كيــف يغــدو الإســم المستعــار إسمنــا الحقيقــي أو إسمنــا الأفضــل
زينب مرعي
يختفي الكثير من الكتّاب وراء خمار الأسماء المستعارة. الظاهرة قديمة قدم التاريخ، لكنها مستمرة حتى يومنا هذا، وإن اختلفت الأسباب. الكثير من الكتّاب وضعوا هذا القناع، حتى تحول الأمر إلى ظاهرة أو قاعدة يُحتذى بها، تبرر غياب كاتب ما عن قرّائه.
فغالباً ما ينشغل الوسط الثقافي بهذه الظاهرة، أو يتسلى بها على طاولات المقاهي، فتتحول إلى نميمة دسمة ترتشف مع القهوة. فهذا يتعقّب أثر صديق بين الأسطر، وذاك يحاول معرفته من أسلوبه، فكشف الخمار عن هذا الاسم أو ذاك يشكّل دائما متعة الجلسات.
«لعبة» المقاهي هذه تحوّلت إلى عمل جدّي من البحث والتقّصي لدى بعض الباحثين، أمثال الباحث اللبناني يوسف أسعد داغر، الذي ألّف كتاباً بعنوان «معجم الأسماء المستعارة وأصحابها». يقول داغر «إنّ الرمز من الأساليب التي عمد إليها الإنسان منذ أقدم العصور في التستّر والتخفي عند البوح بأفكاره، والتعبير عن خلجات النفس الدفينة، وإن ظاهرة التخفي وراء اسم مستعار عرفها الأدب العربي القديم منه والحديث، إذ أخذ البعض من كتابنا ومؤلفينا قديماً وحديثاً، يتخفّون، وبينهم الكبار الكبار ينشرون بنات أفكارهم، وراء أسماء قلم اتخذوها وعرفوا بها في دنيا الأدب».
كما أصدر السعودي عبد الرزاق القشعمي كتابه «الأسماء المستعارة للكتّاب السعوديين»، معتبراً أنّه يكرّم فيه أصحاب الأسماء المستعارة عبر الكشف عن هويّاتهم الحقيقية. بعد إصداره الطبعة الأولى من الكتاب، بقي القشعمي يطارد بعض الأسماء التي لم يستطع كشف النقاب عنها في بحثه الأول، فدعا من يمتلكون معلومات إلى مساعدته في الكشف عن هوية الشاعر «فتى عنيزة»، أحد الأسماء الذي بقي لغزاً، حتى بعد إعادة إصداره الطبعة الثانية من الكتاب، التي استطاع القشعمي فيها إضافة 50 اسماً إلى لائحته السابقة، فكانت النتيجة أنه رصد حوالى 450 اسماً مستعاراً على مدى أكثر من قرن في تاريخ الكتابة السعودية.
لا يكون بحثٌ عن الأسماء بدون بحث آخر موازٍ له، عن الأسباب التي تدفع كاتباً ما إلى الكتابة تحت اسم مستعار.
السبب الأقدم بدون شكّ، هو ذلك المرتبط بالهرب من رقابة السلطان، أو الرقابة الدينية والاجتماعية، أما السبب الأكثر رواجاً اليوم، فهو المادّي. إذ إن الصحف تمنع محرريها من الكتابة في صحف أخرى، فإن أراد الكاتب الصحافي ذلك ليضمن دخلا إضافياً، يلجأ إلى الكتابة باسم مستعار. هذا إضافة إلى عقدة الأعمال الأولى التي تلاحق الكثير من الكتّاب، فيرون بنشر أعمالهم الأدبية الأولى باسم مستعار ملاذاً لهم وطريقة للتنصّل من مسؤوليتها ومن مضمون نصّهم، وإن لاقى عملهم الأول الاستحسان عادوا ونشروا باسمهم الصريح.
استعارات الأدب الأجنبي
هناك العديد من الأسماء المستعارة في الأدب الغربي، التي التحمت بهوية أصحابها. «فولتير» مثلاً هو الاسم المستعار للكاتب الفرنسي فرنسوا ماري أرويه، وهو اختار هذا الاسم لينفض عنه أية علاقة تربطه بأبيه أو بعائلته، فكان اختياره لهذا الاسم بمثابة اختياره هوية جديدة له. كذلك فعل جيرار لابروني الذي تحوّل إلى جيرار دو نرفال، قاطعاً كل علاقة تربطه بأبيه، ومحاولاً نسب نفسه إلى عائلة أمه، فـ«نرفال» هو اسم أرض تملكها جدته لأمه. جان باتيست بوكلين أو «موليير» أراد أن ينأى بنفسه عن عائلته البرجوازية، وما يمكن أن يسببه لها من إحراج، بسبب المسرح التراجي ـ كوميدي الذي كان يكتبه والنظرة السلبية له في القرن السابع عشر.
مع بداية القرن العشرين، أصبح اختيار الاسم المستعار ومدلولاته أكثر تعقيداً. فالكاتب الفرنسي الروسي الأصل رومان كاسيف وقّع أول رواية له عام 1937 باسمه الحقيقي ثم تحوّل للنشر تحت أسماء مستعارة. عُرف كثيرا باسميه «رومان غاري» و«إميل أجار»، و«غاري» بالروسية تعني «الاشتعال» و«أجار» «الجمر». كما نشر باسمين آخرين هما «شاتان بوغا» و«فوسكو سينيبلدي». واختار كاسيف النشر تحت أسماء مستعارة لأن ذلك، بحسب الكاتب، يضفي لمسة غامضة والتباساً حول شخصيته. أماّ البرتغالي فرناندو بسّوا فكان يعتبر أنّ كل اسم من الأسماء المستعارة التي استخدمها يختزل جزءاً من شخصيته. فـ«ألبيرتو كاييرو» هي الشخصية التي تمثّل الطبيعة والحكمة الوثنية، «ريكاردو ريس» هو الذي يحب الحياة، «ألفارو دي كامبوس» يمثّل الحداثة والواقعية، أمّا «ريكاردو سواريس» فهي الشخصية الأقرب إلى شخصية بسّوا الحقيقية. وإن كان هؤلاء الكتّاب اختاروا التخّلي، طوعاً، عن أسمائهم وأن يذكرهم التاريخ بأسماء مستعارة، فإن الكاتبات من النساء، في القرون السابقة، اضطررن لوضع هذا القناع كي يكسبن حقّ الكتابة. فجورج صاند مثلاً، هو الاسم المستعار الذي اختارته الكاتبة الفرنسية أورور دوبين في القرن التاسع عشر، وهو اسم يذكّر باسم عشيقها «جورج صاندو». و«جورج إليوت» الإنكليزي هو في الحقيقة «ماري إيفانز»، والأخوات برونتي كنّ يكتبن باسم «الإخوة بل» وذلك لأنّ ظهور اسم المرأة لم يكن مقبولاً اجتماعياً في العصر الفيكتوري. أمّا اليوم، فطبعاً، لم تعد هناك قيود تمنع المرأة الغربية من الكتابة، والبوح بأفكارها أو بمشاعرها، إنّما أصبح هناك سبب آخر يجبر الكاتب (رجلاً كان أو امرأة) في بعض الأحيان، على اتخاذ اسم مستعار، ألا وهو الخوف من التيارات الإسلامية المتطرّفة. فالباحث الفرنسي مثلاً الذي يكتب تحت اسم «كريستيان لويكسمبرغ»، عمل على دراسات تاريخية ـ نقدية للقرآن الكريم، إلاّ أنّه لا يجرؤ على نشر أبحاثه المتعلّقة بالموضوع باسمه الصريح.
