صفحات أخرى

تشومسكي ودينت والفيزيائي آلن غوث: الديموقراطية كنظرية علمية تفسر العقل واللغة والكون

null


حسن عجمي

لم تعد الديموقراطية نظاماً سياسياً فقط يجتاح العالم عن طريق السلم أو العنف، بل اصبحت نموذجاً علمياً على ضوئها تبنى النظريات العلمية. سنبرهن على هذه الفرضية ونرى كيف ان النظريات العلمية المختلفة في ميادين العقل واللغة والبيولوجيا والفيزياء تعتمد على النموذج الديموقراطي في صياغة افكارها.

نبدأ بنظرية داروين التي تقول ان الكائنات الحية هي في صراع دام، في ما بينها، والأقوى في صفاته والأفضل في التكيف يبقى. تضيف ان الصفات الأفضل للبقاء هي التي تتوارثها الأجيال لأن الأفضل ينتصر على الأسوأ فيبقى ويستمر. هذا النموذج في تفسير نشوء الأحياء وبقائهم ونشوء الصفات الحية واستمرارها هو ذاته النموذج المسيطر على النظام الديموقراطي. ففي الديموقراطية ثمة سوق حرة من السلوكيات والأفكار، والفكر كما السلوك الأفضل في صفاته وقدراته يحيا ويستمر والا يزول لأن الأفضل مفيد لنا.

هكذا من الممكن ان نرى نظرية داروين على انها تعبير صريح عن النظام الديموقراطي، وبذلك النظرية الداروينية ليست سوى تطبيق للديموقراطية على الحياة وبيولوجيتها. وما يدعم هذا التفكير ايضا هو ان النظرية الداروينية، بالنسبة للأجناس الحية المختلفة مرتبطة بعضها ببعض. فاذا كان القرد اصل الانسان فنحن هنا نساوي بين الكائنات الحية في نسلها والقوانين الحاكمة لها، وبذلك نعبر عن مبدأ المساواة المضمون من قبل الديموقراطية التي تدعو الى المساواة امام القانون وامتلاك كل فرد الحقوق والواجبات ذاتها تماماً كما تملك الكائنات الحية وأجناسها المختلفة الأصول نفسها. هكذا النظام الديموقراطي نموذج علمي على أساسه نشأت نظرية داروين.

لا تكتفي الديموقراطية ببناء النظرية الداروينية بل تبني ايضاً نظرية تشومسكي في اللغة، وبذلك تغدو الديموقراطية أساس تفسير الحياة واللغة معاً. بالنسبة الي تشومسكي، اللغة فطرية وعالمية. هذا يعني ان كل أفراد البشرية متساوون في امتلاك اللغة ذاتها، وان اللغة تولد في الانسان مع ولادته ومن ثم لاحقاً تختلف وتتنوع من جراء تعرضه لمنبهات لغوية مختلفة. والمساواة في امتلاك اللغة ذاتها تذكرنا بالمساواة امام القانون والمساواة في الحقوق والواجبات التي تبشر بها الديموقراطية. الديموقراطية اساس نظرية تشومسكي في اللغة؛ فبالنسبة اليه اللغة ديموقراطية لأنها موزعة بالتساوي على كل أفراد البشرية. ولتشومسكي حجة قوية تدعم موقفه وهي التالية: يتمكن الطفل الطبيعي من صياغة جمل لغوية سليمة قواعديا من دون ان يتعلم تلك القواعد او يتعرض لسماعها. يضيف تشومسكي ان التفسير الوحيد لتلك الحقيقة هو ان اللغة فطرية وعالمية. فبما ان اللغة فطرية في الانسان تولد فيه مع ولادته، اذن من الطبيعي ان ينجح الطفل السوي في بناء عبارات سليمة لغوياً وإن لم يتعلمها

(Editors: Antony and Hornstein: ChomskyAnd

His Critics. 2003. Blackwell) .

وكما تتمكن الديموقراطية كنموذج علمي من تفسير الحياة واللغة تنجح أيضاً في تفسير العقل. فمثلاً، الديموقراطية أساس نظرية دينت في وصف العقل وتفسيره. في نظر دينت، لا يوجد في العقل ملك أو حاكم فرد تجتمع فيه كل السلطات. فالعقل ليس مسرحاً للأفكار والمشاهدات والمشاعر، وبذلك لا يوجد سلطان يشاهد ما يحدث على المسرح العقلي. بل كل “نيورون” في العقل حاكم وسلطان بحيث تتوزع قدرات العقل على أجزاء الدماغ المختلفة. هذا يذكرنا بمبدأ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام الديموقراطي وتساوي المواطنين وتعاقب الادارات في السلطة والحكم واختلافها. وبالفعل يصف دينت العقل على أنه نظام ديموقراطي. هكذا نجد ان الديموقراطية قد أصبحت نموذجاً علمياً على أساسه تبنى النظريات العلمية المختلفة ومنها نظريات العلماء في العقل. ولدينت حجة قوية على موقفه الديموقراطي من العقل ألا وهي التالية: إذا كان العقل مسرحاً يشاهده مشاهد فرد، حينها لدينا مشكلة كيف يتمكن هذا المشاهد من جمع الادراكات المختلفة كإدراك الصوت واللون معاً في إدراك واحد. لذا يستنتج دينت ان العقل نظام ديموقراطي بدلاً من أن يكون مسرحاً بمشاهد فرد وبذلك يتجنب مشكلة جمع الادراكات في حيز مغلق (Daniel Dennett: Sweet Dreams. 2006. MIT Press).

كما ان الديموقراطية كنموذج علمي تساهم بشكل أساسي في تفسير الكون. ونرى ذلك في نظرية ميكانيكا الكم التي تعتمد على الديموقراطية في تشكيل أطروحتها. بالنسبة الى ميكانيكا الكم، الجُسًيم يعبر كل الممرات الممكنة في الوقت ذاته. ومن جراء تعارض تلك الممرات يتم اختزالها فيكتسب الجسيم ممراً واحداً. هكذا بالنسبة الى ميكانيكا الكم كل جسيم يملك كل التواريخ الممكنة. من هنا، ومن منطلق ميكانيكا الكم، لا يوجد ممر أفضل من ممر آخر بل كل الممرات متساوية في إمكانيتها وتحققها. هذا يرينا مبدأ المساواة بين الأفراد في النظام الديموقراطي. وبذلك تكون ميكانيكا الكم تعبيراً صادقاً عن الديموقراطية كنظام علمي، ما يشير بقوة الى أن الديموقراطية هي العامل النظري الأساس في إمكانية تصور وصياغة ميكانيكا الكم كنظرية علمية.

من جهة أخرى، بالنسبة الى علم الكوزمولوجيا كما يقدمه الفيزيائي آلن غوث، نشأ الكون من العدم من جراء التقلبات الكمية. بحسب هذه النظرية العلمية، العدم يتكون من طاقات متعارضة وبذلك تختزل تلك الطاقات بعضها البعض فيوجد العدم. لكن العدم عرضة لتقلبات كمية بسبب مبدأ اللايقين الذي يحكمه؛ فلا شيء يثبت ثبوتاً مطلقاً. ولأن العدم يتصف بتقلبات كمية ينشأ الوجود والكون من قلب العدم ونبضه. لكن كما يقول غوث بما أن عالمنا نشأ من نقطة في العدم، فمن الطبيعي أن تنشأ أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لا متناهية في نقاط عدة من العدم. هكذا يستنتج غوث ان ثمة أكوان ممكنة عديدة إن لم تكن لا متناهية (Alan Guth: The Inflationary Universe. 1997. Jonathan Cape).

هذا يرينا أن الوجود يساوي بين الأكوان؛ فالأكوان الممكنة كلها موجودة بالفعل. من هنا تتجسّد المساواة في النظام الديموقراطي أيضاً، في المساواة الكوزمولوجية التي تضمن وجود الأكوان الممكنة كافة. وبذلك تغدو الديموقراطية المُلهمة الأساسية لطرح العلماء نظرية الأكوان الممكنة.

يضيف غوث شارحاً نظرية التضخم التي اشتهر بها. تبعاً لنظرية التضخم، تعرض الكون البدائي الى تضخم كبير في فترة زمنية قصيرة جداً، ما أدى الى جعل الكون مسطحاً ومنسجماً في توزيع مواده وطاقاته. هكذا يفسّر غوث لماذا عالمنا مسطح ومنسجم (المرجع السابق). لكن فكرة انسجام الكون هي أيضاً فكرة ديموقراطية. فكما أن، في النظام الديموقراطي، لا بد من توزيع الفرص بالتساوي بين المواطنين وتوزيع الحقوق بالتساوي بينهم، كذلك الكون قد وزّع مواده وطاقاته بالتساوي بين إمكاناته. من هنا، النظام الديموقراطي نموذج علمي على أساسه يتم طرح الأفكار العلمية المعاصرة كفكرة أن الكون منسجم وعادل في توزيع طاقاته ومواده.

كما أن نظرية النسبية لأينشتاين تعبّر عن مبدأ أساسي في الديموقراطية، ولذا تبدو الديموقراطية على أنها العنصر الأساس في صياغة نظرية أينشتاين. بالنسبة الى النظرية النسبية لأينشتاين، الزمن نسبي؛ فالزمن بالنسبة الى هذا الفرد يختلف عن الزمن بالنسبة الى فرد آخر. فمثلاً زمن الذي يراقب قطاراً يعدو مسرعاً يختلف عن زمن الفرد الجالس في ذاك القطار؛ فالزمن يختلف مع اختلاف السرعة. فالأب الذي يسافر بسرعة الضوء الى الفضاء ومن ثم يعود الى الأرض سيغدو حينها أصغر من ابنه. هكذا الزمن نسبي وليس مطلقاً. لكن نسبية الزمن في نظرية أينشتاين تطابق نسبية السلوك الحق والفاضل في النظام الديموقراطي. فكما أن الزمن نسبي كذلك السلوك الحق والفاضل نسبي في الديموقراطية، ولذلك لا تحدّد الديموقراطية ما هو العمل الخيّر أو ما هي التقاليد الحقة التي لا بد من اتباعها وتدع لكل فرد ولكل جماعة حرية اختيار سلوكياتها وأفكارها وثقافتها. من هنا أتت نظرية أينشتاين تعبيراً صادقاً عن الديموقراطية ما يجعل الديموقراطية ملهمة أينشتاين الأولى.

أما الفيزيائي لي سمولن فيؤكد على أن العلم يشكّل نظاماً ديموقراطياً. فلكل عالِم صوت في العلم تماماً كما لكل مواطن حق التصويت وانتخاب الحكم والحاكم في الأنظمة الديموقراطية. ويضيف لي سمولن قائلاً إن العلم شبيه بالديموقراطية لأن العلم كالديموقراطية يأتي بنتائجه على ضوء معلومات غير كاملة، وبذلك يؤدي الى نشوء مجموعات أو جماعات لها وجهات نظر مختلفة. هكذا العلم ديموقراطي: (Lee Smolin The Trouble With Physics. 2006. Houghton Mifflin Company). من هنا، بما أن العلم يشكّل مؤسسة ديموقراطية، ينمو العلم على ضوء الديموقراطية باعتبارها نموذجاً علمياً من خلالها تنشأ النظريات العلمية وتتنوع وتختلف. أما نحن فلا نشارك العالم في صياغة العلوم لأننا خارج نطاق الديموقراطية وحقوقها ولذا اكتسبنا صفة السوبر تخلّف.

لقد رأينا كيف أن العلوم تتأسس على نمط النموذج الديموقراطي ما يجعل الديموقراطية نظرية علمية، بالإضافة الى كونها نظاماً سياسياً. لكن ما الذي جعل الديموقراطية نظاماً سياسياً وفكرياً ناجحاً إزاء انهيار الأنظمة المنافسة لها؟ تجيب السوبر حداثة هنا قائلة إن الديموقراطية تكتسب نجاحها من جراء لا محدديتها. فكلما كان النظام السياسي والفكري غير محدّد أكثر كان أكثر نجاحاً. هذا لأن لا محدديته تمكنه من التكيّف والتأقلم مع المتغيرات المختلفة ما يجعله قادراً على الصمود والتطور والاستمرار. ولا محددية النظام الديموقراطي واضحة في نقاط عدة منها تبدّل حكامه وإداراته بحيث أنه من غير المحدّد من الحاكم في النظام الديموقراطي. كما أن السوق الحر في الديموقراطية عبارة عن لا محددية توزيع الثروة الاقتصادية والثقافية؛ ففي النظام الديموقراطي بأسواقه الاقتصادية والثقافية الحرة من غير المحدّد من سيملك الرأسمال الاقتصادي والثقافي. هكذا للديموقراطية لا محدديتها التي تضمن لها النجاح، ولذا اتجهت الإنسانية نحوها وأصبحت أيضاً نموذجاً علمياً يتبعها العلماء في بناء نظرياتهم. الديموقراطية هي حكم الحقوق كحق أن نكون أحراراً. لكن هذا لا يعني أن نكتفي بها؛ فالسوبر ديموقراطية هي عملية تطوير الحقوق كحق أن نكون أغنياء أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى