صفحات ثقافية

«وقائع موت معلن» لماركيز: من قتل سانتياغو نصّار حقاً؟

null
ابراهيم العريس
من المؤكد ان سانتياغو نصّار، لم يكن هو مرتكب الجرم الذي دفع حياته ثمناً له. قتل سانتياغو نصّار بفعل كذبة من الواضح ان من أطلقها كان الحسناء انجيلا فيكاريا، التي كانت هي من وجّه الاتهام الى الشاب بأنه اغتصبها وتخلى عنها ما جعل أهلها يقررون قتله انتقاماً منهم لشرف أختهم الضائع ويقتلونه بالفعل. ويعرف الذين قرأوا رواية غابريال غارسيا ماركيز ان فعل القتل هذا يتم في الفصل الأول. والرواية هنا «وقائع موت معلن» التي كانت آخر ما نشر ماركيز، عام 1981، قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب في العام التالي. وماركيز، حين نشر هذه الرواية كانت شهرته عمّت العالم منذ سنوات عدة ليصبح واحداً من أكبر الروائيين في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ونحن نقول هذا فقط للإشارة الى ان هذه الرواية، على رغم جمالها وقوتها، لم تكن في ذلك الحين على المستوى الذي كان يتوقعه قراء «مئة عام من العزلة» و «خريف البطريرك». غير اننا نسارع هنا لنقول ان «وقائع موت معلن» حتى وإن «أعلن» رسمياً انها تنتمي الى تيار الواقعية السحرية، من ناحية بعض أسلوبها وأجوائها، فإنها في حقيقة الأمر تنتمي الى ما يمكننا ان نسميه «الأدب المستقى من التحقيقات الصحافية»، ما يجعلها في مكان حائر بين الأدب الخالص والصحافة الخالصة في الوقت نفسه. ولعل في إمكاننا، هنا، ان نقول ان هذا العمل اكتسب تميزاً في الحقلين، من دون ان يكون «رواية كبرى» كما من دون ان يكون من الصعب اعتباره «تحقيقاً صحافياً رائعاً» وإن مقنّعاً بعض الشيء.
نقول هذا لأننا، ومنذ البداية، نعرف ان «وقائع موت معلن» التي تحكى بلسان الراوي، الذي هو محقق صحافي، إنما تروي أحداثاً حقيقية وقعت في بلدة سوكر في كولومبيا عام 1951، وسقط ضحيتها شاب، كان صديق طفولة لماركيز ويدعى كايتانو جنتيلي تشيمنتو. ومن الواضح ان مقتل تشيمنتو هذا هزّ ماركيز هزة كبيرة الى درجة انه بعدما كتب، أول الأمر، حين كان لا يزال صحافياً مبتدئاً بعض الشيء، تحقيقاً صحافياً حول الموضوع، آلى على نفسه لاحقاً، أن يطور هذا التحقيق ليعطيه شكلاً أتى أدنى الى الرواية. ومن هنا ما يقوله النقاد عادة من ان «وقائع موت معلن» هي، في الوقت نفـسه عمل صحافي، رواية واقعية، وحكاية بوليسية.
جعل ماركيز في «وقائع موت معلن» بطله الحقيقي تشيمنتو، يقدم لنا تحت اسم سانتياغو نصّار، وهو إذ جعل مقتله في أول الكتاب، فما هذا إلا لأنه أدرك منذ البداية ان ليس في إمكانه ان يرسم في الكتاب تشويقاً، حول ما إذا كان مقتل نصًار سينفذ أم لا، منذ اللحظة التي يقرر فيها الأخوة فيكاريو، أشقاء انجيلا، قتله بعد ان «حكموا عليه بالإعدام»، فور تلفظ شقيقتهم المغدورة باسمه. وهكذا بعد ان يقدم لنا الراوي – الكاتب – المحقق ما حدث، مركّزاً أجواء الحدث وشخصياته غير تارك أي عنصر ليشكل تشويقاً ما، يسير في رحلة استعادية، أي الى الوراء زمنياً، ليبدأ بسرد ما حدث قبل ذلك حقاً، ولكن ليس في شكل سردي خطّي، بل في لعبة مكوكية بين الأزمان. ولقد تجلت هذه اللعبة الفنية الإبداعية، من خلال تقسيم الكتاب، بعد ذلك، خمسة أقسام، يستعاد في كل منها الحدث نفسه، ولكن في كل مرة مروياً من جديد على لسان شخص مختلف ما يضعنا دائماً في قلب الحدث، ولكن في كل مرة مفسّراً من جديد، وغالباً ما تأتي التفسيرات متناقضة، ولكنها في إطار هذا التناقض تتكامل كي تروي لنا في نهاية الأمر حقيقة ما حدث حقاً. وما حدث حقاً هو الآتي: لقد أقامت انجيلا علاقة غرامية مع شخص (لن نعرف اسمه ابداً، بالتالي فإننا في حقيقة الأمر لن نعرف من هو «المجرم» الحقيقي الذي دفع سانتياغو نصّار حياته ثمناً لما فعل)، وهي إذ افتضح أمرها، وأصر عليها إخوتها الأقوياء والمعتدّون بأنفسهم كي تقول من الفاعل، أرادت حماية حبيبها الحقيقي، فذكرت اسم سانتياغو نصار، وكان الحكم قاطعاً بالنسبة الى اخوتها الذين كانوا يحتاجون الى اسم… أي اسم، كي يثأروا وينظفوا اسم العائلة. فكان اسم سانتياغو نصار وكان قتله.
