تاريخ… ومشاريع
حسام عيتاني
من غرائب التاريخ العربي أن أول من تنبأ بالنهضة الأوروبية وربما على مستوى العالم، كان المؤرخ ابن خلدون. لم يفت هذا البحاثة والعالم اللامع ملاحظة إرهاصات تجري عند الضفاف المقابلة من البحر المتوسط. فتحدث عن حركة ترجمة واسعة من العربية وغيرها من اللغات الى لغات الفرنجة، وخصوصا الى اللاتينية. وبما انه لا يمكن ولا يصح عزل الترجمة عن أنماط النشاط الفكري والثقافي الاخرى، أعرب صاحب المقدمة عن اعتقاده بأن المستقبل سيشهد تطورات كبيرة في الغرب الذي كان موسوما في ذهن العرب بالتوحش والتخلف.
كان ذلك العصر عصر النهايات. الحضارة العربية الإسلامية انكفأت على نفسها، وراحت تدون خلاصاتها الكبرى من خلال مدونين وكتاب من نوع ابن منظور الذي وضع لسان العرب في تلك الحقبة كجامع لكل علوم اللغة العربية، وابن تيمية الذي أقفل الباب نهائيا أمام السجالات الفلسفية والفقهية، وابن خلدون الذي أوجز النسخة الأكثر تطورا من الرؤية العربية الى التاريخ والاجتماع. في موازاة الاستنتاجات والخلاصات الفكرية، على التباين الشديد في قيمتها ومضمونها، كان العالم العربي يمر في واحدة من أكثر مراحله اضطرابا وقلقا: تفتت المشرق العربي بعد انهيار الخلافة العباسية، فراغ سياسي كبير لم يظهر من يشغله سوى المماليك، انتصارات عسكرية مهمة ضد الصليبيين والمغول لم يكن لها أي انعكاسات إيجابية على صعيد إنعاش الحضارة العربية ـ الإسلامية التي دخلت في طور النزاع.
ظلت الأزمة الحضارية العربية تتفاقم الى حين ظهور الأتراك العثمانيين الذين نجحوا بعد قرون من الصراعات في حل المأزق الذي كان يواجه شعوب آسيا الوسطى من خلال الاندفاع في موجة من الهجرة والفتوحات الى الغرب، صوب الامبراطورية البيزنطية اولا وصوب الشرق العربي ثانيا. واذا كان التقييم السلبي يغلب في النظرة العربية الى ما قدمه الأتراك الى الحضارة (وهو تقييم شديد الاختزال والتعسف، بالمناسبة)، فإن الأتراك الذين حققوا إنجازات سياسية وعسكرية وثقافية باهرة (في الفنون المختلفة وصولا الى العمارة والأدب) سرعان ما وجدوا أنفسهم في مواجهة الخصم الذي تنبأ ابن خلدون بأنه آخذ في الخروج من سباته. لقد كانت المرحلة التي برز فيها الأتراك العثمانيون على مسرح التاريخ، متأخرة جدا بالنسبة الى قدرة الأتراك على الأخذ من العصر وتطويعه لمصلحتهم.
المهم في المسألة أن السجال بشأن المخارج من المأزق الحضاري العربي لا يني ينجذب صوب التراث العربي ـ الإسلامي مشجعاً على الأخذ به كمدخل لنهضة عربية جديدة. بطبيعة الحال، ثمة العديد من المدارس التي عملت على التراث وحاولت استخدامه استخداما أداتياً في المشاريع السياسية أو الفكرية المعاصرة. وهي مشاريع لم يحالفها التوفيق على الأغلب الأعم. ثمة مشروع «يساري إسلامي»، بحسب تعبير حسن حنفي، وثمة مشروع آخر كان رائده الراحل حسين مروة حاول اكتشاف نواح تقدمية في التراث وتبني فهم جديد له، تأسيسا على فهم مروة لمقولات الماركسية.
وثمة مشاريع نقدية للعقل العربي تستند الى التراث استنادا شبه كلي، مثل مشروع محمد عابد الجابري الذي ينتهي، للأسف، الى نظرية ترد الانحطاط العربي المديد الى تسلل الأفكار الإشراقية الى الفكر العربي من مصادر غنوصية غير عربية. بكلمات أخرى، يضع هذا المشروع اللوم كله على الآخر الذي أفسد الانطلاقة التاريخية العربية، وعلى العرب المشرقيين الذين لم يفهموا الإنجازات الضخمة التي حققها العرب المغاربة كابن رشد والشاطبي وابن خلدون الذين يعتبر الجابري أنهم هم فقط المؤهلون ليكونوا مقدمة النهضة العربية المرجوة.
في الجانب الآخر من الصورة، يقف المكون السياسي للواقع العربي. فعلى الرغم من أن الأفكار والثقافة تؤديان في مجتمع مثل مجتمعنا العربي دوراً غاية في الخطورة، إلا أنهما لا تتحملان وحدهما حقائق التخلف العربي الصلبة. فالاكتفاء باعتبار الأفكار قاطرة للتاريخ العربي يؤدي الى إلغاء أدوار البنى الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية وتأثيرات الغرب منذ خمسة قرون على الأقل، وهي كلها من العوامل شديدة الحضور في الواقع العربي اليوم، الى جانب الثقافة، بمعناها الواسع. العوامل هذه مجتمعة تساهم في رسم الصورة السياسية العربية الراهنة.
هذه الأسطر القليلة لا تكفي بحال لتقديم تفسير وافٍ لواقع الانحطاط العربي. ففي الوقت الذي تُعمّم فيه نزعة ظافرية، لا يمكن إلا النظر في عمق الهوة التي يتردى العرب فيها، في المجالات كلها. لكن هذا الفصام، يجب ألا يوضع خارج معطيات التشخيص الدقيق لأمراض الزمن العربي. الفصام هذا يعلن من دون لبس حجم التفارق (أو التغاير) بين الواقع والمتخيل، بين المعيش والوهم. والأرجح أنه سيزداد اتساعا الى أن يقضي الله أمراً…
السفير