اصـــطــــيـــــاد الــــــواقـــــــــــع بــالأدب
مازن معروف
لا شك أن في خسارة أديب كالطيب صالح، ألماً من نوع آخر. فهو واحد من أولئك الأدباء الذين لطالما نجحوا في التعبير عن واقعهم الذي لا يعني الكثير للبعض، بلغة روائية اتسمت بالشفافية والجرأة والألم الذي يسخر من جرحه. ليس أمامك الكثير من الخيارات إذ تقرأ الطيب صالح، فأنت تتأرجح بين عفوية اللغة وجاذبية البناء الأدبي من جهة، والواقع الذي تصطدم به من جهة أخرى. استطاع الروائي ان ينقل السودان من كونه ذلك الوطن البعيد والفقير والمحيّد عن اهتمامات الشعوب العربية الأخرى، الى قلب تلك الشعوب، بل الى العالم أجمع.
روايته “موسم الهجرة الى الشمال” التي اعتبرت من بين أهم مئة رواية في العالم، خلال القرن العشرين، والتي قد تكون الأكثر شهرة بين أعماله قاطبة، حمل بها تلك الأرض السودانية، وعلاقة الإنسان السوداني بترابها. وهي الرواية التي “طيّرته” على جوانحها الى بقاع العالم كافة، وترجمت الى لغات أوروبية عديدة إضافة الى اللغة الانكليزية. ولا أزال أذكر كلما مررت بحقل أو ببستان صغير، تعبير الطيب صالح الذي يصف فيه الأرض التي يقوم أهلها بحرقها ليغسلوا التراب وتهيئته لموسم زراعي جديد. لم تحده معاناته الشخصية مع الرقابات العربية عن إكمال مشواره الروائي. وهو الفلاح العنيد الذي لطالما كانت رواياته موضع دراسات لباحثين أوروبيين وعرب.
اعتمد صالح منهجا خاصا في الكتابة الروائية مستندا الى ثقافته الواسعة والعميقة واطلاعه المشغوف على أدب العالميين الروائيين، فكان دائما مأخوذا بهاجس التجريب من دون أن يتجاهل المنهج التقليدي. فمثلا يرى بعض الدارسين أنه أشار الى جوزف كونراد من دون أن يغفل “عطيل” في “موسم الهجرة الى الشمال”. وبذلك فإن تقريبه المناخ الإفريقي المعيشي المعدم، في أسلوب ذي روح شكسبيرية، لأمر في غاية الاختلاف والتمايز. فالتباين بين القديم والحديث في العرض السردي، وما يتخلله من مناقشات حول الأجدى من تلك الأساليب، وما يجب عدم العودة اليه، تحوّل بفعل الطيب صالح الى جثة مكسوة بالغبار. وبذلك، أدى دورا زائدا إضافة الى مهمته الأخلاقية كروائي، ممهدا بذلك لجيل آخر من الروائيين وجدوا أن الطريق الى كتابة الرواية تخلص اخيرا من ثقل المساجلات حول الأسلوب المحدد، الامر الذي رسم له تلك الهالة التي لم تبهت يوما.
هو كالكثير من الأدباء الذين اذا جرحهم أبناء وطنهم، جرحوا بذلك مخيلتهم ليستولدوا كل همومهم في شكل شعري أو روائي أو أي فن آخر. أطلق عليه النقاد لقب “عبقري الرواية العربية”. وتوّجته “موسم الهجرة الى الشمال” كواحد من أفضل روائيي القرن العشرين، ومنذ نشرها للمرة الأولى في بيروت، لاحقته الترشيحات لينال جوائز عديدة. وفي عام 2001 تم الاعتراف بتلك الرواية على يد الاكاديميا العربية في دمشق باعتبارها “الرواية العربية الأفضل” في القرن العشرين. أما روايته “عرس الزين” فقد تحولت إلى دراما في ليبيا والى فيلم سينمائي من اخراج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات.
الطيب صالح واحد من أوائل الروائيين الذين انتبهوا الى مسألة ما عرف لاحقا بصدام الحضارات والقلق الذي يكتنف إنسان العالم الثالث الضعيف مصطفى سعيد والذي تتجاذبه قوى خفية بين التقاليد والعالم الحديث، وتمزقه اختلافات العالمين. يكوّن لنفسه رؤية خاصة بين تقبّل وتقلّب. إضافة الى مواضيع أخرى في رواياته اللاحقة كالفقر والبطالة والعلاقة التي لا تزال قائمة بين الاقطاعيين والفلاحين الفقراء، وذلك الصراع الذي كان الكثيرون يظنونه شبه منته، الى أن أعاده الطيب الى الواجهة عبر رواياته. كما مواضيع اخرى كعلاقة الوالد بأبيه وبإبنه (رواية “ضو البيت”) وهي علاقة ملتبسة وفيها الكثير من الضربات التي تنهال من الواقع عليك عبر لغة روائية، تراوح بين السرد والوصف العميق للكائن الانساني الحساس الذي يتعرض لظلم مزدوج. هناك الكثير من الألم البطيء سريانه في عروقنا. وكل روايات الطيب صالح تبدأ من ارضه السودان، وتتحول الى كم هائل من التفاعلات الانسانية عبر ما يعتمده الروائي من أسلوب عزل نماذج من الحياة اليومية، ثم تأليف عالم خاص بها وغير خرافي في الوقت نفسه. ذلك كله على الرغم من تطعيمه رواياته بنكهة فلسفية وإن خفيفة حتى لكأنها قريبة نظرة اسطورية لا نستطيع تطويقها وإن قدّمها على طبق نظيف. حتى لنتساءل كيف أننا لم ننتبه الى تلك التفاصيل أمامنا. وقد اظهرت دراسة في جامعة الكويت أن الموت في روايات الطيب صالح شكّل حضورا دائما، وهو متشعب ولا يستثني الشخصيات بل ويحكم الموت علاقة الانسان بالمرأة وعلاقة الفلاح بأرضه، وعلاقة الاب بإبنه وابيه وعائلته.
تكمن جمالية رواياته في أنه نجح في رفع هذا الواقع بعد اصطياده، الى مرتبة رفيعة من الأدب من دون أن يزيح عن المسار الحقيقي لحياة الشخصيات والبيئة التي نشأت فيها.