صفحات ثقافية

«عطيل» العربي المتحرر من أسر اللون

علي بدر
أعاد الطيب صالح الاعتبار لـ «عطيل»، لا في النصية الشكسبيرية كدراما كلاسيكية متوترة، إنما كعلاقة مضطربة ومهددة، كتراجيديا تبرز فجأة من النصية الاستعمارية، ومن وجودها المتجدد والحيوي في التاريخ السياسي والاجتماعي للصراع بين أفريقيا وأوروبا، وهكذا يدفع الطيب صالح رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» لتكون الخطاب النقيض للمفهوم الشكسبيري حول قضايا العرق والدم، ولتتحول هذه الميتا-دراما إلى نوع من العلاقة الغامضة بين أسود من المستعمرة وشقراء من المتربول، وبفضل سلسلة من الاضطرابات السيا-سايكولوجية، تصل الرواية إلى الذروة، القتل، انتفاء النص الشكسبيري، نقص تراتب الأنساق العرقية، قانون العيب، الخيانة، ومن ثم نهاية النص الشكسبيري الذي قام أصلاً في مأسسة مشكلة هذه الثنائية الثقافية والحضارية، بل لتتلاشى هذه الدراما الكونية تحت هاجس العلاقة النقضية بين عطيل وديزدمونة، وتتحول من دراما متوترة إلى محاولة ثقافية لاستدعاء التراث الغربي ومن ثم الاحتياز عليه وتمثيله، لقد أخرج الطيب صالح «عطيل» الأسود المحبوس في لونه الماحق، إلى التجربة المعيشة.
ولا بد من إعادة الاعتبار إلى جوزيف كونراد، وإلى أحداث روايته الطاحنة «قلب الظلام»، لا في تصوير هذا التضاد الظاهر في علاقات القوة بين المستعمر والمستعمر، إنما في تصوير التهديد الناجم عن تمثيل الآخر، بصفته نقيضاً للذات المركزية الغربية ومركزية اللوغوس الغربي، بل عمد الطيب صالح إلى تجاوز علاقات التمثيل من مجرد انعكاس للممارسات الكولونيالية إلى اشتباك جسدي، بل حرر العلاقة التاريخية بين النقيضين: غرب/شرق، أفريقيا/أوروبا، شمال/جنوب، إلى علاقة قائمة في الهاجس الإنساني، وهذا الأمر أكثر تعقيداً من فكرة كونراد بكثير، على رغم ألمعية رواية كونراد واستثنائيتها في التاريخ الإنساني، لأن صالح ذهب مباشرة نحو العلاقات الجنسية المتوترة، وقد حول بذلك العلاقة التاريخية من علاقة سياسية ظاهرة إلى فحولة قاهرة وأنوثة مقهورة.
ويجب الوقوف أمام «موسم الهجرة إلى الشمال» وموقعها في الدراسات ما بعد الكولونيالية، والدراسات الثقافية، وأدب المنفى والهجرة، وقراءات بوليطيقيا الجسد في الدراسات الحديثة، وبعث أسطورة كاليبان بصفته الآخر الذي يجب السيطرة عليه باسم المدنية، والذي يطرح في شكل ثابت ثنائية الفوضى والنظام، والخطاب الناتج من تأكيد علاقة تفوق اللون مع احتمالات العصيان وتبديد السلطة. وليظهر على نحو محفوف بالمخاطر أثر الرق الممسوح والمختلط الخاص بهذا التاريخ الكرنفالي، والفصل الزائف والمتوحش الذي يؤكده فرانز فانون بين القصبة المظلمة والحقيرة وبين المدينة الأوروبية المضاءة، والإحساس بالنشاز الكياني والأنطولوجي والقيمي للبشر.
أخيراً هذا هو الطيب صالح، السوداني، العربي، الكوني، سافر كثيراً، وعمل طويلاً، وكتب الروايات، والقصص، وأدب الرحلات، وعمل مذيعاً، ومستشاراً ثقافياً، ثم مات بعيداً من بلاده، بعد أن منعت روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» في بلاده بضعة أعوام.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى