صفحات ثقافية

عوالم العالم

null
اسكندر حبش
في مقالة له بعنوان «مرايا كاذبة» (في كتاب أبحاث بعنوان «استراتيجيات التحول في الكتابة النيجيرية»، ضمه إلى كتاب آخرين مثل صموئيل جونسون وبن أوكري وأموس توتيولا)، يرى الكاتب النيجيري وول سوبنكا (جائزة نوبل للآداب العام 1986) إن لكلمة ذاكرة معنى خاصاً بالنسبة إليه وهو المنفى. «صحيح أن الكتابة عندي، قد سبقت المنفى، بيد أنها على علاقة من دون شك بالذاكرة.. فبالنسبة إلى رجل منفي قد تكون الذاكرة أمراً خطيراً، قد تكون مصدر ضعف». ويضيف: «علينا التمييز بين الحالة مثلما تُعاش يومياً وبين الذاكرة بصفتها تراكم عناصر من الماضي. وقد رفض الكاتب اعتبار أن ما جرى في بلده من أحداث، سيشكّل يوماً جزءاً من ذاكرته، إذ أن تجربته الشخصية ترتكز في الأساس على الثقافة الإفريقية.
لو حاولنا أن نقرأ كلام سوبنكا على خلفية واقعنا الحالي، اليوم، لوجدنا أننا كلّنا منفيون في أوطاننا وإن لم نغادرها، عملياً. مَن منّا، يستطيع أن يوافق على ما يجري من أحداث يومية، وفي مختلف المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية. فما يُنسج لنا يومياً، يجعلنا نبتعد فعلياً عن حركة واقعنا. كأن هناك هوّة فظيعة لن نستطيع ردمها. ولا مرّة كان هناك طلاق بهذا الشكل الشاسع ما بين قاعدة الهرم ورأسه، مثلما نجده اليوم.
كلّ شيء يجري يدفعنا إلى الابتعاد، إذ نبني أوطاناً لا تشبهنا، ولن تشبهنا في يوم من الأيام. فهذا التاريخ الذي يكتبه غيرنا بأعمالهم ليس تاريخنا. وحين نحاول، إذا حاولنا البحث عن وجه للشبه بين الواقع وبين الذاكرة، لما وجدنا شيئاً، لأن التاريخ، ليس في النتيجة، إلاّ تراكمات أحداث. وهذه الأحداث، لا علاقة لنا بها، لا من قريب ولا من بعيد.
«قد تكون الذاكرة أمراً خطيراً.. قد تكون مصدر ضعف»، هذا ما قاله الكاتب النيجيري. والكاتب العربي اليوم، لا يجد أمامه إلا الضعف. إذ لا باب أمامه، سوى ذلك الماضي الذي يتغنى به.. ولسبب بسيط؛ لا مستقبل لديه. فالذاكرة المستقبلية غير موجودة أصلاً، وإن هي وُجدت، فإنها ستكون ذاكرة غيره.
الإنسان عندنا، وليس الكاتب فقط، إنسان منفي بامتياز. إذ حتى التاريخ، يبدو شيئاً بعيداً عنه، لا علاقة له به. فكيف نفسر إذاً، هذه الحالة الراهنة لمطلق شخص، لا علاقة له بماضيه، ولا علاقة له بحاضره، الذي سيشكل مستقبلاً ما، سيصبح ذاكرة، مع مرور الزمن؟
أحد الأصدقاء قال لي منذ فترة، إن منفانا الوحيد هو اللغة. ندور في عوالم العالم، نعيش في مدن غريبة عنّا، لكننا لا نزال نحتفظ بلغتنا، ولا نزال نكتب فيها..
حتى هذه اللغة، قد نفقدها يوماً. فاللغة البعيدة من مكانها، لا بدّ وأن تتلاشى ذات يوم.. وما سيبقى من ذلك كله؟ قد يبدو الجواب صعباً، إذ أننا أناس، فقدنا كل شيء.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى