صفحات الناس

التعليم العربي نحو النخبوية

null


د. طيب تيزيني

ثمة ظاهرة تتسع في المجتمعات العربية الراهنة، وتحديداً في نظامها أو في نظمها التعليمية، وهي تفكك عرى أهم عناصر هذه الأخيرة، نعني: المدرسة، وبهذا الاعتبار، يغدو الكلام وارداً على “نظام عربي تعليمي” بصيغة المفرد، فهذه الظاهرة لأنها الآن ذات حضور كلي أو يقترب منه في النظم المذكورة،
فهي تمثل حالة مشتركة بينها، ناهيك عن أنها (أي النظم المذكورة) تشترك في أمور أخرى عديدة: لقد تصدع النظام المدرسي العربي، مع غياب ملحوظ لأهم وظائف “الدولة الرعائية” أولاً، ولظهور لا جدوى التعليم تحت قبضة تيار الفساد والإفساد، الذي يُنتج فئات جديدة من “ملوك المال” الملوّث ثانياً، ذلك المال الذي يمكن الحصول عليه بكذا وكذا من الأدوات عدا تلك التي لا علاقة لها بمنظومة العوامل القانونية الدستورية والقيم الأخلاقية الناظمة لبنية المجتمع.

ويُضاف إلى ذلك عامل غياب المساءلة القانونية لأولئك “الملوك”، الذين أصبحوا أطرافاً مهمة في نسيج معظم السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكذلك الذين “دوّلوا” أقوالهم بعد إخراجها من بلدانهم.

هكذا أصبح التعامل مع قضايا التعليم عموماً وحتى الثانوي بكيفية خاصة، مماثلاً للتعامل مع سقط المتاع: تدني المستويات المادية للمعلمين والمدرسين على نحو راح يثير الاستفزاز مع الشفقة، وتضاؤل المستوى التربوي والتعليمي لدى أولئك، بحيث راحوا، شيئاً فشيئاً، يفقدون علاقاتهم بالمدارس ومراكز التعليم، ليعمقوها مع مِهن حرة، مثل البقال وسائق سيارة الأجرة والدهان وبائع عربات الشارع وعامل مطعم وغيره.

بيد أن مَنْ حافظ من أولئك المعلمين والمدرسين على مستوى مناسب من امكانات التعليم والتدريس، فقد اتجهوا نحو التعليم الخاص الفردي، ليجدوا أنفسهم – في مسار العملية – أمام إمكانية ترميم بل تطوير دخولهم المادية. ويلاحظ أن قسماً من هؤلاء وتحت لهاث “الدرس الخاص”، راحوا يعملون من شروق الشمس إلى ما بعد غروبها، متحولين – بذلك – إلى فئة منهكة على طريق “تجميع الكثير أو القليل من المال” بما يحتمله ذلك من تحول التعليم إلى نمط من التجارة، ثمة فئة من المعلمين والمدرسين، الذين لم ينتقلوا إلى “الدرس الخاص”، لأن هنالك ما يعوضهم عنه: ارتباطاتهم بالأجهزة السياسية والأمنية والاقتصادية والحزبية على نحوٍ يجعل هذه الارتباطات ذات جدوى مادية لصالحهم، لقاء خدمات ما يقدمونها هم لسادة هذه الارتباطات.

ويتضح ذلك من نتيجة خطيرة مدوية، هي سقوط المدرسة بعناصرها الحاسمة: التلميذ والمعلم ومنهاج التعليم، إضافة إلى عنصر آخر قلما يجري الحديث عليه، هو العملية التربوية الأخلاقية والوطنية، التي من أجلها كانت وما تزال معظم الوزارات المعنية تدعى “وزارات التربية والتعليم”، أما التلاميذ المتحدرون من الفئات الوسطى وما دونها فقد راح ذووهم يذوقون المرارة في معمعان تأمين وتدبير أجور بل رواتب معلمي أبنائهم. وإذا كان الأمر على هذا النحو على صعيد تلك الفئات وما يقترب منها في الخط النازل، فإن الكثير من أبناء الطبقات الدنيا المسحوقة وجدوا أنفسهم أمام قبضة الخوف، لتبدأ عملية تسرب واسعة وسريعة لجموع كبيرة منهم. لقد تحولوا في فريق منهم إلى العمل في قاع الحرف المذلة والمنهكة للطفولة، وفي فريق آخر منهم، إلى الحاويات أو السرقة والتحول إلى مافيات من الصغار واليافعين, وفي فريق ثالث منهم وخصوصاً الإناث، إلى الدعارة السرية والعلنية، ولعل قسماً من هذه الأطراف ما زال – مع ذويه – يتحمل موبقات المجتمعات العربية الجديدة، وفق جدلية “العين والمخرز” مصممين على المقاومة على حد السيف.

وعلينا أن نأخذ بالاعتبار ما أكد عليه وزير التربية والتعليم المصري الدكتور حسن الببلاوي (مؤخراً) من أن “معدل الإنفاق على الدروس الخصوصية يقارب 3.2 %من حجم الناتج المحلي، أي ما يوازي 30 مليار جنيه، واصفاً تلك الظاهرة بأنها غير تربوية وغير علمية وتعتبر فاقداً مهدوراً على الدولة”. هذه الوقائع ذات خطورة عظمى على مستقبل الأجيال العربية من الطفولة إلى اليفاعة كالشباب. فإلى جانب تحول النظام التعليمي العربي إلى حالة نخبوية آخذة في التضيق أكثر فأكثر، فإن تدمير القوى الحية في المجتمع العربي يعني إغلاق رهانات الثالوث الأعظم: الكفاية المادية والحرية والكرامة. وهذا نضعه في رسم “قمة العرب العشرين“!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى