حــلاوة أن نـكــون وأن لا نـكــون
پول ڤاليري
على الرغم من أن ڤاليري لا يحبّذ وضع تفسيرات محددة لقصائده، باعتبار أن الشعر ليس له من هدف البتة، في ايصال أي فكرة معينة، ما دام ثمة نشاط توأم يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه، ودحضاً للخطا الشائع، وبخاصة في المناهج التعليمية، ولدى النقاد الكلاسيكيين، وهو تشريح مادة القصيدة الى أجزاء منفصلة، اعتقاداً بأن الشعر ليس سوى عرض لمادة النثر، اقول على الرغم من ذلك كله، هي ذي بعض المفاتيح التي قد تساعد على التجوّل في الأروقة الڤاليرية السرية. في ما يأتي ترجمة خمس قصائد، أولاها من “مجموعة قصائد قديمة”، والبقية من “رقى” Charmes.
في الاولى، ڤاليري في بداياته. وقد استوحى أسطورة نرسيس، ابن النهر سيفيز الذي أغرم بصورته المنعكسة في الماء، فارتمى اليها ولاقى حتفه بين اشداق الأمواج. وتبعت هذه القصيدة، أخرى ايضا عن نرسيس، باسم “مقطع من نرسيس”. ولم يسعفه الوقت ولا المزاج، ولا الصبر، ولا الطاقة، كما يعترف، في انجاز الثالثة. ثم عاد فكتب عام 1938 “غنائية نرسيس”، بناء على طلب احدى المؤلفات الموسيقيات. على أن ڤاليري، كعادته، سواء استخدم الاسطورة أو أي مادة، فهو ينقل كل ذلك الى صعيد فكري.
أما قصائد “رقى” فلكل منها نبرة ووجه. ومع انها جاءت في معظمها أقل غموضاً من مطولته الرائعة “ربة القدر الفتية”، فإن بعضها يتطلب بعض الايضاحات الممكنة. وسمّاها ڤاليري “رقى”، اقتداء بمعلمه مالارميه الذي كان يعتبره كوكباً من المرتبة الاولى، والصفاء الأقصى لايمانه بمادة الشعر. سماها اذاً “رقى” على اعتبار ان الشعر ضرب من السحر. وقديماً كان الشاعر نبيا وعرافا وساحراً في الوقت عينه، يسيطر على العالم ويحرره بقوة الكلمة.
ومما يلاحظ، ان بين موضوعات ڤاليري الشعرية الكونية، بعضاً منها يفرض نفسه على الشاعر في ساعات مختلفة من نهاره، وتشبه الشخصيات التي يجد فيها ازدواجيته. مثل الفجر، البحر، الشجرة، وغيرها…
ففي “الى الدلبة” المنشورة ادناه، نجد الشجرة التي ترجّح رأسها الريح، مشدودة بين نداء السماء وقيود الارض، هذه الأم السوداء، الشجرة التي تدرّبها السماء وتستعجلها لتعيد اليها تدريباتها في لغة، لكنها تعجز عن ذلك، الشجرة التي تعارض أن يلاطف الشاعر جسدها الصقيل، وتقول له: كلا. فما هي سوى شجرة، لا تقبل الانشطار. وهذا كله يذكّرنا بتجارب مالارميه الفنية.
في “الخطى” الموضوع شبه واضح. الشاعر في أرق ملازم، في انتظار ربة الالهام: الكائن الطاهر، الظل الالهي، الواعد بالخَلْق الشعري: قوت قبلة، ذات الحلاوة التي تعلّقنا بين أن نكون وأن لا نكون، كمثل اللحظة التي يغيب فيها العاشق عن ذاته، وهو يرتشف قبلته من شفتي الحبيبة. لذا، يسأل الشاعر، هذا الكائن الطاهر، الا يتسرع بمنح هذه النعمة. اذ الشعر عملية انتظار طويل. فهو صناعة وتأمل، وليس ابن المصادفة، في المفهوم الڤاليري.
في “السِّلف”، إلماح ربما الى الفكر المُبْرق والزائف. ما هو؟ هل هو وليد المصادفة ام النبوغ؟ “لا مرئي ولا معروف/ مصادفة أم نبوغ؟”. وفي هذا المنحى تبدو “السِّلف” تنويعاً لموضوع “الخطى”.
واخيراً في “النخلة”، نجد هذه الشجرة تعني شيئاً أبعد من ذاتها، فيما “الدلبة” لا تعني غير ذاتها. ويطل علينا فيها منذ مطلعها “الملاك”. والشاعر أخذه من مالارميه المعلم، ويشير الى الجمال والسلام والمثال المطلق. ويدعو الشاعر الى الهدوء، والتأمل بإعجاب في شجرة النخل، كيف تهتز مثقلة بثمارها في بطء، بدون سأم، وتغل غلالها في صبر تام. وما على الشاعر اذاً سوى الصبر، وسوف تأتي المفاجأة السعيدة. وتدفق عليه الصور والافكار. وهكذا ترسم لنا هذه القصيدة، مستوحية شجرة النخل النبيلة، عملية الخلق الفنية البطيئة التي تقوم على “الصنعة”: “كل ذرة سكون/ فرصة لثمرة ناضجة”. وهي في هذا المعنى تطوير أوفى وتأكيد لأجواء قصائد سابقة في الـ”رقى”.
نرسيس يتكلم
أيتها الشقيقات، يا الزنابق الحزينة، بي سقم من الجمال
حيث اشتهيتني في عُرْيك،
وآتي اليك يا حورية، يا حورية، يا حورية الينابيع،
لأقدم الى السكون الصافي دموعي الباطلة.
يصغي اليّ هدوء عظيم، أصغي فيه الى الأمل،
يتحول صوت الينابيع ويحدّثني عن المساء
اشهد العشب الفضي ينمو في الظل المقدس،
والقمر الخائن يرفع مرآته
حتى في خفايا الينبوع الناضب.
وأنا! مرتمياً بين هذه القصبات بكل حمية،
بي سقم، يا السفير، من جمالي الحزين!
لا أعرف ابداً أن أحب سوى الماء الساحر
حين نسيت الضحك والوردة القديمة.
كم أرثي لبريقك المشؤوم والصافي،
أيها الينبوع المطوّق بي بفتور زائد،
حيث تغرف عيناي من لازوردك القاتل،
صورتي المكلّلة بأزهار نديّة!
أوّاه! الصورة عقيمة والدموع بلا انتهاء!
وعبر الغياض الزرقاء والأذرع الأخائية،
ثمة ضياءٌ ناعمٌ في ساعةٍ ملتبسة،
يُشكّل في البقعة الكَدْراء حيث الماء الحزين يجذبني،
خطيباً عارياً من بقيّة نهار…
شيطاناً فاتناً، مثلّجاً ومشتهى!
ها هو جسدي في الماء من قمرٍ وندى،
أيها الشبح المطيع الماثل أمام عينيّ!
ها هما ذراعاي الفضّيتان بحركاتهما الصافية!…
يداي البطيئتان كلّتا في الذهب الرائع
من نداء هذا الحبيس الذي تشبكه الأوراق،
وأُعلن للأصداء أسماء الالهة الغامضين!…
الوداع، يا انعكاساً تائهاً على الموج الهادئ والمسوَّر؛
يا نرسيس… يا اسماً هو العطر الناعم بذاته
للقلب الرقيق. فانثرْ بتلاث الوردة المأتميّة
على هذا القبر الفارغ إكراماً لروح الميت.
لتكن شفتي الوردة الناثرة القُبلة
التي تجعل شبحاً عزيزاً يستعيد هدوءه في بطء،
لأن الليل يكلّم بصوتٍ خفيضٍ، دانٍ وبعيد،
كؤوس الأزهار الملأى بالظل والنوم الخفيف.
لكن القمر يلهو بالآس الطويل.
أَهيم بك تحت هذا الآس، أيها الجسد
الحائر المتفتّح للعزلة في حزنٍ،
الذي يتمرّى في المرآة الراقدة في الغِياض.
عبثاً أحرّرني من حضورك العذب،
فالساعة الخادعة ناعمةٌ للأوصال فوق الطّحلب،
وبلذّةٍ قاتمة تنفخ الريح البعيدة الغَور.
الوداع، يا نرسيس… فَلْتَمتْ! ها هو الغَسق.
صورتي تموج لتأوّه قلبي،
والناي في اللازورد الدّفين يُنغّم
أحزان القطعان الضّاجة الراحلة.
ولكن، قبل أن يتشكّل قبرٌ بطيءٌ من الضباب،
على البَرْد المميت حيث يلتهب الكوكب،
إليك هذه القبلة التي تكسر هدوء ماءٍ مشؤوم!
ربما الأمل وحده يكفي لكسر هذا البلّور.
التموّج يخطفني من النسمة التي تنفيني
فَلْيُنعشْ نَفَسي ناياً نحيفاً
قد يكون عازفه سَمحاً معي!…
واختفي أيتها الألوهية المضطربة!
وأنت، أيها الناي الوضيع، أَهرِق للقمر،
مزيجاً من دموعنا الفضية.
(من مجموعة: (Album de vers anciens)
الى الدُّلْبة
تنحنين، أيتها الدلبة الضخمة، وتُظهرين عريَك،
بيضاء أنتٍ، كفتىً من “سيت” بربري،
لكن براءتك في شَرَكٍ، وقدمك تمسك بها قوّة الموقع.
أيها الظل الباهر الذي يهدأ فيه اللازورد نفسُه الذي يحملك،
الأمّ السوداء تضيّق على هذه القَدَم المولودية والصافية التي يُثقلها الوحل.
الرياح ترغب عن جبينك المسافر؛
والارض الطريّة والمعتمة،
أيتها الدلبة، لن تترك أبداً
ظلَّك يُدهَش!
هذا الجبين سينفذ فقط الى الدرجات المضيئة
حيث يُنعشك النسغ؛
يمكنك أن تنمي، أيتها البراءة، ولكن لا أن تُزيلي عُقَد الوقوف الأزليّ!
قَدّري أن حولك كائنات حيّة أخرى تربطها
هيدرا الجليلة؛
فأمثالك كثير، من الصنوبر الى الحَوْر،
ومن البلوط الى القَيقَب،
تُحسّ، في قبضة المنايا، وأقدامها الشعثاء الشَعر
في الرماد المشوَّش،
بأن الازهار تهجرها، وسوائلها المنويّة
تسقط في المجرى الضعيف.
الحَور الرّجراج الصافي، وشجرة النّير، والزّان المكوَّن
من صبايا أربع،
لا تتوقف عن طَرْق باب السماء المغلق دوماً،
مكتسيةً بلا جدوى بالأغصان.
تعيش منفصلةً، تبكي ممتزجةً
في غيابٍ واحد،
وأوصالها الفضيّة تنشقّ عبثاً
عند ولادتها الناعمة.
عندما تصعد النفس التي تزفرها مساءً
في بطءٍ، نحو أفروديت،
على العذراء أن تجلس صامتةً في الظل،
محمومةً من الخجل.
شاعرةً بأنها فوجئت، وشاحبة، تنتمي
الى ذلك الفأل العذب
الذي يحوّله جسد ماثل نحو المستقبل
عبر وجهٍ فتيّ…
ولكن أنتٍ، بأذرعٍ أنقى من أذرع الحيوانات،
تغمسينها في الذهب،
أنتِ التي تصوغين في النهار شبح الشرور
الذي يصوغه النوم أحلاماً،
فيضٌ من الأوراق عظيم، اضطرابٌ أنوف،
عندما ريح الشمال اللاذعة
تعزف، عند جَمام الذهب، لازوردَ الشتاء الفتيّ
على قيثاراتك، أيتها الدلبة،
إبدئي الأنين!… عليك يا جسد الخشب الليّن،
أن تتلوّي، أن تستقيمي،
وأن تتشكّي بدون أن تنقصفي، وأن تعيدي الى الرياح
الصوت الذي تبحث عنه في فوضى!
اجلدي نفسك!… أَظهري الشهيد النافد الصبر
الذي ينسلخ ذاتياً،
ونازعي اللهب العاجز عن المضيّ
بارتداده نحو المشعل!
وحتى يصعد النشيد الى الطيور التي ستولد،
ويجعل نقاء الروح
أوراق جِذْعٍ يحلم باللهب
ترتعش من الأمل،
اخترتك، أيتها الشخصية القديرة في متنزه،
سكرى بترجّحك،
لأن السماء تُدربّك، وتستعجلك، أيتها القوس العظيمة،
لتُعيدي ذلك اليها في لغة!
يا ندّ حوريات الغاب بحب،
أيمكن الشاعر وحده،
أن يلاطف جسدك الصقيل كما تلاطف
الفرَسَ فخذٌ طموح!…
– كلاّ، تقول الشجرة، تقول: كلاّ! بتلألؤ
رأسها المتشامخ،
الذي تعامله العاصفة عموماً،
كما تفعل عشبة!
السِّلْف
لامرئيّ ولا معروف
أنا الأريج
الحيّ والميت
الآتي مع الريح
لا مرئي ولا معروف
مصادفة أم نبوغ؟
ما كدت آتي
حتى انتهت المهمّة!
لا مقروء ولا مفهوم؟
كم من أخطاء موعود بها
لأفضل العقول!
لا مرئي ولا معروف،
فترة نهدٍ عارٍ
بين قميصين!
الخطى
خطاك، يا أطفال سكينتي،
ذات الوطء المتمهّل والقُدسي،
تتقدّم صامتةً ومقرّسة
نحو مضجع أرَقي.
أيها الكائن الطاهر، يا الظل الإلهيّ،
كم هي عذبة، خطاكَ المحْتَرِسة!
أيها الالهة!… كل الهبات التي أُخمّن
تجيئني على هذه الأقدام العارية!
إن تُجهّز، من شفتيك البارزتين،
لساكن أفكاري،
قوتَ قُبلة
لتهدّئه،
فلا تتسرّع بهذا العمل الرقيق،
حلاوة أن نكون وأن لا نكون،
لأني عشت على انتظارك،
وقلبي لم يكن إلاّ خطاك.
النّخلة
ما إن يكاد ملاكّ يحجب ألق
فتنته المريعة،
حتى يضع على مائدتي
الخبزَ الطازج، والحليب الفاتر؛
ويرسم لي بجفنه
إشارة صلاةٍ
تخاطب رؤيتي:
– إهدأ، اهدأ، ابقَ هادئاً!
قدِّرْ ثقل نخلةٍ
تحمل خصبها!
بقدر ما تنحني
لوفرة غلالها،
تكتمل صورتها،
ثمارها الثقيلة قيودها،
فتأمل باعجاب كيف تهتز،
وكمثل ليفة بطيئة
تقسم اللحظة،
تفاضل بدون سر خفي
بين جاذبية الارض
وثقل الجلد!
هذا الاختيار الشائق المتحرّك
بين الظلّ والشمس
يحاكي حكمة
“سيبيل” ورقادها،
وحول البقعة ذاتها
لا تسأم النخلة الوافرة الانتاج
من النّداءات والوداعات…
كم هي نبيلة، كم هي رقيقة!
وكم هي جديرة بترقّب
يد الآلهة الوحيدة!
الذّهب الخفيف الذي تُغمغمه
يرنّ في إصبع الهواء البسيطة،
ويزود روح الصحراء
لأمة حريرية
إنّه صوت خالد تمنحه النخلة
الريح الرملية
التي ترشّه بذرّاتها؛
يخدمها كوسيط وحي خاص،
وتأمل بالاعجوبة
التي تتغنّى بها الأحزان.
غير انها تجعل نفسها
بين الرمل والسماء،
وكلّ نهار يشرق
يجني لها قليلاً من الشهد.
حلاوته تحدّدها
الديمومة الالهية
التي لا تعد الايام،
بل بالحري تخفيها
في عصارة يتجمع فيها
كل اريج الحب.
احياناً إن نيأس،
إن لم تعمل الصرامة المحببة الى النفس
برغم دموعك
الا في ظل الخور،
فلا تتهم بالبخل
“حكيمة” تهيّئ
الكثير من الذهب والسيطرة:
فعبر النسغ الأبّهي
أمل ازلي
يبلغ أشده!
إن لتلك الأيام التي تبدو لك فارغة
وضائعة بالنسبة الى الكون
جذوراً شرهة
تحرث الصحارى.
فالمادة الشعراء
التي اختارتها الظلمات
لا يمكن أن تتوقف ابداً
عن تعقّب الماء العميق
الذي تتطلبه الذرى،
حتى في أحشاء العالم.
الصبر، الصبر،
الصبر في اللازورد!
كل ذرة سكون
فرصة لثمرة ناضجة!
والمفاجأة السعيدة آتية:
النسيم، ويمامة،
والاهتزاز الألطف،
وامرأة متكئة،
سوف تدفع ذلك المطر
الى الهطول
بحيث نخرّ فيه على الركب!
فلينهر الآن شعب،
أيتها النخلة!… قسراً!
ليتمرّغ في الغبار
على ثمار الجلد!
فأنت لم تضيّعي تلك الساعات
لو بقيت خفيفة
بعد تلك التنازلات الطيبة،
كذاك الذي يستغرق في التأمل،
ونفسه تكدّ لتنمو
على مواهبه بالذات! ¶
(من مجموعة: Charmes)
پول ڤاليري
(التقديم والترجمة: هنري فريد صعب)