صفحات ثقافية

الوقوف أمام بيكاسو

null
يمنى العيد
كدتُ أندم، ما الذي حملني على الوقوف هكذا في البرد! درجة الحرارة تقارب الصفر. برد وانتظار مدَّته، كما قرأت على اللوحة المعلقة على السياج إلى يساري، ساعتان. هذا الصف الطويل من الزائرين: كهول وشباب، نساء ورجال… عليهم أن ينتظروا ساعتين وأكثر، في الهواء، في الفضاء المكشوف، في برد باريس الشتوي القارس، كي يُتاح لهم الدخول إلى قاعات القصر الكبير، كي يروا لوحات «بيكاسو والمعلمون».
عجوز يقف خلفنا استدار وانسحب. لكنَّ عدد الواقفين في الصف خلفنا كان ما زال يتكاثر، بينما الذين أمامنا يدخلون مجموعات محسوبة العدد. القصد هو الحرص على تأمين مساحة داخل القاعات تُتيح للزائرين التوقف أمام اللوحات بلا تزاحم، ومن ثمَّ، الوقت الكافي للتأمُّل والقراءة والمقارنة. فالمعرض قائم على قيمة معرفيّة فنيّة محدَّدة تتناول العلاقة/ العلاقات بين بيكاسو والمعلمين الكبار، كلاسيكيين ومحدثين، قدامى ومعاصرين. إنه المعرض الأول الذي يتناول علاقة بيكاسو بالمعلمين على هذا المستوى الواسع والشمولي. ذلك أنَّ المعرض الذي نظمته «كارمن جيمني» عام 2006 في متحف برادو في مدريد، والذي يُفترض أنه تناول العلاقة بين بيكاسو والمعلمين، اقتصر على مجموعة متحف برادو القديمة، وقُدِّم في عنوان: «بيكاسو: تراثي وطليعي». يلفتنا في معرض القصر الكبير «بيكاسو والمعلمون» عدد اللوحات وتنوعها، إضافة إلى تنظيمها التيماتي والعناوين التي جمعت بينها، والعبارات الدالة التي توزعت على مداخل القاعات، وفوق الجدران… وإلى الجهد، المضمر، المبذول في استقدامها من أكثر من متحف من متاحف بلدان العالم، وفقاً لمقتضيات عنوانه وقيمته. من نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجيليس، من تورنتو، من لندن وبرلين، من كولومبو، وبال، من سان بيترسبورغ، وطبعاً من فرنسا، من متاحفها في باريس خصوصاً، ومن إسبانيا ومتاحفها في مدريد وبرشلونة… إضافة إلى ما استُقدِم من القصور ومن أصحاب الممتلكات الشخصيّة، ومن الغاليريات الوطنية في أكثر من بلد وعاصمة من بلدان العالم وعواصمه.
مشروع بيكاسو، وكما أضاءه هذا المعرض، يعبِّر عن المسار التاريخي للفن التشكيلي في القرن العشرين، بتحولاته ومذاهبه بعامة.
كأنَّ بيكاسو (1881 – 1973) الذي كان يرسم من الرسم وضدّ الرسم على هذا النحو المستمر بدءاً من لوحته «أوتوبورتريه ألا بروك» (1897) محاكياً بها كلاً من «نيكولا بوسَّان» (1649)، و «لاجراكو» (1600)، و «فرنسيسكو غويا» (1783)، وانتهاءً بمجموعته المستوحاة من أعمال «ديغا» والتي رسمها عام 1971 بمناسبة بلوغه التسعين من عمره، أي كأنه منذ تلك البدايات وحتى آخر ما رسم، كان يمارس الوصول إلى الإبداع والتفرُّد في فنِّه التشكيلي انطلاقاً من هذا الفن نفسه، منه وضدّه، تشبهاً واختلافاً. كأنَّه كان يهدم اللوحة المصدر داخل اللوحة الإبداع، وكأنَّه بذلك يؤكِّد أهميَّة المصدر هذا. لكن، فيما كان هذا المصدر يبقى ساكناً، وثابتاً بمعاييره وقيمه في زمن إنجازه التاريخي، كان يعيش في لوحة/ لوحات بيكاسو حركيَّته التثويريّة، المختلفة، الإبداعيّة. إنها حركيّة القيم والمعايير التاريخية، أي زمانيّة التحوُّل الإبداعي لهذا الفن التشكيلي التي هي حياته.
