحال…). وهي موقعة تحصد جوائز انتخابية نقداً. وبذلك تكتمل الدائرة الإسلامية الجديدة. وقد تتوسع لاحقاً، أممياً، لو رأى هوغو تشافيز أن استفتاء على ديمومة حكمه قد يحتاج الى قطعة من الكتف الفلسطينية الدسمة. كل شيء مرهون بمجريات هذا التحول «الاستراتيجي» الجديد.
فلسطين المكتفية بالعروبة، والمرحبة، مجرّد ترحيب، بالإسلام، لم تكن أكثر عافية. أنظمة دول «المواجهة»، صاحبة الحدود مع إسرائيل، لم تقصّر في ممارسة كل أصناف التلاعب والتدخّل، والرشوة والوصاية والتواطؤ، وخلق منظمات انشقاقية موالية لها والصدام العسكري داخل المنظمة الأم، «فتح». لعبة انخرطت فيها كل الفصائل الخائضة في القضية؛ وخرجت منها وقد أصابتها عدوى التسلط والفساد واستباحة المواطَنة المفترضة.
انتقلت الآن القضية الى ايدٍ جديدة. والابتهاج بهذا الانتقال: «فلسطين الإسلامية أقوى من فلسطين عربية». وقد يكون في اصل هذه الفرحة المعنى المحجوب لـ «انتصار» حركة «حماس» في غزة. فربما عندما يصرخون ويصرون ويهنئون ويحتفلون… بأنهم «بلى! انتصروا….»، قد يقصدون أن الدور الحاسم في القضية انتقل اليهم؛ والذي يختصرونه بكلمة «أصبحنا الرقم الصعب!»: أي القادرين على هزّ الاستقرار وإشعال الحروب. يقصدون بأن القضية أصبحت إسلامية، بين أيديهم. خاضوا المعركة ولم يُبادوا، ولا انتُزع سلاحهم وقرارهم… فـ «انتصروا». وبسطوا قرارهم على القضية. وبما ان قوتهم مستمدة من تمويل ايراني، فهذا يعني عملياً توسيع دائرة اللاعبين بالقضية، دائرة المتلاعبين بها. ومن جديد: يمولون ثم يأمرون. كان الأمر جلياً مع «حزب الله» في تموز (يوليو) 2006، وحرب غزة نسخة مكررة؛ قد لا تكون سوى حلقة من حلقات الأسلمة هذه. وبالأسلمة، تكون ايران بمنأى عن خوض حرب بسط نفوذها الإقليمي بلحم شبابها الحيّ… بل بلحم أهل غزة.
«فلسطين الإسلامية اقوى من فلسطين العربية» يردّد المقاوم المنْتشي بـ «نصره»، والانشقاق الفلسطيني على الأبواب. فحماية هذا «الانتصار» عن طريق انشاء دويلة «معنوية» آمنة من الخونة والمتخاذلين والعلمانيين: ان تؤسّس منظمة تحرير اخرى ذات «مرجعية إسلامية». وهذه ليست مزحة. ولا يفيد معها إطلاق الدعوات العاطفية او التعبئة الوطنية، ردعاً لـ «حماس» عن مشروعها الانشقاقي هذا. على أرض غزة تحكم «حماس» بإسلامها. وتنشئ، على غرار «حزب الله» المجتمع البديل، الرافض لأية دولة مدنية.
فـ «المرجعية الجديدة» التي تشق منظمة التحرير الفلسطينية لن تكون غير إسلامية؛ وهذا مطابق لميثاق المنشقين، الذي لا يأخذ على المنظمة غير «علمانيتها». يقول الميثاق: «تبنّت المنظمة فكرة الدولة العلمانية وهكذا نحسبها. والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة». وفي مكان آخر: «ويوم تتبنى منظمة التحرير الفلسطينية الإسلام كمنهج حياة، فنحن جنودها ووقود نارها».
«الإسلامية» الحماسية لا تقتصر على الانشقاقية عن الدولة المدنية، او براعم مشروعها، أو «البيت المعنوي الفلسطيني». بل تقترن هذه الإسلامية بـ «مقاومة مسلحة»، تفتح باب جهنم الأبدي على الشرق الأوسط بأسره. فـ «حماس» لا تعترف بإسرائيل؛ ولا بحدود الدولة المقرّة دولياً للفلسطينيين. صحيح انها استغلت اوسلو لتظفر بدور «رسمي». ولذلك سرعان ما انقلبت على اوسلو، فنالت القرار على ارض غزة ورمت اوسلو واتفاقاته ومؤسساته وأطره ورجاله في خانة «الفساد والقهر والعمالة»… والباقي يعرفه جميعنا. «حماس» لا تقبل بأقل من رفع «رفع راية الله على كل شبر من فلسطين» لأن فلسطين «أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة»… مستقبل معبّد بالحديد والنار والكراهية. وبلا هدف ممكن ولا انتصار حقيقي غير البؤس والنكَبات.
ان هذا المنحى الخطير لـ «حماس» لن توقفه المساعي العربية الرسمية لـ «حشد الصفوف العربية» وتعبئتها ضد أصحاب الأدوار الجدد. فالمعالجات الرسمية لم ولن تخرج من حدود حساباتها السلطوية. حسابات أغرقت فضاءنا بالمزايدات في الدين وفي فلسطين. خوفاً دائماً على فسادها وتكلسها وهوانها. وخوفاً ان تكون الجماهير راغبة بالحرب وبالمزيد من الجرعات الدينية.
الآن، من باب رجم السلام، يكرّر بأن الإسرائيليين ابدوا عدم رغبتهم به، وخرقوا التزاماتهم التفاوضية. قتلوا اسحق رابين، ومالوا للتطرف الديني هم ايضاً. حسناً. هل أبدى العرب رغبة بالسلام؟ هللوا لمقتل السادات، بطل السلام العربي الأول. وما زالوا لا ينجرّون الا خلف من يعدهم بجنة فلسطين، او يلعب لعبة مؤازرة أهلها. اذن لا يرغبون بالسلام. ولكن هل يرغبون بالحرب، خارج المنابر الصوتية؟ اذا كان الجواب أنهم لا يريدون الحرب فهذا يعني انهم يريدون سلاماً. فأي سلام يكون؟ بوضوح ومن دون خوف من جهالة وديماغوجيا مستفحلتين. كيف نتصوره، هذا السلام؟ آليته؟ شروطه؟ حقوقه، كيفية نيلها من دون خراب؟ المفصل الثاني، اي طرح الإسلام، يحتاج الى صدق اكبر. البهلوانيات التي يشعر البعض بأنه مضطر للخوض بها تثبيتاً لإسلامه تنقص من حقيقة صورة هذا البعض، ولا تضيف من رصيده الا لدى الجهلة والغوغاء. فيما الجميع يعلم ان الكذب هو ملحهم.
لكن قبل ذلك؛ وقبل كل شيء. الإسراع في إغاثة المنكوبين من «الإنتصار» في غزة. وقد دفع أهلها ببشرهم وحجرهم ثمنه، قبل ان تتحول مأساتهم الى درعها الواقي. المذيع التلفزيوني لمسوؤل «حماس»: «ألا تخشون ردة فعل اسرائيلية عنيفة على تجديد رمي صواريخكم على جنوب اسرائيل؟». «كلا! كلا!» يجيب المسؤول الحمساوي، ويوضح: «لن يتجرأوا هذه المرة، بعدما قام الرأي العام الدولي ضد مجازرهم… ولم يقعد… لا! لا لن يتجرأوا!». والمعنى في قلوبنا جميعاً.
الحياة