هذا السياق نعرفه نحن القراء بالتدريج، وطبعاً من خلال التحقيق – الصحافي – الذي يجريه الراوي، لكنه يجريه على طريقة التحقيق البوليسي، ما ينهي الرواية، ونحن ألممنا بحقيقة ما حدث، حتى وإن كنا سنكتشف ان لهذه الحقيقة وجوهاً متعددة. لكن المهم في الأمر ان السر يبقى سراً، والجريمة ترتكب والفتاة تنجو بفعلتيها: الأولى ترك نفسها عرضة للاغتصاب من قبل حبيبها وهي «المتواطئة» معه في ذلك، والثانية توجيه الاتهام الى آخر يقتص إخوتها منه وهي صامته «متواطئة» معهم في ذلك. غير ان هذا كله ليس هو بالطبع، الجانب القوي في هذا الكتاب. إنه، بالأحرى، الجانب الصحافي التحقيقي فيه. أما الجانب الآخر، فهو ما نستشفه بالتدريج، من ان أشقاء أنجيلا، ليسوا هم المجرمون الوحيدون في هذا الإطار. بل البلدة كلها شريكة في الجريمة متواطئة في تنفيذها. وهذا الأمر الذي يعبّر عنه طوال فصول الرواية وأكثر وأكثر في شكل تدريجي، يشكل صيحة ماركيز الحقيقية والاجتماعية الأساسية هنا. ولعل كلمة «معلن» التي تأتي صاخبة منذ عنوان الكتاب، قادرة على ان تختصر الأمر كله: ففعل القتل الذي يقرره الأخوة فيكاريو، لم يأت اتخاذ القرار به سراً، بل هو أتى أشبه بحكم إعدام معلن. الكل عارف به والكل صامت حوله وكأنه لا يعرف شيئاً بصدده. ولعل هذا الجانب من النص يذكرنا برواية السويسري فردريك دورنمات «زيارة السيدة العجوز» التي حوّلت فيلماً في سنوات الستين. ففي الحالين ثمة «مجرم» معيّن ترتبط جريمته باغتصاب أنثى، تعلن براءتها إعلاناً ذاتياً في المرتين، كما تعلن هذه الأنثى اسمه وتدعو الآخرين الى الاقتصاص منه بالقتل مع اختلاف أساسي في الظروف والدوافع، ليس المجال هنا كافياً للغوص فيه. وفي الحالتين تقع مهمة الثأر، عمل الجماعة كلها، سواء كانت مدعوة الى فعل مباشر، أو إلى تواطؤ ما. وفي الحالتين إذاً، لدينا ما وراء الحكاية، تلك الإدانة الواضحة التي يوجهها كل من الكاتبين الى الجماعة، التي تكون هي، ومن دون أي وازع أخلاقي حقيقي، خصم الفرد والحاكم والحكم – ومنفذ حكم الإعدام مرة، والساكت عنه مرة أخرى-. ولعل هذه الفكرة الأساسية، في نظرنا هنا – والتي اعتاد الكتاب عن أدب ماركيز وفكره، وعن هذا الكتاب خصوصاً، ألا يولوه أهمية يستحقها-، هذه الفكرة اساسية لدى الكاتبين، كيلا نقول انها يمكن ان تكون، اصلاً، محرّكة ملكة الحلف لديهما. وفي إمكاننا ان نفتح هلالين هنا، لنذكر ان لهذه الفكرة سوابق كثيرة في القرن العشرين، تكشف خطأ الجماعة وجبنها وهيجانها من دون أي منطق أو عقلانية أو تفكير في أن الحقيقة يمكن ان تكون غير ما قيل لها. ويبدو لنا ان واحدة من اهم السوابق وأعمقها، حكاية فيلم «هيجان» للمخرج فرانتزلانغ، الذي يبدو متأثراً بجانب ديماغوجي نقرأه ونقرأه من جديد في مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير، حين تجر الجموع كالخراف الى أفكار الخطباء المتنافسين من حول جثة القيصر القتيل، مبدلة آراءها وأفكارها تبعاً لمقدرة خطيب على ان يكون ديماغوجياً أكثر من سابقه.
نعرف أننا في هذه الأمثلة نكون ذهبنا أبعد مما ينبغي في الإطلال على هذا النص الماركيزي، غير ان الدنو منه مغر بالتأكيد. اما في ما عدا هذا، وإذ نعرف أننا لسنا في صدد واحدة من روايات ماركيز الكبرى هنا، نرى في الوقت نفسه اننا في صدد واحد من أكثر كتبه دلالة و… اتساماً بموقف فكري – سياسي، صريح. ويبقى ان نذكر ان المخرج الإيطالي فرانشسكو روزي، حقق انطلاقاً من «وقائع موت معلن» فيلماً عرض عام 1987، قد تكون له كل فضائل سينما روزي السياسية العظيمة، لكنه لم يأت في قوة كتاب ماركيز، الذي كان أهم ما فيه، فنياً، هندسته البنيوية التي لم يتمكن السيناريو من الحفاظ عليها، لكن هذه حكاية أخرى.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى