تراجيديا العلاقة بين الشرق والغرب
فخري صالح
على قلة ما أنجز الطيب صالح (1929ـ 2009) من روايات إلا أنه ظل علامة أساسية في المنجز الروائي العربي طوال ما يزيد على نصف قرن، وذلك منذ ظهرت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» على صفحات مجلة حوار بتقديم من يوسف إدريس، ثم ظهرت الرواية في طبعتها الأولى عام 1967. لكن ما أصدره الروائي السوداني الراحل عنا يوم أمس لم يتعد الأعمال الروائية الأربعة: عرس الزين (1966)، موسم الهجرة إلى الشمال (1967)، بندر شاه وقد صدرت في جزأين: ضوء البيت (1971)، ومريود (1977).
ومع ذلك فإن هذا العدد المحدود من الروايات قد بوأ الطيب صالح مكانة رفيعة في تاريخ الكتابة الروائية العربية المعاصرة، ولفت الانتباه إليه بوصفه واحداً من روائيين قلة طوروا النوع الروائي في القرن العشرين، وفتحوه على أسئلة وجودية مصيرية على رأسها سؤال الهوية العربية – الأفريقية وسؤال العلاقة المصيرية المعقدة مع الغرب. ويمكن النظر إلى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» كتجسيد جمالي لتجربة المستعمر والمستعمرَ في فترة كانت فيها الإمبراطورية البريطانية تغادر آسيا وأفريقيا. كان الطيب صالح في تلك الرواية يقدم قراءة سردية ما بعد كولونيالية مبكرة للشرخ الذي أحدثته تجربة الاستعمار في أرواح الذين وقع عليهم الاستعمار في أفريقيا والعالم العربي، كما كانت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» مختبراً للأفكار النمطية التي نشرها الاستشراق الغربي وعزز حضورها في الأوساط الأكاديمية، وكذلك في أذهان العامة من مواطني الدول الغربية.
وبسبب تماس «موسم الهجرة إلى الشمال» مع تلك الأسئلة المعقدة المتصلة بتجارب الشعوب المستعمرة ومستقبل العلاقات بين كتلتين حضاريتين (شرق وغرب، جنوب وشمال) أثارت هذه الرواية الكثير من الجدل والأسئلة وظلت هدفاً للتحليل والتساؤل حول الرسالة التي تحملها وطبيعة العلاقة بين بنيتها الروائية ومحمول هذه البنية. مثلها مثل رواية جيمس جويس يوليسيز استطاعت «موسم الهجرة…» أن تثير عدداً كبيراً من التحليلات والقراءات الانطباعية والدراسات والنصوص السابرة المتفحصة والأسئلة التي تدور حول علاقة بنية الرواية بخطابها، وصوت الراوي بما يروي عنه، إلى أن تجمع لدينا تراث نقدي ضخم متصل بهذه الرواية المثيرة للجدل أكثر من غيرها من الروايات العربية التي كتبت خلال نصف القرن الماضي.
لكن أهمية «موسم الهجرة…» لا تقتصر على موضوعها، والأفكار التي تثيرها، والرؤى الحضارية التي تقدمها في ثنايا سردها، بل إنها تكمن في ترتيب أحداث قصتها، حيث يقلب الطيب صالح صفحات الحكاية بطريقة تخلق توتراً مدهشاً في العلاقة بين الراوي ومصطفى سعيد، أولاً، وبين ما يرويه الراوي والمتلقي ثانياً. وفي هذه البؤرة من التوتر، والرغبة في معرفة الحكاية، تتكشف للراوي والقارئ معاً تراجيديا مصطفى سعيد وحياته السابقة التي تلقي بظلها القاتم على أيامه الأخيرة التي فضل أن يعيشها في تلك القرية النائية من قرى السودان. لكن ما يثير الانتباه بالفعل هو أن الراوي نفسه يعمل على تقطيع الحكاية إلى أجزاء يمررها إلى القارئ بطريقة تجعل الأخير أسيراً للراوي وكيفية نظرته إلى عناصر الحكاية. ها هنا يعمل الكاتب على تقطيع الحكاية مرتين: مرة بحيث يعيها الراوي، ومرة ثانية إذ يجعل الراوي يقوم بتقطيعها وروايتها للقارئ.
هناك إذاً طبقتان للحكاية في «موسم الهجرة…»: الطبقة الأولى هي تلك التي تتشكل في وعي الراوي، والطبقة الثانية هي التي تتشكل في وعي القارئ. ويتيح هذا النوع من التوزيع، وتصفية مادة الحكاية، لخيال القارئ أن يلعب دوراً فاعلاً في إعادة ترتيب شذرات الحكاية. إن قارئ الطيب صالح يشكل معه معنى النص، بل إنه يشترك معه في تحديد معنى الرسالة التي تتصفى من خلال راوٍ منحاز ضد الغرب منذ الصفحة الأولى في الرواية. لا نستطيع في هذا السياق أن نقول إن الكاتب مختبئ خلف الراوي، وإن هناك تطابقاً بين وجهة نظر الكاتب ووجهة نظر الراوي. هناك منشور يصفي الحكاية من خلال صوت الراوي من دون أن يكون هناك تطابق في وجهات النظر الثلاث المتمثلة في وجهة نظر مصطفى سعيد ووجهة نظر الراوي، وأخيراً وجهة نظر الكاتب. وتبدو وجهة نظر مصطفى سعيد، على رغم مرورها بمصفاة الراوي، بارزة مهيمنة تتمثل في نزعة جبرية للرد على غزو الغرب الاستعماري للشرق بصورة مواربة.
إن نظرة مصطفى سعيد إلى طبيعة العلاقة مع الغرب تبدو محكومة بالتجربة الاستعمارية برمتها، رغم أن الرواية لا تهتم كثيراً بإيراد هذا النوع من التفاصيل المتعلقة بالتجربة.
على حافات هذه الرواية الكبيرة المدهشة تقيم أعمال الطيب صالح الأخرى. ولا يعني هذا الكلام انتقاصاً من روايات الكاتب السوداني الكبير؛ بل إن ما أقصده هو أن «عرس الزين»، و«ضو البيت» و«مريود» هي استعادات لسؤال الهوية والمكان والبيئة الشعبية السودانية والعالم البكر الذي لم تلوثه الحضارة الغربية التي عبرت فوق جسد العالم الأفريقي، ما يمثل ترياقاً لعقابيل تجربة الاستعمار التي كتبتها «موسم الهجرة…» بصورة مواربة. ومن هنا تبدو هذه الروايات وكأنها تمثل العنصر الموازي الذي يقيم ثنائية ضدية مع «موسم الهجرة إلى الشمال».
الحياة