ديوانه الأخير صدر بعد رحيله … سركون بولص شاعر المنفى الوجودي
ديمة الشكر
–> ما السّرُ في جمال قصائد سركون بولص؟ ولِمَ ينظرُ إليه الشعراء اليوم كأيقونة شعرية؟ فكتابات الشعراء المعاصرين عن قصائده فاقت كتابات النقّاد عنه كمّاً، بعد رحيله آخر العام الماضي، وقبل صدور ديوانه الأخير «عظمة أخرى لكلب القبيلة» بأيام قليلة (دار الجمل، 2008).
كأنّ موت الشاعر منحَ أصدقاءه الشعراء فرصة لقراءة قصائده من وجهة نظر «أهل المهنة» أنفسهم إن جاز التعبير. وتفصحُ قراءة الشعراء لقصائد سركون عن تصوّرهم الخاصّ لجماليات الشعر الحَديث كما تفصح عن سر الافتنان بصنيعه، فتدلّ من طريقٍ خفيٍ على بعضِ أسرار «المهنة» التي أتقنها سركون بولص، وتترك للنقد أن يلتمس طريقه، ولو متأخراً، للبحث، من وجهة نظره، عن سر الجمال.
لعلّ أوّل ما يسترعي الانتباه في قصائد سركون بولص، هو عنايته المفرطة ببناء القصيدة، إلى حدّ طغى فيه هذا العنصر على عناصر أخرى، يأخذ فيها الخيار بين الوزن أو اللاوزن حصّةً كبيرة. من هذا المنظور تسمح قصائد سركون من ديوانه الأخير، الذي يضمّ قصائد موزونة وغير موزونة، بفكّ الارتباط «التاريخي» الوثيق إن صحّ القول، بين الشكل والوزن من جهة، وكذلك فكّ الارتباط المقترح من جانب بعض الحداثيين بين اللاشكل واللاوزن من جهة ثانية. وقد تمّ له ذلك من خلال إعطاء بناء القصيدة المستند بصورة كبيرة إلى المعنى قبل أي شيء آخر منْزلةً رفيعة. فالقصيدة المحكمة البناء، التي تنتظم وفقاً للمعنى هي أحد أهمّ الاقتراحات التي أتى بها سركون بولص، واستطاع عبرها كتابة قصيدة خاصّة بعيدة من تأثيرٍ واضحٍ للشعراء العراقيين ذوي القامة الرفيعة، ومن تأثير الحداثيين سواءً أكانوا من مشرقِ الشّعر أم من مغربه ثانياً. ويأخذ هذا الاقتراح أهميّة خاصّة من وجهة نظر النقد بسبب تصويبه الدقيق نحو إحدى المسلّمات الراسخة التي تخلط بين شكل القصيدة وبنائها، فتعدّهما شيئاً واحداً.
وتبدو قصائد سركون بولص التي تعدل عن الوزن تارةً ثم تجنحُ إليه تارةً أخرى، وكأنّها تجسرُ الهوة «المفتعلة» بين تياري الشّعر الحديث: تيار التفعيلة وتيار قصيدة النثر (وكان الشاعر يشيرُ باستمرار إلى خطأ هذه التسمية، ويصححّها فيقول الشّعر الحر)، لا لشيء إلا لأنّها تركّزُ على عنصر واحد، وتغفل أهمّ العناصر الشعريّة، أي المعنى وطرق تأديته.
يتضح الشغف بالمعنى وطرق إيصاله، وتوسيع حدوده ومدّه بطاقات لا نهائية بصورة جلية ناصعة في قصائد سركون: «أكتبُ كلمةً واحدةً في دفتري، وأغلقهُ. حركةٌ تكفي لكي تتغيّر الدّنيا». فالمعنى لا يجري على عواهنه بل ينتظم بطريقة خاصّة، ليعطي خواتيم قصائد سركون ومطالعها بصمة مميّزة. فإنّ مطالع قصائده المتفردة تنبّه القارئ فوراً إلى أنّه في حضرة شعرٍ لا يسلس القياد بسهولة على رغم انسيابيتها: «زرقاء قشرة الأرض، مرئيّةً من الفضاء. – لا نأمةٌ. هل مات من كانوا هناك؟ – في حلمه صرخة الحصان على أسوار غيرنيكا – في هذا الوقت ينزاح النور عن سور الحديقة». وتستمدّ هذه المطالع قوّتها من إقامتها على سياجٍ خفيٍ بين المعنى القاموسي للكلمات والمعنى الشّعري الناجم عن انزياحٍ متمّهل يشتدّ كلّما امتدّ الكلام، فلا تنتهي القصيدة إلا بعد ربط محكمٍ للمطلع بالخاتمة، وبينهما ينشئ سركون بناء قصيدته الآسر والمنتظم وفقاً لنظام مبتكر يزاوج الاتصال بالانفصال. ومن أجل لفت انتباه القارئ إليه، يعتني سركون عنايةً فائقة بالانتقال من سطر إلى آخر، ومن مقطع إلى آخر، فليس الفراغ بين مقطعين أمراً نافلاً. ويهتمّ اهتماماً كبيراً بدور التوزيع الطباعي في قراءة القصيدة، أي دور القراءة الأساسي في القبض على الإيقاع، سواءٌ أكانَ ظاهراً كما في القصائد الموزونة، أم مخفيّاً كما في قصائد الشّعر الحّر. يظهر هذا البناء المتصل / المنفصل، في غالبية قصائد الديوان وبقطع النظر عمّا إذا كانت طويلةً أو قصيرةً. ففي قصيدة «المظروف»، توحي المقاطع المنفصلة طباعيّاً وكأنّها منفصلة بالمعنى كذلك.
الالتزام والمتخيّل
تشفُ قصائد سركون بولص من خلال بنائها المتصل المنفصل عن العراق من دون أن تظهر كقصائد «ملتزمة». فلا ريب في أن الشعر الملتزم الذي طبع بدايات الشّعر الحديث لا يروق اليوم بالنسبة إلى الكثيرين، إذ يبدو مباشراً متكلّفاً، بخاصّة أنّ الانكسارات المتواليّة لا تفسح أي حيّزٍ لتصديق حتّى المتخيّل في الشّعر، ومعَ ذلك لا يسعنا إلا الإعجاب بالمتخيّل حين تكون طرق أداء معناه جميلةً صحيحةً من غير سوء. لكنّ سركون اتبع استراتيجيّة مختلفةً في أداء معنى الالتزام، فقد اختار من بين صور العِراقي صورة الضحيّة وأجاد رسمها إلى حدّ بعيد: «يحتمل أن أكون أنا السائر، وذكرياتي على ظهري مثل خِرجٍ أو بردعة / ومن حولي تاريخُ أهلي يلملمُ، تحت جنح الظلام، على / عجلٍ كراية مهزومة». وفي الوقتِ نفسه أعطى صورة المقاوم بعداً إنسانياً: «وحتّى لو بنينا سورنا الصيني / سيقالُ: «جاؤوا./ إنّهم منّا وفينا. جاء آخرنا. / ليضحكنا ويبكينا. ويبني حولنا سوراً من الأرزاء./ لكن، سوف نبقى». لا يحملُ المقاوم في قصائد سركون بندقيّة بل ريشةً ليرسم بها الأهوار: «كلّما ردموا هوراً، كلّما أحرقوا خريطةً / وأزالوا عالماً من الوجود، بدأ يرسم محموماً / لوحةً جديدةً تستلهم الأهوار».
يتيحُ التلازم بين صورتي المقاوم والضحيّة، إعطاء العراق صورةً مختلفةً عن صورته في قصائد السيّاب أو سعدي يوسف على سبيل المثل، فهو ليس عراق الرموز الأسطورية تغازل تموز وأخوته وتمدح انبعاثه عبر «أنشودة للمطر» فحسب، وهو ليس عراق «تحت جدارية فائق حسن» يطلُ على ساحة الطيران في بغداد فحسب، بل هو أيضاً عراق سركون، لكأنّ العراق قد توسع على يديّه من خلال قصائده التي تحملُ في طياتها العراق الآشوري من دون أن تقعَ في فخِ التماثل مع القصائد التي استلهمت الأساطير القديمة. وعند هذه النقطة يمكننا أن نقدرَ جهد سركون في كتابة نصّ أسطوري عن مكان ممتلئ بأساطير الخصب، وبالضبط من دون الاتكاء على الرمز الأسطوري. ويقوم بشحن الألفاظ الخاصّة بتاريخ العِراق القديم (جلجامش، الطوفان) بدلالات أوسع من الأساطير، وأكثر وقعاً وأدق إصابةً حين يجاورها بما يدلّ على العِراق اليوم.
ولعلّ هذا التفرد في تناول الالتزام والأسطورة ومزجهما بطريقةٍ آسرة، وهما موضوعان شغلا حيّزاً كبيراً في الشّعر العربي الحديث، هو ما جعل قصائد سركون تبدو «مقتلعة أو بلا أسلاف في المعنى الشّعري»، كما كتب أحد أصدقائه الشّعراء (عبده وازن)، لكن سركون لم يكن منبتاً بل كان مختلفاً، وليس هذا بالأمر السهل، فاختلافه عن السيّاب وسعدي يوسف كان ضرورياً لإكمال المشهد، من أجل أن يستوي المثلث بأضلاعه الثلاثة.
ويظهر اختلاف سركون أيضاً في تناص بعض قصائده مع قصائد بعض أسلافه الشعريين كما في قصيدته الجميلة «نصف بيت» حيث يلاعب شطراً شعرياً لأبي تمّام متخِذاً منه تارةً المطلع: «نصف بيت / لأبي تمام: ألا ترى/الأرض غضبى، والحصى قلقٌ». وتارة أخرى الختام : «لا أهل لي وليس لي بلدٌ/ والأرض غضبى / والحصى قلقُ»، وبينهما يحدثنا سركون عن نفسه القلقة من وطأة الانفصال الذي طاول المكان كما طاول الروح، وكأنّه يعيشُ منفىً وجودياً، فصوت الأنا في قصائده، يرسم صورته من سفرٍ قسريٍ إلى رحيلٍ اختياريٍ، بين الأماكن والكلمات، ومن ورائها تدمن المعاني الارتحال والانزياح، لتبطن القصيدة التي تقتبس صوت المتنبي الرثاء بدلاً من الفخر في قصيدة «أنا الذي» حيث يخبّرنا عن العِراق: «جيوش الهمّ تسحبني / بسلسلةٍ / ويستلم الزمان أعنّة الحوذي / تسبقنا الظلال. وراءنا: كل الذين، وكل من»، وفيها يرثي سركون نفسه هو والعراق: «بينهما صيحة الجنين على سنّ الرمح/ في يد أوّلٍ جندي أعماه السكر / يخسف باب البيت./ بينهما مستفعلن، أو ربما متفاعلن؟/ لا / ليس بينهما سواي:/ أنا الذي».
لا يوفر سركون تقنيةً أو استراتيجيةً لتشييد بناء قصائده، فيلجأ إلى التكرار جملاً ومفردات، وإلى تناغم الحروف، وإلى التقديم والتأخير، وإلى التخفف من التركيب التقليدي للجمل، عبر تنظيمٍ صارمٍ للضمائر المنفصلة ولأدوات الربط فيها، كما يلجأ إلى فصل المقاطع بدقّة طبيب جراح، وإلى كلّ ما من شأنه أن يسوس المعنى ويوّسع آفاق القول، فقد كتب قصائد موزونة وأخرى غير موزونة، ونجح في تغريب اللغة عن رجعها الكلاسيكي الفخم. ولئن بدا عفوياً حسيّاً، إلا أنّه أخفى ببراعة تحت طيات قصائده هندسةً شديدة التعقيد، تتداخلُ فيها العناصر الشّعرية كشبكة نسيجية تبدو غير منتظمة للوهلة الأولى، فتخدع قارئها الذي يظنها تنبعُ من تلقاء ذاتها. ولا شيء لا شيء يجري على عواهنه في قصائد الآشوري الذي لجأ إلى التوازي بين مطلع القصيدة الأولى: «كرسي جدي ما زال يهتز على أسوار أوروك»، وخاتمة القصيدة الأخيرة «يهتز كرسي جدي المواجه للنافذة / يهتز على أسوار أوروك / يهتز حتّى وهو فارغ لا يجلس فيه أحد». أمّا بينهما فقد كتب نفسه والعراق من دون أن يسأل عن سلفٍ شعري.
الحياة – 05/04/08