عن مفهوم «الجماهير» والتعويل عليه وعليها في تجاربنا
صالح بشير
قد لا يكون التعويل على الجموع، أو «الجماهير» (على ما يقول ذلك المصطلح الغريب الذي يحمل معنى الإطناب النافل طالما أنه يجمع ما هو جمعٌ أصلا) بالفضيلة التي تُنسب له عادة في القول السياسي السيّار في ربوع هذه المنطقة، لا سيما المشرقي منها. والحال أن مركزيته المدّعاة تلك قد تتطلب تمعنا وقد تستوجب، على الأرجح، مراجعة.
فذلك المصطلح يُحكِّم في شؤون المنطقة، في تطوراتها وفي مواجهاتها الفاصلة أو التي يُطلق عليها بسخاء مثل ذلك النعت، «مفهوما» قد تكون جدواه الفعلية وسيلةَ تعليل لمجريات الأمور أو تموقع في خضمّ شؤون المنطقة وصراعاتها الكبرى، متواضعة أو في حكم المنعدمة. وفي ذلك ما قد يستوي تفاوتا صارخا بين ذلك «المفهوم» وحضوره الطاغي على صعيد «الخطاب» وبين واقع الحال الذي يلوح مسفّها له أو لا مباليا به.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن لا وجود لتلك «الجماهير»، بل هي على العكس من ذلك، تتبدى، جارفة جياشة أحيانا، في هذه المناسبة أو تلك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بشأن «قومي»، عابر للأوطان، جليل أو ذي شأن، كالحرب «الكونية» التي خاضها جورج بوش الأب، في مطلع تسعينات القرن الماضي، ضد عراق صدام حسين، أو كجرائم العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والعرب، كما حصل في قطاع غزة مؤخرا واستثار سخطا وتعاطفا بالغين. غير أن ما يراد قوله إن «الجماهير» تلك ليست قائمة ككائن سياسي أو كقوة سياسية فاعلة.
يحول دون امتلاكها مثل تلك الفاعلية التغييرية المرتجاة منها الافتقار إلى عامليْن أو إلى واسطتيْن أو إلى وسيلتيْن: تأسيسية «ثورية»، أو مؤسساتية إصلاحية. إذ لا يكون لتلك «الجماهير» من فعل ملموس إلا في إحدى تلك الحالتين، في أثناء حقبة توصف بـ»الثورية» تستحوذ فيها تلك «الجماهير» على المبادرة، «التاريخية» إن جازت مثل هذه العبارة التي استبدت بها الخطابة حتى شوهتها وابتذلتها، وتقبض على زمامها كما حصل على سبيل المثال لا الحصر، في الثورة الفرنسية وفي ما أعقبها من تحركات من قبيلها شملت في زمانها القارة الأوروبية أو أرجاء منها واسعة، أو أن وسيلة «الجماهير» في الفعل في الشأن العام وفي توجيهه والتأثير على الخيارات الكبرى تتحقق بواسطة الاقتراع الحر، الملزم نتائجَ، أي عندما يستوعبها وينظم اندفاعها سياق ديموقراطي مستتبّ.
وبديهي أن المنطقة وشعوبها ليست في هذا الوارد ولا في ذاك، لا تندرج في حالة ثورية، «الجماهير» فيها أداة لتغيير جذري أو معوَل له، ولا هي، من باب أولى وأحرى، تستند أنظمةَ حكم إلى جموع من «مواطنين» في أنسقة ديموقراطية، قد تلتقي على رفض أو على مصادقة، وقد تكتسب بصفتها تلك قدرة على فرض توجهات وعلى اجتراح قرارات، لا سيما تلك المتعلقة بالحرب والسلام.
ليســـت «الجماهير»، وقد انتفـــت عنها الصفتان المذكورتان، واستحضارها على نحو ما يجري في هذه المنطقة، غير تعويذة يستجير بها البعض لاستدرار شرعية، أو يتوجسها البعض الآخر توجسا يكاد يكون من قبيل سحري. فإذا «الجماهير» تلك لا تعدو في نهاية أمرها أن تكون كائنا «إيديولوجيا» لا كائنا سياسيا، أي أنها، بصفتها تلك، ماثلة في الأذهان أكثر مما هي قائمة في الواقع، مع أن توسلها أو توجسها يفضيان، بسبب من ذلك تحديدا، إلى سوء فهم أو تفاهم، يورد مورد الخلط وربما الفصام في العلاقة بالواقع.
إذ يتصرف كل طرف انطلاقا من تمثّل في الذهن، يتصوره مصيبا منطبقا على واقعة محددة، حول «جماهير»، هي في نظره، ثائرة بطبعها، ممانعة جبلّة، غاضبة هائجة، تمجّ واقع الحال ولا تنتظر سوى فرصة الانقضاض والارتداد عليه. خذ مثلا عدوان الدولة العبرية الأخير على غزة، حيث كانت حركة «حماس»، وهي تستدرجه ثم تخوضه، على يقين من أنها لا تفعل في ذلك غير الانسجام الناجز مع رغبة «الجماهير»، مزاجها، إرادتها، وقد استقت شعورها بـ»الانتصار» في أعقاب المواجهة تلك، من يقينها ذاك، في حين كان الطرف العربي المقابل، مصر على سبيل المثال، وهو يعترض على تلك الحرب ويرفض الانسياق فيها، يستشعر منافاة، تفرضها الواقعية، لذلك المنحى «الجماهيري»، لكنه لا يرى لتلك الواقعية من شرعية منتجة لخطاب. هكذا جاء التفاوت صارخا بين الحسم في توخي تلك المقاربة من جهة، وبين الاضطراب أو الحرج في التعبير عنها.
ذلك أن سطوة ذلك «المفهوم»، مفهوم «الجماهير»، لا تزال طاغية تفرض نفسها على الجميع، إرثاً لحقبة ولت، لزمن «ثوري»، لا يتورع البعض عن وصفه بـ»الجميل»، ما عاد قائماً. وهو مفهوم، يشوّش من جراء سطوته تلك، على السياسة، ويكون فاعلا في دعم المواقع أو في نسفها، على نحو قد يجافي الواقع الفعلي لميزان القوة، كما هو قائم على الأرض، منافاة تامة. إذ أن ذلك المفهوم هو الذي يزين لحركة «حماس» ادعاء الانتصار، والتصرف بمقتضاه، والإمعان في ذلك، إلى درجة رفع شروط هي، عادة، من طبيعة ما لا يجرؤ عليه إلا من ظفر بنصر جلي ناجز، يخوله طلب الأقصى، شأن ما لا يقل عن فرض بديل لهيئة أساسية ومحورية تجسد الوجود الوطني الفلسطيني هي منظمة التحرير.
بديهي أن الحركة الإسلامية الفلسطينية إنما تسير في ذلك على سنّة راسخة لم تخترعها، تلك التي لا تقيس المواجهات مع العدو بمقياس ما تلحقه أو لا تلحقه به من أذى، بل بمعيار حظوة «محلية»، وطنية أو إقليمية، ينالها الممانع أو المقاوم بمجرد إقدامه على الممانعة أو المقاومة، باسم شرعية متعالية على كل حيثية واقعية أو تأسيسا لها، ولكن ذلك موضوع آخر.
أما عن مدى إيديولوجية مفهوم «الجماهير» المشار إليه، فربما تبدّت على النحو الأوضح في أن «الجماهير» تلك لا يمكنها أن تكون إلا «عربية» أو «إسلامية»، لا تكاد تُعرَّف إلا بإحدى تلك الصفتين أو بهما معا، أي أنها منتمية حكما إلى فضاءات بالغة العمومية، ما فوق وطنية، أي لا تكاد تقيم من علاقة بحياة الناس، فلم نسمع عن «جماهير» مصرية أو تونسية أو سورية أو سواها، عبّأها وأخرجها عن طورها همّ عيني ومحليّ ملموس، منذ انتفاضات الخبز في سبعينات القرن الماضي أو ثمانيناته.
الحياة