استعارات عربية
في تاريخ الأدب العربي الكثير من الأسماء المستعارة. فمنهم من اختار اسمه بنفسه، ومنهم من اختاره له الناس، حتى طغت بعض الألقاب على الاسم الحقيقي للكاتب أو الشاعر. من الشعراء الذين غلب اللقب عليهم، همام بن غالب أو «الفرزدق»، الشاعر مسلم بن الوليد الذي لقّب بـ«صريع الغواني»، والشاعر عبد السلام بن رغبان الحمصي الذي لقّب بـ«ديك الجنّ»، وتشارك معه بعدها بالاسم الشاعر المصري محمود صفوت الساعاتي والشاعر اللبناني سمعان نصر، أمّا الأديب المصري أحمد زكي فتسمّى بـ«ديك العلم». هناك أيضاً من اكتسب اللقب بسبب شكله مثل «الشاعر الشنفرى»، و«المسدود» وهو لقب شاعر اسمه الحسن، لقب بذلك لأن أحد منخريه كان مسدوداً، أو بسبب حادث كما جرى مع الشاعر ثابت بن جابر الذي لقّب بـ«تأبّط شراً»، و«المشعّر» هو الشاعر الجاهلي يزيد بن سنان المري، وأعطي هذا اللقب لأنه كان إذا حضر حرباً اقشعرّ. كما أنّ هناك أسباباً كثيرة جعلت من الكتّاب العرب، خصوصاً الصحافيين منهم، يلجأون إلى طمس أسمائهم الحقيقية والتّخفي وراء اسم مستعار. السبب الأقدم كان التحرر من القيود السياسية، الدينية والاجتماعية. فمثلاً في التاريخ العربي هناك الكثير من «الأشعار الماجنة» التي كتبها بعض الشعراء، ونسبوها إلى «أبو نواس» الذي اشتهر بصفة المجون، كمهرب من بطش الخليفة. أمّا اليوم، فالعديد من الكتّاب العرب يقولون إنّنا أصبحنا في «زمن الديموقراطية» وظاهرة خوف الكاتب من الإدلاء برأيه أصبحت تتضاءل. إلاّ أنّ هذا الكلام لا ينطبق بالتأكيد على بلد كالعراق. فهناك مثلاً ظاهرة الأسماء المستعارة منتشرة بكثرة، خوفاً من التصفية على يد إرهابيين، في ظلّ اضطراب الوضع الأمني الذي يشهده البلد. ويقول الشاعر العراقي حسن عبد راضي إنّ «لهذه الظاهرة (الأسماء المستعارة) أسباباً شبيهة بأسباب وجودها في زمن الاستبداد ومصادرة الحرّيات (أي زمن صدام حسين)، ذلك أنّ ثمّة قمعاً فكرياً وأيديولوجياً كان يمارس ضد أي نشاط ثقافي أو فكري لا يمجّد النظام أو على الأقل لا يسكت على فظاعته». وبعيداً عن العراق، والخوف من الاغتيالات، كان خوف الأديب المصري محمد حسين هيكل من نوع آخر، فوقّع إحدى رواياته الشهيرة «زينب»، باسم «الفلاح المصري» خوفاً من عدم تقبّل الناس لها، وعندما لاقت روايته أصداءً إيجابية عاد وأصدر الطبعة الثانية منها باسمه.
سياسيون وأمراء عرب كتبوا بأسماء مستعارة أيضاً. فكتب محمد بشير أحمد، الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية السودانية، مقالاً يعترف فيه بأنه هو الذي كان يختبئ وراء اسم عبد العزيز حسين الصاوي، طوال ربع قرن من الكتابة حول القضايا الفكرية والسياسية. والشيخ تاج الدين الحسيني، الذي عينه الانتداب رئيساً لسوريا، كان يوقّع مقالاته بـ«أبو الضياء» أثناء عمله في تحرير مجلّة «الحقائق» الدمشقية وجريدة «الشرق». أمّا السياسي خالد بكداش، فكان يوقّع مقالاته التي كان ينشرها في مجلّة «الطريق» اللبنانية باسم «باحث عربي». وكتب الشعراء السعوديون من أمراء الأسرة المالكة بأسماء مستعارة أيضاً، فالأمير عبد الله الفيصل هو «المحروم» والأمير خالد الفيصل هو «دائم السيف»، والأمير سعود بن سعود «منادي»، و«غادة الصحراء» هي الأميرة مشاعل بنت عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، كتبت باسمها المستعار هذا أشعاراً في الغزل، وبقي بعض المثقّفين وقتاً طويلاً يتساءلون عن هويتها الحقيقية، وقال عنها بكري شيخ أمين في الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية «غادة الصحراء، اسم رمزي لفتاة يبدو أنها من الأسر الرفيعة». كذلك الأميرة فاطمة أخت ملك المغرب السابق الحسن الثاني، كتبت مجموعة من المقالات تحت إسم «باحثة الحاضرة».
أمّا في الأدب فلعلّ «أدونيس»، وهو الاسم المستعار للشاعر علي أحمد سعيد، هو من أشهر الأسماء المستعارة اليوم. لجأ، متأثراً بتاريخه القومي السوري، إلى الرموز القديمة، لاختيار اسم له، فـ«أدونيس» هو إله النهر والقطعان والسهول عند الإغريق. واختار فؤاد سليمان لنفسه الرمز ذاته، لكن بلفظته السومرية «تموز». أمّا محمد الماغوط فكان يوقّع في بداياته باسم «سومر». والشاعر بشارة الخوري أراد التمثّل بمجد كبار الشعراء والأدباء القدامى عندما لقّب نفسه بـ«الأخطل الصغير» نسبةً إلى الشاعر الأموي «الأخطل». و«البدوي الملثّم» هو الكاتب الأردني يعقوب العودات والكاتب السوري «عدنان ذريل» هو عدنان الذهبي، و«زهير زهير» هو الشيخ فؤاد حبيش. كما كتب غسان كنفاني مقالات باسم «فارس فارس»، والكاتب الأب أنستاس الكرملي، واسمه الأصلي بطرس بن جبرائيل يوسف عوّاد، نشر العديد من البحوث والمقالات في عدد كبير من المجلات والدوريّات في مصر والشام والعراق مستخدماً عددا من الأسماء المستعارة مثل: «ساتسنا»، «أمكح»، «كلدة»، «باحث» وغيرها. الأديب شكيب ارسلان كتب في بعض الأحيان تحت اسم «أمير البيان». كما كتب باسم «الأصمعي» كلّ من القاضي جمال الدين، والكاتب بطرس البستاني والصحافي اللبناني عارف غريب وحمد الجاسر وحمود البدر. ولقّب الصحافي المصري يعقوب صنوع بـ«موليير مصر».
والغريب أنّ هناك بعض الأدباء الذين تخفّوا وراء أسماء نسائية، كالكاتب السعودي أحمد السباعي، الذي كتب في بعض الأحيان باسم «فتاة الحجاز» في جريدة «صوت الحجاز»، والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي وقّع باسم «ليلى»، والقاص ابراهيم البيروتي وقّع رواياته باسم «ميّ الصغيرة»، والكاتب اللبناني رئيف الخوري كتب عدّة مرّات تحت اسم «أم عبّاس». كما كتب إحسان عبد القدّوس مئات المقالات الموجهة للمرأة تحت توقيع «زوجة أحمد» ولما ذاع سرّ الاسم أصدرها في كتاب بنفس التسمية.
وللنساء العربيات حكاية أخرى، فهنّ كزميلاتهنّ الغربيّات لم يكن بمقدورهنّ الكتابة باسمهنّ الصريح في البداية. فكتبت ميّ زيادة بعدد من الأسماء المستعارة نذكر منها «عائدة» و«إيزيس كوبيا»، وكانت أول امرأة تكتب في جريدة «الأهرام»، أمّا الثانية فكانت «بنت الشاطئ» وهي الكاتبة المصرية عائشة عبد الرحمن، التي لم تعتد أسرتها المحافظة انخراط النساء في الثقافة، واختارت هذا الاسم في إشارة إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل. أمّا الحقوقية والأديبة مقبولة الشلق فكانت أول امرأة سورية حازت الإجازة في الحقوق وكانت تنشر قصصها ومقالاتها تحت اسم «فتاة قاسيون». لكن حتى اليوم ما زال العديد من النساء الخليجيات يمتنعن عن النشر بأسمائهنّ الصريحة، وذلك بسبب ممانعة الأهل والنظرة الاجتماعية السائدة التي بموجبها لا يسمح للفتاة التصريح باسمها، بدافع الخوف من كلام الأقرباء، خصوصاً الأزواج. وبرغم النداءات التي تطلق لتشجيع المرأة الخليجية والسعودية بشكل خاص على الكتابة باسمها الحقيقي، إلاّ أنّ عددا كبيراً منهنّ ما زلن يتخفّين وراء الأسماء المستعارة، فتقول مثلاً «أمل الحياة» إنّ «العائلة تعتبر ظهور اسم الأنثى عيباً، فلا يصحّ أن يتصدّر الصحف أو أن تذيّل به بعض المقالات».
استعارات لبنانية
وللإطلالة على الأسماء اللبنانية المستعارة ومعرفة ظروفها، تحدّثنا، في تحقيقنا هذا، مع أربعة من الكتّاب اللبنانيين، الذين كانت لهم تجربة بارزة في استعارة الأسماء، هم: الياس الدّيري، حسن زبيب، يحيى خبيز ومحمد الحجيري، لمعرفة لماذا اختاروا الكتابة تحت أسماء مستعارة، وكيف يختارون أسماءهم؟ وهل يفصلون بين شخصية الكاتب التي تحمل اسماً وبين الشخصية الحقيقية، التي تمتلك اسماً آخر. ثم سؤالهم إن كان لديهم أي شعور بالندم لأنهم كتبوا بأسماء مستعارة فشهروها، وساهموا ربما في قتل أسمائهم الحقيقية؟
يقول الياس الدّيري إنّه كتب للمرة الأولى باسمه المستعار «زيّان» في مجلّة كان يصدرها ويرأس تحريرها في الوقت نفسه. كان يكتب أكثر من مقال فيها، وكي لا يتردد اسمه كثيراً، بدأ يوقّع زاوية من المجلّة باسم «زيّان». أمّا اليوم، فيشرح أنّ السبب الذي دفعه إلى كتابة زاوية «نهاريّات» في جريدة «النهار» بهذا الاسم، هو التاريخ الذي مرّ على هذه الزاوية. فهي كانت تكتب دوماً ومن قبل أن يستلم كتابتها هو بأسماء مستعارة، فكان الأمر بالنسبة إليه بمثابة التقليد، الذي قرّر المحافظة عليه.
من جهته، يقول الروائي حسن داوود إنّه تخلّى في البداية عن اسمه حسن زبيب لسبب إجرائي، فلقد كان ممنوعاً عليه أن يكتب باسمه الشخصي. كما أنه لم يكن يستحسن اسم عائلته لكثرة ما سبق له أن استعمله، إضافة إلى أنّه لم يكن يحبّه لأنه عندما كان لا يزال في المدرسة كان الأطفال يعايرونه به ويقولون له «زبيب، طعمينا زبيب» ويضيف «تحوّل بعدها هذا الإسم إلى مصدر عدم استحسان متواصل من جانبي».
يحيى خبيز، الذي يُعرف باسم بلال خبيز، يقول إنّه اضطر إلى الكتابة تحت اسم «بلال» لأسباب أمنية وسياسية. وبعدما تغيّرت الأحوال لم يعد للكتابة باسمه، لأنه أصبح لديه كمّية لا بأس بها من الكتابات التي لم يستطع التخلي عنها باسمه المستعار. ويقول إنه في الفترة التي بدأ الكتابة فيها، كان العديد من الكتّاب يستخدمون الأسماء المستعارة. أمّا محمد الحجيري فاستعمل الكثير منها لأنه احتاج اليها لأكثر من سبب. ففي البداية استعملها لأسباب تقنية، وعندما كان يكتب مقالين في الصحيفة نفسها مثلاً، كان يفضّل توقيع أحدهما باسم مستعار. ثم إنّ الصحيفة التي كان يعمل فيها، لم تكن تسمح له حكماً بأن يكتب في جريدة أخرى منافسة، فلجأ مجددا إلى استعمال اسم مستعار. هذا بالإضافة إلى سبب شخصي، وهو أنّ عمله يقتضي أن يكتب مقالات فنّية، يقول الحجيري إنها لا تليق باسمه نظراً إلى ارتباطه عموماً بمواضيع ثقافية. فكتب مقالاته الفنية باسم «روبي الأسمر».
أمّا في ما يخصّ كيف اختار هؤلاء الكتّاب أسماءهم، فيتكلّم الياس الدّيري عن نفسه ويقول إنّه كان صغيراً عندما دخل معمعة الكتابة، و«زيّان» كان بطل أحد كتبه «تبقى وحيداً وتندم»، فقرر اتخاذ هذا الاسم كاسم مستعار له. حسن داوود يقول إنه اختار أن لا يغيّر اسمه كاملاً فأبقى على«حسن»، ولكنه استعار اسم جدّه «داوود» بديلاً من اسم عائلته، ويقول:«هكذا، أنا لم أغيّر كل شيء بل احتفظت بجزء شخصي، وغيّرت ذلك الذي لم يكن يعجبني». هذا الاسم الذي تغلّب على اسم حسن داوود الحقيقي، يقول الكاتب إنّه اختاره في خمس دقائق بدون التفكير مطوّلاً بأمره، لأنه لم يكن يعرف أنه سيلازمه طوال عمره بل اعتقد حينها أنه سيوقّع به مقالاً واحداً فقط. يحيى خبيز يقول إنه لم يكن هناك سبب واضح لاختياره اسم بلال، ويضيف «أن يختار الواحد اسمه بنفسه أمر صعب»، فهو أراد اسماً لا مكان له في عالم الطوائف ويرضي جميع الناس، ووقت اختار اسماً مستعاراً له، اسم بلال لم يكن شائعاً. محمد الحجيري الذي يبدو وضعه مختلفاً قليلاً، بما أنّه لم يختر اسماً واحداً فقط بل عدّة أسماء، فهو كتب باسم «روبي الأسمر»، «فرح جبر»، «يوسف حاتم» وغيرها، يقول «اخترعت شخصيات عدّة لي في الكتابة، وفي كلّ مرّة أختار الاسم المناسب للكتابة المناسبة»، كما أنّ انتقاء الاسم يخضع لمزاجيته في بعض الأحيان، «يمكن أن أستوحي الاسم من شخص أعرفه، كما أفضّل أن لا يدلّ الاسم على طائفة وأن يكون فيه إيقاع». ويضيف أنه في الفترة الأخيرة لجأ إلى إعدام الكثير من الشخصيات المستعارة، فبعض الأسماء لم يعد لديها ما تفعله.
هل يفصل هؤلاء الكتّاب بين شخصيتهم ككتّاب وبين شخصيتهم في الحياة اليومية؟
بالنسبة إلى الياس الديري، شخصية زيّان تمثّله، لكنه لا يستطيع أن يوقّع اليوم الزاوية باسمه، فالأمر يكون «نافراً»، إذ إن الزاوية لم تعد تعرف بـ«نهاريّات» بل أصبحت زاوية «زيّان». حسن زبيب أيضاً هو حسن داوود الكاتب، يقول «حتى أولادي ينادونني باسم حسن داوود، أشعر بأنني أبتعد عن «حسن زبيب»، ليس بمعنى أنني أهجر ماضياً بل أنا أبتعد عنه كاسم». من ناحية أخرى، يقول بلال خبيز إنّ كل من يعرفونه ينادونه باسم بلال، لكن هناك فرقا كبيرا بين بلال ويحيى. فهما اسمان وشخصيتان مختلفتان. بلال لديه شخصية الكاتب «الوعرة»، يمكنه أن يقلّل من احترام الآخرين في الكتابة، قاسٍ على الورق، «اسم الكاتب يجعلني أصرّح بثقة، وأنا أتقاعد باسم يحيى». فيحيى هو خجول أكثر، يحب البقاء في المنزل مع العائلة، وليست عنده الظروف التي ترافق حياة الكاتب، وهو حتى يشعر أنه أقلّ من أن يكون كاتباً. أمّا محمد الحجيري فيقول إنّ اعتماده أسماء عدّة منع أن يستحوذ عليه اسم واحد. وأصبح لكل نوع من المقالات شخصية، يحدّد ملامحها الناس في بعض الأحيان أكثر منه، فمثلاً كثيرون يعتقدون أنّ «يوسف حاتم» هو رجل مسنّ، ذو لحية بيضاء صغيرة. وهذه الشخصيات إنتاجها في الكتابة غزير بينما «محمد الحجيري» يعتبر نفسه في طور التأسيس للكتابة.
يبقى في النهاية أن نعرف ما إذا كان الكاتب يشعر بالندم في مرحلة معيّنة على استعماله اسماً مستعاراً.
لا يشعر الياس الديري بالندم لتذييل مقالاته السياسية باسم مستعار، فهو كما يقول روائي في الأساس والكتابة السياسية لا تعني له شيئاً. «أعتبرها تواطؤاً مني ضدّ نفسي وهدفي وموقعي»، وبعد أن قرر من قبل التوقف عن هذا النوع من الكتابة، حسبما يقول، جعله غسان التويني يرضخ ويعود إليه من جديد. ويحب الياس الديري أن يفصل كتاباته الروائية عن تلك السياسية، بل يفضّل التوقيع باسمه الحقيقي على الأولى فقط. ليس لدى حسن داوود ندم فعلي على استخدامه اسماً مستعاراً، إنما بات الآن يجد أنّ لفظة «زبيب» أفضل من «داوود» التي توحي له بالعتمة من خلال «هاتين الواوين اللتين اكتفى العرب بواحدة منهما، ربما من أجل تخفيف هذه العتمة». ويضيف اننا بعمر معيّن لا تكون علاقتنا بالألفاظ والأصوات دقيقة، فتعجبنا بعض الكلمات في عمر معيّن، ومن ثم تتغيّر آراؤنا. بلال خبيز أيضاً لا يشعر بالندم لتغييره اسمه، فما كتبه عبارة عن «إرث شخصي» يعطيه لأولاده. ويقول «لم أفترض يوماً أن عليّ الإفصاح عن هويتي، ليس المهم أن يعرف الناس من هو الذي يقف خلف المقالة، فعلاقة الكاتب بالقارئ علاقة سرّية. ولكننا ضعفاء لدرجة أننا نحب أن نتعرّف إلى قرائنا، كي يمتدحونا على مقال كتبناه». لمحمد الحجيري شعور ملتبس يتراوح بين الندم والراحة، لكن يبدو أنّ الأول هو الأقوى، ربما لأنّ هويته لم ترتبط باسم واحد كبقيّة الكتّاب في هذا التحقيق. يقول إنه ندم لأنّ أفضل مقالاته كتبها بأسماء مستعارة بينما تلك التي يكتبها باسمه الحقيقي هي «روتينية»، ويضيف «أشعر بأنني رجل الظلّ، وأنني أهدر طاقتي على شيء في غير مكانه»، ولكن في بعض الأحيان يجد أنّ المكوث في الظلّ مريح، و«أجد فيه نوعاً من الفردية التي لا أجدها في اسمي الذي يرتبط بهوية وطائفة، وضيعة».
أمّا اللبنانيون الذين كتبوا بأسماء مستعارة فهم كثر أيضاً، نذكر منهم: أنسي الحاج الذي كتب باسم «سراب العارف» و«عابر»، توفيق يوسف عوّاد كتب باسم «حمّاد»، فؤاد حدّاد باسم «أبو الحنّ»، أسد الأشقر باسم «سبع بولس حميدان» وحسن حمدان كتب باسم «مهدي عامل» و«هلال بن زيتون»، وحسين مروة باسم «أبو حسّان» وكامل مروّة باسم «عين»، والياس الديري باسم «زيّان». والاسم الحقيقي لحسن داوود هو حسن زبيب، وكتب الياس خوري باسم خليل أيوب ومروان العاصي، ويحيى خبيز يكتب باسم بلال خبيز، كذلك وضاح شرارة كتب باسم زاهي شرفان، وعباس بيضون باسم فادي محمد، وأحمد بزّون باسم أحمد غسان، وموسى وهبة باسم مروان أمين، ومحمد الحجيري باسم يوسف حاتم، وجورج حنا باسم الحارث بن يحيى. كما وقّع ربيع جابر رواية وحيدة، «الفراشة الزرقاء» باسم مستعار هو «نور خاطر»، كما توقّع الكاتبة حكمت صباغ الخطيب باسم يمنى العيد.