صفحات ثقافية

الجوائز الأدبية فعل إيجابي أم سلبي

null


اسكندر حبش

بعد عقود بدا فيها الأدب العربي وكأنه يصارع وحده، شتى المؤسسات والأفكار وحتى الدول، نجد اليوم العديد من هذه الدول، وقد دخلت في قلب هذه «اللعبة» الأدبية (إذا جاز التعبير)، لتعلن عن جوائزها الأدبية والفكرية والعلمية السنوية. ربما يبدو الأمر مستغربا بمعنى من المعاني،
بسبب الاعتبار الدائم للأدب والثقافة بأنهما على الهامش في عالمنا العربي هذا. كثيرا ما كنا نحتج في أحاديثنا المتكررة، على غياب الجوائز الأدبية الكبيرة، كتلك التي نشهدها في بقية دول العالم. إذ إن متابعتنا ما يحصل مثلا، مع «غونكور» (في فرنسا) أو«البوكر برايز» (في بريطانيا) أو «بلانيتا» (في اسبانيا)، وما إلى هنالك من جوائز أجنبية، كانت تجعلنا نطرح السؤال عن سبب غياب ما يشبه ذلك في أوطاننا. وكنا نمني النفس أن يأتي يوم نتوقف فيه عن اتهام «الجوائز العالمية» بأنها لا تهتم بالأدب العربي الذي يستحق أن يتبوأ مركزاً أفضل مما هو عليه.

وفجأة تغير الوضع، إذ بدأت الجوائز الأدبية تنهمر علينا في العالم العربي، وحتى من دون أن نعرف السبب الحقيقي الكامن وراء ذلك، أي من دون أن نعرف سبب هذه «الصحوة الفجائية». من هنا لا بد لسؤال أول أن يطرح نفسه، هل الجائزة تصنع كاتبا؟ إذ عديدون هم الذين حصلوا على جوائز أدبية في حياتهم، لكنهم اختفوا اليوم من التداول الثقافي، بمعنى أنهم غابوا، ولم يعد أحد يعود ليقرأهم، إذ إن المهم، هو في النتيجة، أن يكتب الكاتب أعمالا حقيقية، نابعة من هذا الحس الإنساني الذي يمكن له أن يحفظ ذكرى هذا الكاتب وأعماله. حول ذلك، يقول الروائي والأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج: «لنتفق من حيث المبدأ أن الكاتب عندما يكتب، فإنه يكتب لحاجة فيه، لنزعة ذاتية ولانشغال ذاتي وحضاري، لرغبة، ولا أعتقد أن كاتبا عاقلا يفكر ويكتب من أجل الجائزة ولكن على الكاتب كذلك أن يكتب لقراء مفترضين سيطلعون على كتابه وهؤلاء القراء يبدأون من القارئ العادي إلى القارئ المتخصص كالناقد مثلا ويحدث رد الفعل الإيجابي أو السلبي مما يضع الكتاب في نهاية المطاف أمام مسؤولية تتجاوز الفعل الذاتي، لأن الكتابة تصبح بهذه الحالة فعلا اجتماعيا مشتركا. والجائزة هي جزء من هذا الفعل الاجتماعي أي الاعتراف بالمجهود ووضعه في ذاكرة التقييم الجمعي مما قد يعطي الكتاب وجودا جديدا من حيث ارتفاع عدد القراء ومن حيث قيمة الكاتب، الخ…». لكن ذلك لا ينسي واسيني الأعرج من الانتباه إلى أمر أساسي في الحياة الثقافية إذ إن «كل هذا مفترض أن لا يغير في إستراتيجية الكتابة لدى الكاتب وإن كان يحمله مسؤولية جديدة تجاه قرائه بمختلف تشكلاته، فالجائزة بهذا المعنى فعل إيجابي واعترافي يدل على أن المجهود المبذول له صدى ليس لدى القارئ العادي ولكن كذلك لدى القارئ المختص. من هنا تتجلى قيمة الجائزة والتي يجب أن تلعب دورا تدعيميا وأن تتحول إلى رمز صادق بمعنى أن في الوطن العربي العديد من الأدباء والمفكرين ومن الصعب أن تعطى الجوائز للجميع لكن على الأقل من تعطى له يجب أن يعبر رمزيا عن الكل مثل ما يحدث في الجوائز الاستثنائية كجائزة نوبل إذ يمكن أن يختلف الناس على الكاتب بشكل عام ولكنهم لا يختلفون عن قيمته الإبداعية الخلاقة».

الموضوعية

لكن هل يعني ذلك أن علينا إيقاف هذه الفكرة «الاحتفائية»، بمعنى من المعاني، والتي أصبحت من مكونات الأدب في العصر الحديث، مثلما أصبحت أيضا من سمات العصر الذي نحياه؟ مهما يكن من أمر ومهما كثرت الانتقادات، تبدو فكرة الجوائز فكرة ضرورية بمعنى من المعاني، إذ يرى الناقد والباحث العراقي عبد الله إبراهيم أن «الجوائز هي من المحفزات المنشطة للكتابة الإبداعية، لكنها ليست المنشط الوحيد. فبدون ظهور مجتمع أدبي يتداول الثقافة بكل معنى الكلمة، ينعدم النشاط الإبداعي الحقيقي. ولهذا فإن الجوائز الأدبية يمكن أن تساهم في تشجيع جانب من ذلك الإبداع على أن يحافظ على قواعد النزاهة والاستقلالية في كل ما يتصل بهذه الجوائز من ترشيح إلى تحكيم إلى منح الجائزة نفسها وأيّ خلل أو تواطؤ في إحدى هذه الحلقات سيؤدي إلى نتيجة معاكسة تماما لهدف أيّ جائزة. أي أن الجائزة تصبح هدفا للارتزاق والتصارع والتنافس المجاني الذي يفتقر للمعايير الحقيقية في مجال الأدب. ولهذا أدعو الهيئات المشرفة على هذه الجوائز إلى التشديد المفرط في وضع معايير دقيقة والالتزام بها ومراجعتها في كل دورة جديدة كي لا يتم اختراق أو تخطي هذه المعايير، فقيمة أي جائزة ترتسم في الأذهان بمراعاة الشروط الدقيقة لمنحها».

هذه المعايير التي يتحدث عنها عبد الله إبراهيم نجد صداها في كلام الناقد المصري صلاح فضل، إذ بعد أن يجدها «ظاهرة جد إيجابية وإن كانت قد تأخرت قليلا وبدأت عشوائيا ثم لم تلبث أن تقاطرت بعد ذلك بإيقاع معقول» يضيف فضل، في كلامه، شروطا لـ «كي تحقق غايتها من إبراز المنجز العربي في المجالات المختلفة والإسهام في تحقيق نهضة فعلية» إذ ينبغي أن تتوفر لها الظروف التالية، وهي بحسب فضل تتوزع على خمسة بنود: «أولا، أن تتحول من مبادرات فردية يقصد بها أصحابها شيئا من المجد والذكر الشخصي إلى مؤسسات حقيقية ذات نظم متبعة وآليات دقيقة وأهداف محددة. ثانيا، أن ترتكز على أسس موضوعية في التحكيم يلتزم أكبر قدر من الشفافية والدقة العلمية والموضوعية دون أدنى ظل للتحيز الإيديولوجي أو الإقليمي أو أي شكل من أشكال التحيز وأن تأخذ في اعتبارها دائما المستوى الذي ينشد الرقي بالإنتاج العربي. ثالثا، أن تتنوع المجالات لتوزع بالتعادل الدقيق بين الثقافات الإنسانية والعلمية فما زلنا متخلفين في مجال الانجاز العلمي والعلوم التطبيقية البحتة ونحتاج إلى قوى ضخمة للدفع بحركة هذا الإنتاج على مستوى المنافسة العالمية. رابعا، أن تكون النخبة التي تستهدفها هذه الجوائز في نهاية الأمر هي الدفع بالمنجز الإبداعي والثقافي العربي ليدور في الفلك العالمي ويصبح قادرا على الإضافة إليه والتنافس الحر معه وقد يتأتى ذلك بتنسيق مجالات ثقافية منظمة بالترجمة والوسائل الأخرى لتقديم الأعمال الفائزة إلى الثقافات الأخرى».

لحظة حقيقية

بدوره يعتبر الباحث العراقي رشيد الخيون، أن «ظاهرة الجوائز وتعددها ظاهرة إيجابية وداعمة للثقافة بدون شك وبالتحديد داعمة للمثقف وربما أكثر من الثقافة نفسها. لا يجوز أن نتعامل مع المثقف هذا الكائن الناسك والمتقشف باعتبار أن الآلام هي المحفز الأكبر لشعر أجود وأدب أجود، ومعلوم أن فئة المثقفين هي الفئة الأقل رفاهية ومالا من غيرها، لأن الثقافة مجال غير استثماري». لكن هذا الدعم لا ينسي الخيون بعض التحفظات، إذ يجد أن «الجائزة بحد ذاتها سيف ذو حدين، فهي إما أن تأتي عبر مؤسسة لها أسسها ولها ثوابتها تتعامل مع المثقف على أساس إبداعي وإما أن تكون مجرد مهرجان لتقديم جائزة ودعاية للمؤسسة المانحة». ويضيف، «من جانب آخر على الجائزة أن لا تتحول إلى هدف لدى مثقفين يتنافسون من أجل الحصول عليها، بهذه الحال سيكون الأمر عبارة عن سباق، ويمكن تجاوز النزاهة فيه وحتى الإبداع نفسه على طريقة التنافس بين طلبة المدارس، وهذا نوع من التقليل من شأن المثقف». إزاء هذا نجد في كلام الخيون ما يشبه رأي الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، إذ يقول: «على المثقف أن لا يفكر بالجائزة عندما يكتب وينتج مثل الناسك أو الإنسان الذي يعبد ربه من أجل الثواب، أو آخر يعبد ربه لأنه يستحق العبادة. فالفرق بين الفئتين كبير جدا ولا بد أن تكون هناك مخاطر تحمي الجائزة من الالتفاف عليها، وفي الأخير تعطى لمن هب ودب وهذا يتعلق باختيار المحكمين أنفسهم».

لا يشذ رأي الكاتب والباحث العماني عبد الله العليان، عن آراء زملائه، إذ يعتبر أن «ظاهرة الجوائز العربية تشكل دعما إبداعيا للإنتاج الفكري والثقافي العربي خاصة أن هذه الجوائز تدفع المبدعين العرب إلى استخراج الطاقات الخامدة أو الساكنة لأسباب وظروف متعددة، منها عدم القدرة على طباعة إبداعهم وإهمال الكثير من المؤسسات العربية الثقافية والفكرية الرسمية على تشجيع هؤلاء المبدعين». ويعتقد العليان أن «هذه الجوائز، ستساهم في تحفيز هؤلاء وتجعلهم أكثر قدرة على تقديم أعمالهم الإبداعــية وعلى الانتشار وهذه خطوة جيدة لرفع مستوى الثقافة والإبداع في الوطن العربــي». من هـنا يخلص إلى القول بأنها «ظاهرة إيجابية تستحق أن تسلط عليها الأضواء والاهتمام والدعم لأنها فعل مشجع على إبداعات المفكرين والباحثين والمبدعين في الوطن العربي».

مهما كثرت الانتقادات، تبدو فكرة الجوائز الأدبية، فكرة «ضرورية» اليوم، إذ لا بد أن حضورها يثير الكتاب ويشجعهم على العمل أكثر، مع الانتباه على كيفية اختيار لجان التحكيم، مثلما يجد عبد الله إبراهيم وصلاح فضل. أي بمعنى أن تتحول الجائزة إلى لحظة ثقافية حقيقية لا إلى مهرجان توزيع صاخب يختلط فيه الطعام والأزياء والحضور المسرحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى