الصفحات الثقافية في الصحافة السورية المحلية: مجرد مرآة للمشهد الثقافي أم مساهمة في صنع حراك جديد؟
أنور بدر
دمشق ‘القدس العربي’ البرنامج الثقافي ‘كاتب وموقف’ ما زال مستمراً منذ ثلاثين عاماً، يعده ويقدمه الناقد والإعلامي عبد الرحمن الحلبي، بالتعاون بين المركز الثقافي العربي في دمشق والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، عبر ندوة يشارك فيها كاتب أو أكثر وتنقل مباشرة على أثير هواء إذاعة دمشق، حتى يمكن اعتبار الأستاذ الحلبي وبرنامجه من الظواهر الايجابية في المشهد الثقافي والإعلامي والذي ما زال يقاوم عوامل الحت والتعرية التي تتآكل في ظلها الكثير من الظواهر المشابهة، بل وتتآكل معها حياتنا أيضاً.
في ندوته الأخيرة اختار الأستاذ الحلبي موضوعاً حاراً للحوار، هو ‘الصفحات الثقافية في صحافتنا المحلية’ ما لها وما عليها؟ ماذا أنجزت وما هي الصعوبات التي تواجهها؟ مؤكدا أن الصفحات الثقافية في صحفنا المحلية لم تعد مقروءة، ولم تعد تساهم بصنع حراك ثقافي أو لم تعد تدار فيها وحولها معارك ثقافية كما حدث في منتصف القرن المنصرم.
استضاف لندوته كُلّاً من الأساتذة وليد أسعيد رئيس دائرة الثقافة في صحيفة ‘تشرين’ السورية، ديب علي حسن رئيس دائرة الثقافة في صحيفة ‘الثورة’ السورية، وأحمد تيناوي مدير تحرير صحيفة ‘بلدنا’ الخاصة، وانعكست حرارة هذا الموضوع من خلال حضور الكثير من الإعلاميين وكتاب الصفحات الثقافية. وقد شاركت ‘القدس العربي’ في هذه الندوة ونقلت أهم الحوارات والأفكار التي طرحت فيها:
بداية تحدث الأستاذ وليد أسعيد من صحيفة ‘تشرين’ عن تجربته في القسم الثقافي قائلاً: سوية القسم الثقافي في الصحيفة تتماشى مع سوية الثقافة في البلد عموماً، وطالما أن المشهد الثقافي تتراجع سويته بشكل عام، فإن سوية التغطيات الإعلامية ستكون محكومة بهذا التراجع. فما يكتب في الصفحات الثقافية هو انعكاس لما يجري في الواقع.
ونحن نفرد حالياً قليلاً من الصفحات الثقافية للشأن الإبداعي شعراً أو قصة، والمساحة الأكبر هي لتغطية الحدث الآني، لدينا عدد من الزملاء متخصصون في بعض القضايا الثقافية، وبعض الزملاء غير متخصصين، وهذا ينعكس على سوية التغطية الإعلامية، والأداء بشكل عام يعكس الواقع، لذلك أقول أننا غير راضين عن أدائنا.
أما الصعوبات التي تواجهنا فهي جزء من المناخ الثقافي السائد في البلد، إذ يلعب العامل الشخصي دوراً كبيراً في التغطية، كوننا لم نصل إلى سوية الكاتب أو الناقد الحيادي، فالموقع الشخصي يلعب دائماً لمصلحة أو ضد التغطية، وكذلك تغيير المواقع. المسألة الثانية أن هامش الحرية الذي نحاول دائماً أن نتوسع به قدر الإمكان، نراه يضيق بقرارات عليا، فرئيس تحرير لا يهتم بالثقافة مثلاً يرسل أي إعلان يأتيه إلى الصفحات الثقافية، ويتدخل في فرض مواد غير صالحة للنشر، وهذا التدخل يتم في أحيان كثيرة من جهات أعلى من رئيس التحرير، فرئيس قسم الثقافة في صحيفة رسمية غير مسؤول عن كل ما ينشر في صحيفته.
الإشكالية الأخيرة أن تراجع القراءة وعدم الاهتمام بما ينشر حتى من قبل الكتاب أنفسهم ينعكس على سوية المتابعة، فلا يوجد حراك ثقافي لدينا، والصفحات الثقافية عاجزة عن تحريك المشهد الثقافي الراكد. لا توجد متابعة من الجهات الرسمية التي يوجه لها الانتقاد أو من القراء أنفسهم، التفاعل معدوم في وسطنا الثقافي لدرجة أنك تكتب ما شئت، ولا أحد سيسألك ما تكتب.
الزميل ديب علي حسن من صحيفة ‘الثورة’ لم يكن أقل انتقاداً، إذ أكد أن الصحافة العربية منذ القرن التاسع عشر بدأت ثقافية، وحتى الصحافة السياسية في بلاد الشام أسسها مثقفون، وكانت تُعنى بالثقافة كثيراً، فكيف اختزل المشهد الثقافي لدينا؟ !
المشهد الثقافي في ‘الثورة’ يشبه المشهد الثقافي في ‘تشرين’، رغم وجود ملحق ثقافي يُعنى بالإبداع وصفحات متخصصة في بعض الأيام. لكننا جميعاً متابعون للمشهد الثقافي ولسنا مساهمين في صنعه، لدينا مؤسسات ثقافية لو كانت موجودة في الربع الخالي لغيرت وجه الصحراء، تصوروا في ريف دمشق وحدها 120 مركزاً ثقافياً، لو فُعلت لكنا بألف خير، لكنها شبه معطلة عندنا، ونحن في الصفحات الثقافية نشكل مرآة للواقع تعكس الصورة بكل تشوهاتها، ولا نستطيع المساهمة في تحريك المشهد العام.
على كل حال الصعوبات كثيرة، بدءاً من مزاجية المثقف والعاملين في الشأن الثقافي، لدينا في قسم الثقافة بصحيفة الثورة ثلاثون محرراً، أقول مع ذلك نحن محظوظون بوجود بعض الأسماء التي تسعى باتجاه التخصص وتطوير أدواتها الشخصية، ربما لم نحسن الاستفادة من كل الزملاء. في إحدى الحوارات مع رجاء النقاش قال لي : أنا جئت إلى سورية سنة 1958 وعملت في جريدة ‘الجماهير’، وتعلمت الصحافة في سورية، فماذا عملتم بالصحافة؟
ثم تحدث الزميل والشاعر احمد تيناوي عن تجربته في صحافة القطاع الخاص وتحديداً بالإشراف على القسم الثقافي، انطلاقاً من وجود متغيرات تصل إلى 180 درجة عما كان سائداً منذ سنوات، وأكد أن الصفحات الثقافية لم تعد تصنع أديباً أو نجماً، وتقلص دورها إلى متابعة الأحداث الثقافية أكثر من المساهمة في صنع هذه الأحداث، أي فقدت دورها كجزء من المناخ الثقافي العام لتتحول إلى مجرد تابع لهذا المناخ.
وعن تجربته في الملحق الثقافي الذي استمر طيلة عام 2008 بالتزامن مع احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، أكد على وجود معايير أهمها الحداثة ‘أنت ببساطة شديدة تريد أن تنتمي لعصرك، حاولنا جاهدين التقاط النص والنفس الحديث عن طريق التغطية بالنص المفتوح، بالخيارات الأدبية المفتوحة’.
أما الصعوبات برأيه ‘أنك لا تستطيع أن ترضي كل الناس، وكل من يشتغل في الصحافة الثقافية يعتبر مادته أفضل مادة كُتبت، لذلك تثار الحساسيات، وهذا ما دفعنا إلى الاعتماد على كادرنا في العمل الثقافي، نحن لا نستكتب أحداً، فالعمل في الصفحات الثقافية يولد أعداء كثيرين إذا كان لديك مشروع’.
لكن المفارقة أنه وبعكس زميليه في ‘الثورة’ و’تشرين’ لا يرى تراجعا في المشهد الثقافي، بالمطلق الكلام ليس صحيحاً أن المشهد الثقافي يتراجع. إذ عاشت دمشق خلال العام المنصرم حراكاً ثقافياً كعاصمة للثقافة العربية، وكان جميلاً، نحن نتحدث عن مرآة عاكسة وعن متابعة وعن فعالية… نحن كقطاع خاص أقول أن ذلك غير صحيح، حاولنا أن نقرب المشهد الثقافي إلى جانبنا، لا نجامل أحداً ولا ننشر مادة غير مقتنعين بها، وبالتالي استطعنا أن نحدد ماذا نريد، والعلاقات الشخصية في مطبخنا لا تتحكم في التغطيات الثقافية.
ديب علي حسن ردَّ باسم الصحافة الرسمية، أن المشهد الثقافي المتألق الذي تحدث عنه الزميل تيناوي هو النواة، لكن المشهد العام ليس بخير، أعطى نماذج لأسماء انتسبت لاتحاد الكتاب ولا تعرف قواعد اللغة العربية، عن دواوين وكتب نُشرت بأسماء لم يكتب أصحابها كلمة مما نُشر. هؤلاء الأشخاص هم من يشوهون المشهد الثقافي في بلدنا، بل ويصنعونه الآن.
وليد أسعيد من ‘تشرين’ أكد أيضاً أن هذه القاعة خير شاهد على تراجع المشهد الثقافي، حين لا يحضر الكثير من فعاليتها إلا عدد قليل من المهتمين بالشأن الثقافي، هناك مؤسسات ثقافية تقيّم الفعاليات لا تتعدى المصالح الضيقة للقائمين عليها، وأكد على وجود العامل الشخصي في المتابعة الثقافية مع أنه ليس شاملاً. وعلى الصعيد المهني أرى أن متابعتنا للمشهد الثقافي محكومة بتراجع المشهد العام ككل. تفاجئني بعض المغالطات على مستوى المعلومة ومع ذلك لا نصحح، وهذا دليل لعدم متابعة الصفحات الثقافية من القراء.
مداخلات كثيرة من الزملاء الإعلاميين ومتابعي الشأن الثقافي، تضاربت في أحيان كثيرة لكنها أشارت بالعموم الى وجود أزمة تبدأ بحال الثقافة السورية وتستمر بعلاقة المثقف بالسلطة ودور الرقابة وهوامش الحرية المتناقصة فيما يخص الثالوث المحرم تحديدا: السياسة والدين والجنس، حتى أن أحد الزملاء طالب بتوزيع نشرة تتضمن ماهو ممنوع وما هو مسموح يومياً.
السؤال الآخر كان حول غياب الاستراتيجية ثقافية، وهو ما صرح به السيد وزير الثقافة في رده على سؤال جريدة ‘الثورة’ الرسمية، وهذا ما يجعل المؤسسات الثقافية والإعلامية تعتمد على مبادرات ذاتية ومتابعات محكومة بأكثر من شرط ذاتي.
غياب الاستراتيجية الثقافية وغياب الهوية الحداثوية وغياب الحريات الضرورية لتطور أي عمل إعلامي لا يكون بتبرير أننا صحـافة وطنية وأننا محكومون بضرورة نشر ما هو حداثوي وما هو كلاسيكي بآن معاً، وإلا سنظل تابعين لحراك المشهد الثقافي العام وغير فاعلين في تشكيله وتطوره.
من جهة ثانية أشار البعض إلى غياب الاختصاص عند أغلب العاملين بالصحافة الرسمية، إذ يزج بأعداد متزايدة من الموظفين في الأقسام الثقافية تحديدا كونها الأسهل برأي المعنيين أو الأقل أهمية في صحافتنا الرسمية مقابل ضعف المهنية كون جامعاتنا لا تخرج صحافيين مهنيين حتى الآن، فتحولت الصفحات الثقافية إلى مكسر عصا، وعندما نضطر إلى صفحة للإعلان لا نجد أسهل من أخذ الصفحة الثقافية.
إشكالية الصحافي الموظف شيء وإشكالية رأس الهرم الثقافي وزيراً كان أم رئيس تحرير شيء آخر، فمزاجية المسؤول عندما لا يكون مهتما بالثقافة، تنعكس بتمرير مواد سبق رفضها من قبل رئيس القسم، أو تمرير أكبر عدد من الإعلانات إلى الصفحة الثقافية.
كما أثير السؤال: هل نريد صحافياً يكتب في الثقافة، أم مثقفاً يكتب في الصحافة؟ وهذا قادنا إلى غياب المثقف الشمولي وغياب الاهتمامات العامة بل غياب القضايا الكبرى عن مجال الوعي العام وعن الشأن الثقافي مما انعكس في سوية تلك الصفحات التي اقتصرت على المتابعة في حدودها الدنيا، وهو ما وجد تبريره لدى إحدى الصحافيات بالمردود المادي ‘أنا أكتب بقدر ما أتقاضى’. وهذه المسألة فتحت على الفارق ما بين الصحافة العامة والخاصة، فالصحف الرسمية لا تبدو مغرية في تعويضاتها المادية التي لا تتعدى 500 ل.س للقصيدة، و1200 ل.س للمادة الصحافية، ثم يأتي دور الحسميات والضرائب التي تجعل تلك الأرقام أقل من ذلك.
مع ذلك هناك من يرى أن الصحف الخاصة التي صدرت في سورية ظلت دون سقف الصحف الرسمية، لكن الصحف الخاصة تقوم مقابل التعويض المادي المجزي بغربلة الصحافيين لأن نظام العمل لا يسمح بوجود الصحافي الموظف قط.
الرأي الأخير اعترض على مجمل حوارات الندوة حين أكد: توقعنا من الندوة أن تأتي بمثقفين يقدمون قراءتهم للصفحات الثقافية المحلية، لا أن تأتي بصحافيين يقيمون الثقافة السورية. وهذا ينطوي على الكثير من الدقة دون أن يُغمط الملاحظات الجادة التي طرحت في هذه الندوة شيئا من أهميتها، وتبقى الصفحات الثقافية أولا وأخيرا شاهد على حال الثقافة السورية.
القدس العربي