في معني الرثاء
الياس خوري
اافتتاحية الآداب التي وصف فيها سماح ادريس مأتم والده، كاتبنا الكبير سهيل ادريس،
ابكتني. فأنا لم احضر المأتم لأنني بعيد هنا في نيويورك. ولأنني بعيد فقد سمحت لنفسي بأن انظر الي الموت في وصفه استعارة للحياة.
قلت ان موت الكاتب ليس الا وهما، فنحن نتعامل مع الكتاب الغائبين في وصفهم احياء. وتذكرت انني في احدي الندوات سئلت عن اثر موت ادوارد سعيد، فقلت ان الرجل لم يمت الا مجازا، وانني حين اشتاق اليه، وهذا يحصل في شكل دائم، افتح احد كتبه واحاوره واشرب معه كأس نبيذ.
غيابي عن مأتم الدكتور، مثلما نسميه، جعلني في حلّ من ظلمات الحزن. فالحزن مراتب ودرجات، اقساها هو ذلك الوادي المظلم الذي يأخذنا اليه الموت. حين يصير شخص قريب وحبيب مجرد جثة هامدة. عندها يجتاحنا ذلك الظلام الذي لا تبدده الدموع.
سماح ادريس لم يرث والده، لكنه روي لنا بدقة تلك اللحظات التي تدفع بنا الي مرتبة حزن الوادي المظلم. ندمت لأنني قرأت المقال، لأنه اعادني من المجاز الي الحقيقة. فالحقيقة القاسية هي ان الموت موت، واننا مهما قلنا عن المجاز، وتحدثنا عن استمرار الحياة بأشكال مختلفة، فان هذا لا يغير من حقيقة ذلك الفراغ الرهيب، الذي يصنعه موت من نحبهم.
منذ لقاءاتي الأولي به، وسهيل ادريس يحتل في حياتي حيزا اسمه الصداقة. لا اعلم كيف نمت الصداقة بين الفتي الذي كنته، وبين الكاتب ورئيس التحرير الذي كانه. شيء من سحر لعبة الأدب، ومن العيش علي حافة الخيال، ومن متعة المواقف الصعبة في الاوقات الصعبة. عبرنا الحرب الأهلية، وواجهنا وحش الاحتلال الاسرائيلي، وتجرعنا زمن النكبات العربية، ولم نهن او نتراجع.
كان سهيل ادريس ابن المرحلة الناصرية، وكنت ابن المرحلة الفلسطينية. ورغم ما في المرحلتين من اختلاف وتناقضات، الا ان ما جمع جيلي بالدكتور، هو الموقف الثابت من الحداثة والقضية الوطنية والأفق العلماني الديموقراطي.
كان هو ابن البدايات الجديدة، الذي صنع حلم الوحدة العربية المجهضة. كانوا يكتبون ويتمردون، يذهبون الي الشعر الحديث او يترجمون الوجودية ويكتبون الرواية الحديثة، وهم علي ثقة بأن الأرض ثابتة من تحت اقدامهم. من جهة يقف عبد الناصر بجماهيريته وشعبويته، ومن جهة اخري تأتي ثورة الجزائر لتعلن نهاية المرحلة الكولونيالية. اما نحن فقد ولدنا في ليل الهزيمة الحزيرانية، وعندما بدأ الأمل يلوح بعد معركة الكرامة جاء ايلول الأسود وغرقنا في دم الحرب اللبنانية الطويلة. ومع ذلك كانت تجربتينا محاولة لاكمال ما بدأه جيل الحداثة، وكنا نفتش عن الأمل في ركام اليأس ونبحث عن التغيير وسط رياح الفوضي الشاملة.
بقي سهل ادريس ومجلته ودار الآداب منبرا للتواصل بين الاجيال، وعلامة عن قبس يرفض ان يخبو وارادة لا يزعزها مكر التاريخ.
لذا لم تنقطع العلاقة بسهيل ادريس بل ازدادت رسوخا، كان شيخ الادباء اللبنانيين يصنع ملحمته في الروايات والقواميس والمقالات. كان اشبه بمرآة الأدب العربي المعاصر، كأنه كان حارس بيروت التي رفضت ولا تزال ترفض الاعتراف بنكباتها، وقررت ان تواصل حكايتها مع الحرية علي الرغم من كل شيء.
لكن مقال سماح ادريس جاء ليروي لنا الحكاية الانسانية التي تقع خلف الحكاية التي نعرفها. روي اللحظات الأخيرة وما بعدها، وتحاور مع الميت كأنه حي، وكأن الحكاية لم تنته عندما انطفأت الحياة في الرجل، بل تتابع مسيرتها بالموت ومعه.
تذكرت ايام سعدالله ونوس الأخيرة، وتذكرت فيلم عمر اميرالاي عندما كان ونوس علي حافة الموت يروي عن جرحه وجرحنا الفلسطيني، وسمعت صوته وهو يقول ان الانسان لا يموت بل يتحول زهورا واشجارا. ومنذ ذلك اليوم اختلفت علاقتي بالأزهار والنباتات، صارت اشبه بأرواح الموتي واجسادهم وعقولهم.
المعري كان علي حق حين كتب:
خفف الوطء ما اظن اديم الارض الا من هذه الأجساد
سر ان اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا علي رفات العباد .
لكن ونوس صاغها بطريقة مختلفة واكثر قدرة علي مخاطبة ارواحنا الهشة، تحدث عن الاشجار والزهور، بحيث صار الهواء الذي نتنشقه جزءا من عبير الراحلين.
هذا هو عطر الجنة، هذا ما يصنعه كل يوم اطفال فلسطين، اليوم فهمت لماذا يقطع الاسرائيليون اشجار الزيتون ويجرفون الاراضي المزروعة، لأنهم يخافون من ارواح الموتي التي صارت اشجارا وتسلقت الأشجار.
قلت انني بكيت، والبكاء هو احد مجازات الانسان الكبري، انه لغة ما بعد اللغة، او لغة عجز اللغة وعدم اكتمالها، هكذا احسست وانا اقرأ وصفا للغسل والكفن والتابوت، ورأيتني اسأل الميت لماذا لا يتألم؟ واستمع الي صمته الذي هو لغة ما بعد البكاء.
لم يعد الرثاء ممكنا، منذ ان قرر شعراء العرب المحدثون ان اغراض الشعر ماتت او لم تعد جزءا من قاموس القصيدة، انتهي الرثاء، فالرثاء لا يكون الا شعرا، لأن الموت يحتاج الي القوافي، والا صار ما نقوله عن الموت مجرد تأمل وليس رثاء.
ربما كانت نهاية الأغراض هي افضل انجازات الشعر الحديث، هكذا نجد انفسنا وجها لوجه امام الموت، ولا نملك حياله سوي سلاح واحد، ان لا نصدقه وندخله في لغة المجاز والاستعارة.
حتي وصف اللحظات الأخيرة، ليس سوي مجاز المجاز، لأنها لا تقول سوي بداية الرحلة من الجسد الي الأشجار، وهذا في رأيي هو التحديد الأجمل للروح، لأنها هواء الطبيعة ونسمات الحياة.
وحين سألت عايدة اين ذهبت الروح، نظرت الي الأشجار وبكت، فعلي اغصان اشجار لبنان تنعقد الكلمات ورودا حمراء تصنع عطر حياتنا، وتجعلنا مجرد جزء من سلسلة هذا المدي الأخضر الشاسع، الذي تصنعه ارواح الموتي الذين نحبهم.
القدس العربي
01/04/2008