علاقة بيكاسو بلوحات الآخرين لم تكن نقلاً لها، بل كانت في وجه منها دراسةً تستهدفُ استيعاب كل أشكال الرسم. مراكمة تأسيسيّة من أجل ثورة فنيّة تشكيليّة وافدة. لذا كان يسائل أعمال الآخرين من دون أَحكام مسبقة، من دون تابوات، يسائلها كلها ومعاً، وفي آن واحد، مستطلعاً ما يوحِّد بينها، معانياً البحث عن فضاء جديد يفتح له حقلاً لمئات اللوحات الممكنة. لم يكن، في علاقته بأعمال المعلمين، يراقب الأسلوب، بل العلامة – كما يوضح أحد النقَّاد المعلقين على أعمال المعرض – العلامة البلاستيكيّة، معارضاً بذلك الأسلوب الذي هو، بالنسبة اليه، ليس سوى عنصرٍ من السطح ويجب الهروب منه.
كان بيكاسو يراقب العلامات ويبحث عنها لدى فيلاسكيز، وغويا، ومانيه، وسيزان. ومن هذا المنطلق، منطلق العلامة المميَّزة، كان يبني علامته الخاصة. كان نهماً، لا حدود لفضوله. فهو، إضافة إلى تقاطعه مع المعلمين، مع إنجازاتهم الفنيّة التشكيليّة، من دون أحكام مسبقة، كان ينظر إلى الثقافة الشعبيّة، إلى هذه الأشياء البسيطة المأخوذة، مثلاً، من سوق شعبي. ينظر إليها بالأهميّة نفسها التي ينظر بها إلى لوحة عظيمة، حتى ليمكن القول إنَّ حداثته كانت، في وجهٍ منها، قائمة على هذا المزج التوليدي، العبقري، بين أكثر من مصدر، والمفتوح بحريَّة على الإبداع.
نقف أمام لوحة بيكاسو «امرأة الوشاح الأزرق» (1923)، وهي من اللوحات التي تعود إلى زمن البدايات، يوم كان بيكاسو يداوم على زيارة المتاحف لينقل بلا كلل عن المعلمين القدامى منفتحاً، في الوقت نفسه، على الفن الحديث والفن الطليعي. بالقرب منها نشاهد لوحة لـ «بوسَّان» (1805).

تتقاطع «امرأة الوشاح الأزرق» مع نساء لوحة «بوسَّان» بأكثر من عنصر: اللون الأزرق، حركة الذراعين، الخط الأعلى للثوب وما يكشفه من الصدر والعنق. ومع هذا تبدو لوحة بيكاسو مختلفة، متميِّزة بعلامتها: تتفرَّد المرأة بلوحة بيكاسو، تملأ فضاءها. يفرد بيكاسو أزرق لوحة «بوسَّان» الجزئي على وشاح المرأة (نساء بوسّان بلا وشاح)، وعلى كامل ثيابها، يتموَّج هذا الأزرق في لوحة بيكاسو، يأخذ من لون البشرة ويوشّحها به. ثمة تلاحم دلالي بين الجسد وما يرتديه. تلاحم يؤديه اللون. اللون علامة تتسق معها، وتدعمها، دلالياً، العينان بنظرتهما إلى الداخل، والرأس المنحني قليلاً إلى أسفل. إنها علامة توحي بالاستغراق داخل الذات! بالوحدة! بالتأمُّل وبالانتظار الصامت، وهو مما لا نقرأه في لوحة «بوسَّان» التي تجمع بين ثلاث نساء، وبين أكثر من لون. تختلف لوحة بيكاسو إذاً مبرزة علامتها.
لا يتردد بيكاسو بتسمية بعض لوحاته باسم اللوحة التي تتقاطع معها لوحته، ربما ليشير إلى المصدر وليُظهر في الآن نفسه اختلافه. فلوحته «التسريحة» (1906) تحمل اسم لوحة لـ «رينوار»، التي لها الاسم نفسه: «التسريحة» (1900).
تتقاطع لوحة بيكاسو «التسريحة»، مع لوحة رينوار «التسريحة». كما مع لوحة «شافان»: «صبايا على شاطئ البحر» (1860). يأخذ بيكاسو من اللوحتين، من تاريخين للفن، ليبدع لوحته على أساس اختلاف العلامة، وتمييز علامته.
يتشكَّل اختلاف العلامة في لوحة بيكاسو بتمييز دلالتها في أكثر من مكوِّن من مكوِّناتها: تبدو المرأة، امرأة التسريحة، في لوحة بيكاسو منتميةً إلى هوية مختلفة، ومعبِّرة عن حالة، أو وضعية نفسية مختلفة عما هي عليه المرأة في اللوحتين المصدرين.
لا نرى وجه المرأة في لوحة بيكاسو. هي وحدها تراه، تنظر إليه في مرآة، نرى ظهرها، نراها جالسة وفي كتفيها بعض الانحناء، ترتدي ثياباً قاتمة، لا تكشف عن شيء من جسدها.
تختلف هذه المرأة عن المرأة في لوحة «رينوار» التي نرى وجهها الفتيّ، وعري صدرها البارز، ونضارتها البارزة على رغم محاولتها ستر عريها. كذلك تختلف عن المرأة في لوحة «شافان» التي تبدو بوقوفها، وبعريها النصفي، ممشوقة، جميلة القوام. وهي إذ تمسك بشعرها الطويل من أعلاه، وتترك ما تبقَّى منه للهواء يفرده، تبدو مثل حوريّة من حوريّات البحر، تقف على الشاطئ تدير لنا ظهرها، كأنَّ البحر مرآتها التي تتأمَّل فيها ذاتها.
تبدو لوحة بيكاسو قاتمة بألوانها التي تتراوح بين الأزرق الغامق وشيء من السواد. ثمة عتمة في زاوية منها، وهو ما يناقض ألوان اللوحتين المصدر. ألوان يُوحي، تموّجها، بالراحة والمتعة تنعم بهما المرأة في هاتين اللوحتين، إذ تسرِّح كل منهما شعرها الطويل على طريقتها من دون أن تنظر في مرآة. العلامة في اللوحتين المصدر توحي بدلالات إيقاعيّة واضحة، وتشير إلى معايير تشكيليّة تكوينية – في ما يخص اللون والخطوط والفضاء – محدَّدة بالانتماء الفني. بينما تتسم لوحة بيكاسو – في ما يخص دلالتها الإيقاعيّة ومعاييرها الفنيّة التشكيلية – بالغموض والالتباس النسبي؛ كأنها بذلك موضوعة أمام أكثر من احتمال، أو أمام تنويع قادم سيتمثل فعلياً (بعد خمسين سنة) في لوحة بيكاسو «امرأة تتزيَّن» (1956) التي تحيل، اسماً وموضوعاً، على لوحته السابقة «التسريحة»، وبالطبع، أو بالتواتر، على لوحة «رينوار» ولوحة «شافان»، ولكن في تشكيل فني ينتمي إلى تكعيبيّة بيكاسو. كأنَّ لوحة بيكاسو «التسريحة» تمهِّد بغموضها والتباسها، وبالتالي باختلاف دلالة علامتها وإيقاعها، لهذه النقلة النوعيّة في الفن التشكيلي، النقلة التثويريّة، وعلى قاعدة: الرسم من الرسم وضد الرسم. تنتمي لوحة بيكاسو «امرأة تتزيَّن» إلى مرحلته التكعيبيّة، التي تتميَّز فنيّاً بتكسير الخطوط وتداخلها، بتشكيل يُظهِر عدم السويّة، بما يوحي بالتشوُّه، بما يجعل عناصر التكوين في غير موضعها المعروف…
مارس بيكاسو عمليّة التنويع على التيمة نفسها ليبدع تنويعات الاختلاف. اختلاف العلامة/ العلامات، الخاصة، المميَّزة بالتباسٍ يفتح الدلالة على ما هو بعيد وعميق، وقادر، فنيّاً، على تجاوز ما كانت اللوحة/ اللوحات السابقة تومئ به. أشير إلى مثالين بارزين على تنويعات بيكاسو.
المثال الأول جاء تحت عنوان: «نساء الجزائر». وهو تنويع على لوحة لـ «أوجين دي لاكروا» تحمل اسم «نساء الجزائر» (1834) ومعروضة في متحف اللوفر.

تعود تجارب بيكاسو الأولى التنويعيّة على هذه اللوحة (لوحة دي لا كروا) إلى عام 1940. إلاَّ أنه وبين 13 كانون الأول (ديسمبر) 1954 و14 شباط (فبراير) 1955، انكب وفي شكل جدي على عمله التنويعي هذا لينجز 15 لوحة ورسوماً عدة مستوحاة من لوحة «دي لاكروا»: «نساء الجزائر». في المعلومات التي يقدِّمها القيِّمون على معرض بيكاسو، نقرأ أنَّ بيكاسو كان مدفوعاً إلى عمله هذا بـ «تيمة الحريم»، وبما تثيره من أحاسيس، وبالشبه الذي رآه بين صديقته الجديدة «جاكلين روك» وامرأة النارجيلة في (لوحة دي لاكروا)، وما تركه ذلك من أثرٍ فيه.

تنوَّع لوحات بيكاسو وتختلف فنيّاً وإيقاعيّاً عن (لوحة دي لاكروا)، وإذ تحيل لوحته «جاكلين في زيّ تركي (20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1955) إلى الكلاسيكية»، نجد لوحاته الأخرى (مثل: «امرأة عارية»، ولوحتي «نساء الجزائر» التي تحمل كل منهما اسم «لوحة دي لاكروا» نفسه) تختلف، وتتميَّز بعلامةٍ تصوغها تكعيبيّة بيكاسو. أي تتميَّز بفنيّة تشكيلية تقطع، وتكسر، وتذهب في الالتباس لتكوِّن عالماً يوحي بعلامته المختلفة. ويمكن القول إنه لئن كانت (لوحة دي لاكروا) توحي بتشكيلها لمكوناتها، وبألوانها، بعالم هادئ، ينعم بمتعةٍ توحي بها امرأة النارجيلة، فإنَّ لوحات بيكاسو، في معظمها، توحي بعالم تتهدَّم مكوِّناته، وتفقد انتظامها المعهود. حتى لكأنَّ عمل بيكاسو، وكما ألمح بعض المعلقين على المعرض، تكريمٌ للشعب الجزائري المناضل من أجل استقلاله، تكريمٌ يميِّز علامته وإيقاعه…
أما المثال الثاني فقد جاء تحت عنوان «لي مينين» Les Ménines (تقال لعائلة فيليب الرابع). لوحات «لي مانين» هي تنويعٌ لبيكاسو على لوحة لـ «دياغو فيلاسكيز» تحمل الاسم نفسه وتُعتبر العمل الرئيس، أو الأبرز للمعلم الإسباني فيلاسكيز، فنان الفنانين…
من 17 آب (أغسطس) وحتى 30 كانون الأول (ديسمبر) 1975 كرَّس بيكاسو وقته لمجموعة «لي مانين» المبهرة وقد بلغ عددها 58 لوحة، قدمها بيكاسو عام 1968 لمتحف بيكاسو في برشلونة الذي افتتح قبل هذا التاريخ بـ 5 سنوات. يقول بيكاسو مشيراً إلى ما يميِّز لوحاته: «أنظر وحاول أن تعرف أين توجد هذه الشخصيّة بالنسبة إلى الشخصيّات الأخرى». وهو بذلك يشير إلى حذفه المعيار القيمي للمكان الذي توضع فيه الشخصيّة، وباعتبار علاقتها بالشخصيّة الأخرى.
إنَّ أهميّة لوحات «لي مانين» ترتكز على وضعيّة الفضاء، أو المساحة وتنظيمها في اللوحة، أو في فضائها. وهذا ما يمكن أن نلاحظه مثلاً في اكثر من لوحة من لوحات بيكاسو التي تحمل الاسم نفسه «لي مانين» ويعود تاريخها إلى العام 1957، وتختلف تشكيلاً وألواناً. وقد يكون من المفيد أن نذكّر بأنَّ إنجاز بيكاسو الرائع «لي مانين» واهتمامه بالمعيار القيمي الإيقاعي للمكان كانا بأثر من انتقاله عام 1955 للإقامة في «كان» في فيلا «لا كاليفورني» مع صديقته جاكلين روك. إذ إن هذا المسكن الجديد وفَّر له فضاءً واسعاً للعمل، مكَّنه من أن يرى كل أعماله فيه، مرة واحدة، بحيث أصبح المكان تيمة بذاته، حاضرة في نتاجه في تلك المرحلة. هكذا يبرز شرط العمل، أو ظرفه، عاملاً فاعلاً في عمليّة الإنتاج الفني وتمييزه.
متى يصبح للفنِّ مثل هذه المكانة عندنا فنقدِّم العون للفنانين والمبدعين؟ متى نقف في طابورٍ أمام المعارض والأماكن التي تهتم بتقديم الفن والإبداع، بدل أن نقف في طوابير أمام المخابز وأماكن توزيع ما يسدّ الحاجات الأولى للحياة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى