صفحات ثقافية

كرنفالات الرثاء

null


عناية جابر

عن «ثقافة الكذب» كتب الياس خوري محركاً الأسئلة في ما يتعلق بالكتابات الاحتفالية التي تمارس كرنفاليتها إثر موت هذا الكاتب وذاك، حتى ليبدو هؤلاء الغائبون جميعاً، كاتباً واحداً ومبدعاً واحداً، ويصح في رثائه نص واحد، ينضوي تحته الراحلون جميعا، أنى تفاوتت درجة إبداعهم وتباينت نتاجاتهم.

من البديهي، ألا نتمتع جميعا بيقينيات. والأرجح ان بعضنا تنقصه الأحكام العادلة لإطلاقها على شخصيات لعبت أدوارا سلبية كانت او ايجابية، وعلى أفكار سادت، وقضايا أثرت. سوى أن ذاكرة التاريخ لا تكذب. ذاكرة التاريخ أكثر حرصا منا، وهي البرهان العادل على منجزنا الإبداعي والإنساني، العقائدي والعملاني. ان السؤال الذي لعب كخلفية عميقة لما تناولته مقالة خوري عن «ثقافة الكذب» خاض في الموت، موت المبدعين بشكل خاص، الذي لا يمنح ضحاياه صك براءة، سوى من الحياة نفسها.

يبقى منجزنا بعد الموت، ومعتقدنا الذي جاهرنا به ودافعنا عنه، ووقفاتنا الكبيرة او الصغيرة، حيال منعطفات حياتنا وأوطاننا، وهذه تكلفها ذاكرة التاريخ من النسيان، تحفظها وتؤرخ لها تفصيلا، إثر تفصيل. الترحم على الأموات هو جانبنا الانساني والأخلاقي، غير ان الصدق والأمانة يقتضيان التمييز بين عصارات ما تركه هذا الراحل وذاك، والكتابة عنها في سلبها وإيجابها، لكي لا تسود ثقافة التأبينات، كما لو جزية ندفعها للموت نفسه، متناسين الميت، خالطين بين فضائل هذا وخطايا ذاك.

حين يموت أديب او مبدع او فنان، او من لعب أدوارهم على غير وجه حق، تصاب الصفحات الثقافية بحال هوس ذهاني بالموت نفسه، فتغيب الموضوعية وتنهال الكتابات الرثاءة والمجانية، كما لو يكتب اصحابها في موتهم الشخصي، وتحت إلحاح هستيريا الـ «سكوب» الصحفي، وباستحواذ الحدث المؤلم في كل الأحوال، من دون الانتباه الى كتابة جملة مفيدة ـ على ما يقال ـ في تقييم نتاج هذا الراحل او الراحلة، الذي لا يعادي الموت في تناوله التقييمي، ولا ينتقص من هيبته. شرط الكتابة في أحوال الموت والحياة، هو عدم خيانة الذاكرة التي تحفظ للغائبين تاريخهم الحقيقي والموثق والمعروف الذي عاشوا في ظله ودافعوا عنه.

يحتاج الموت، بوصفه القطع النهائي مع الحياة، الى نوع الرثاء الحاني، وبعض الحدب المودع للراحل في غيابه الكلي الأخير، وفي مكانه القصي الغامض والمهجور الذي سوف نتردى فيه جميعاً وتباعاً. سوى ان الوقوف على حقيقة هذا الراحل، وعلى هويته الانسانية والابداعية، هو شرط الصدق وعدم خيانة مفهوم الكتابة نفسها، في مغايرتها واختلافها، وأيضا عدم خيانة الراحل في التوثيق لما اعتقده هو وآمن به.

في أحداث الموت، لا نحرض بالطبع على كتابات حاقدة، لكن متخلصة من ولعها بالتقديس والاستعارات التي تجالد الحقيقة. وسوف لن نصل الى كتابة على غرار شفافية ميشيما في «اعترافات قناع» او «جان جينيه» في «يوميات لص» او «لوليتا» لنابوكوف، او كتابات صريحة لأندريه جيد وأناييس نن وهنري ميللر ومحمد شكري وكثيرين. كل ما نأمله، كتابة مبصرة، غير احتفالية واضحة، يستحيل دونها فهم الغاية من ثقافة الصدق، التي تفتح على فهم الراثي والمرثي في آن. كتابة ذات قابلية فذة على التفريق بين الحق والباطل، وكتابة تمحض ذاكرة التاريخ حقها، تلك الذاكرة التي لا يسقط منها أي تفصيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى