صناعة المثقف عبر الصورة
د.عبدالله السيد ولد أباه
تحدثت مرة في هذه الصفحة عن «المثقف الاستعراضي»، وعنيت به الأنموذج الجديد من المثقفين الذين يستمدون معلوماتهم الأساسية من وسائل الإعلام السيارة، وبصفة خاصة التلفزيون الذي دخل بقوة مثيرة البيت العربي في العقد الأخير، وأخذ يحتل، وبالتدريج، موقع الكتاب.
ينصرف الذهن هنا بداهة إلى الصحافي المصري المعروف محمد حسنين هيكل الذي بعدما كان في الستينيات من صناع الرأي بمقالاته واسعة الانتشار في صحيفة «الأهرام» أيام المد الناصري، أصبح اليوم في مرحلة المد التلفزيوني من صناع الثقافة الاستعراضية في برنامجه في قناة الجزيرة، الذي انتزع فيه مكان المؤرخ والمحلل السياسي معا.
ولعله نجح جزئيا في تثبيت صورة قابلة للنقاش عن مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة والعالم.
ولعل الوجه الموازي له هو الشيخ يوسف القرضاوي الذي أصبحت مادته الإفتائية الإرشادية مصدرا رئيسا لثقافة الكثير من المسلمين من متوسطي الثقافة الذين لا تتوافر لهم فرصة قراءة كتبه التي تجاوزت المئة.
هيمنة الاستماع
وعلى الرغم من أن الظاهرة التي يدعوها عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو «هيمنة الاستماع» كونية،
لا تختص بعالمنا العربي، إلا أن الدراسات أثبتت من جهة أن العرب هم أكثر شعوب العالم إقبالا على التلفزيون (مما يفسر بنسبة الأمية المرتفعة وهاجس الاحتيال على الرقابة الإعلامية)، وأثبتت من جهة أخرى اختلاف طبيعة التأثير بين الفضائين الصناعي المتطور والجنوبي المتخلف.
ففي الوقت الذي يتمحور تأثير الإعلام السيار في العالم الغربي في توجيه الرأي والذوق وخلق المسلمات الجاهزة بوسائل خفية غير منظورة، لايزال الإعلام الجنوبي يسلك مسلك الدعاية المباشرة والتعبئة الإيديولوجية وصياغة الوعي ذاته.
في الحالتين يكون الفكر الحر الرصين هو الضحية، على رغم السمة التعددية المتنوعة الظاهرة.
وبالرجوع إلى أطروحة بورديو، يتعين التنبيه إلى أن الممارسة الأصيلة للفكر تتطلب الوقت والتأني، في حين أن هيمنة المشاهدة تفرض على إعلام الصورة اصطياد السبق الإخباري من جهة، وضرورة الاختصار المخل من جهة ثانية.
كما أن هاجس الإجماع الذي هو النتيجة الطبيعية لسلطة المشاهدة يحول المعلومة إلى مجرد منوعات خفيفة لا معنى لها سياسيا، ذلك أن هيمنة المشاهدة تتطلب عدم حسم المواقف وتمويه الحقائق حفاظا على نسبة الحضور.
ولذا كانت الحوارات في الغالب متعة استعراضية لا نقاشا جديا حول القضايا المحورية. ومن هنا بروز نمط من المثقفين يطلق عليه بورديو تسمية fast-thinkers، على غرار مطاعم الوجبات السريعة.
ابداع المستنسخات
إنهم صنف من الكتاب يتميزون بالقدرة على إبداع مستنسخات سهلة الحفظ والاستيعاب والترديد حول موضوعات شديدة التعقيد، فيوهمون زبائنهم أنهم أوصلوهم بأسهل الطرق إلى عالم الفكر.
أما المفكرون والكتاب الحقيقيون فيصبحون أمام معضلة حقيقية: إما أن ينسحبوا عن الأضواء فيقطعون حبل الصلة الأقوى بالناس، أو يضطروا إلى ملاءمة خطابهم مع مقتضيات الإجماع القسري القائم، فالتلفزيون أصبح راهنا مسلكا للوجاهة، ومنفذا إلى عالم النخبة. قد كان الفيلسوف المعروف جيل دولوز يقول ببعض التهكم إن كتّاب اليوم يحرصون على الإكثار من المؤلفات لهدف واحد، هو استدعاؤهم لبرامج التلفزة.
ينتج عن هذه الظاهرة أيضا تحول نوعي في صورة الصحافي ودوره الذي كان في الماضي خليطا من شخصية المغامر المقاتل الذي يركب المخاطر للوصول إلى الخبر، والمثقف المناضل الذي يتخذ العمل الصحافي سبيلا للتعبير عن الموقف والدفاع عن الرأي. لقد أصبح صحافي التلفزيون جامعا بين أنموذجين آخرين :هما صورة النجم السينمائي المثير الساحر، وصورة محتكر المعلومة والمعرفة. ومن هنا ازدادت قيمته الاجتماعية، على الرغم من هامشية دوره في مسار الإنتاج المعرفي.
الثقافة المعلبة
إن خطورة هذا التحول تكمن في تأثيره السلبي على الحريات العامة، وعلى الممارسة الديمقراطية نفسها. فمن ناحية تقضي الثقافة الإعلامية المعلبة على الحس النقدي بما تخلقه من أحكام ومسلمات جاهزة لا تقبل النقاش.. ومن ناحية ثانية تصنع وهم المشاركة في الشأن العام من خلال المتابعة الكثيفة والإسهام في البرامج الحوارية الحرة، وإن كانت الهوة لا تنفك تتعمق في المجتمعات الديمقراطية العريقة بين مؤسسات التمثيل الشعبي وديناميكية الرأي العام، فكيف بالبلدان الهشة الحقل السياسي التعددي؟
ولهذه الظاهرة علاقة وثيقة بسيطرة اللوبيات المالية والصناعية على الفضاء الإعلامي السمعي البصري على الأخص. ولذا لم يجانب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه الصواب في قوله إن انبثاق المال في الصورة تزامن مع انبثاق الصورة في الإقناع الجماعي، ما أدى إلى تقويض المجال المدني وتعويمه في الفضاء الاقتصادي. وهكذا أصبح الفعل الإقناعي بمثابة عملية شراء (للمساحات والأوقات) للمواطن من حيث هو مجرد مستهلك.
ويمكن القول إنه بدلا من أن تصبح الطفرة الفضائية عاملا دافعا للحريات العامة، صح أن نطلق عليها ما دعاه بورديو بالأداة الإضافية للقمع الرمزي.
كاتب من موريتانيا