صفحات ثقافية

فتنة: امتنان ويلدرز

null


حسام عيتاني

يخلو فيلم «فتنة» من أي لمسة إبداعية، سواء بالمعنى الفني المحض أو بالمعنى السياسي النقدي. هو مجموعة من الصور النمطية التي تتكرر في الغرب عن الإسلام والمسلمين، وأصبحت منذ أحداث 11 أيلول 2001 من توابل أي مائدة يحضر عليها طبق الحديث عن الإسلام والعرب والشرق الأوسط.

هو فيلم سطحي بكل معاني العبارة، جمع فيه النائب عن حزب الحرية الهولندي اليميني المتطرف غريت ويلدرز آيات قرآنية وخطباً لعدد من الأئمة الهامشيين ومقتطفات من مقابلات تلفزيونية مع أطفال وبالغين من المسلمين الذين يعبرون عن كراهيتهم لليهود، وصوراً من تظاهرات نظمها مسلمون في أوروبا وغيرها تحيّي هتلر والمحرقة، ولقطات من الهجمات الإرهابية التي استهدفت نيويورك ومدريد ولندن في الأعوام القليلة الماضية… وعلى الرغم من أن مدة الفيلم لا تتجاوز الدقائق السبع عشرة (وهو موجود على عدد من مواقع الانترنت باللغة الهولندية مع ترجمة الى اللغة الانكليزية)، إلا أنه يدفع الى الملل لبقائه ضمن الصور الأكثر سذاجة وعداء، في آن، للإسلام: فهذا دين «فاشي» بحسب تصريحات لاحقة للنائب ويلدرز، يربي أبناءه على الحقد ويتبنى نظرة معادية لأجناس من البشر لمجرد كونهم مختلفين ويحتقر جميع الاديان الاخرى… ويختتم الفيلم بدعوة المسلمين الى تمزيق كتابهم المقدس، القرآن.

في معرض تفنيد مضمون الفيلم، وهو مضمون لا يحتاج الى عميق معرفة بالإسلام وإشكالياته وعلاقته بالعالم المعاصر وأزماته، يمكن القول ان الآيات القرآنية التي يستدل ويلدرز منها على «فاشية» القرآن قد أُخرجت من سياقها التاريخي المحدد وجرى تعميمها لتصبح هي الإسلام، وهذا سلوك يتشارك فيه النائب الهولندي مع من يقول انهم خصومه أي غلاة التيارات الجهادية الحركية.

لكن التشارك الضمني في المواقف بين صاحب الفيلم ودعاة الإسلام الحركي المسلح لا ينتهي هنا، بل الأحرى أن ما سبقت الإشارة اليه ليس سوى الجانب البسيط من أوجه الشراكة.

وجه آخر للخدمات المتبادلة بين المتشددين الإسلاميين وويلدرز يكمن في انه يقدم لهم المبرر اللازم للغوص أكثر في تطرفهم ونظرتهم الأحادية الى العالم القائمة على تقسيمه الى معسكرين، واحد للخير يضمهم وحدهم وآخر للشر يقيم فيه جميع الآخرين من أتباع التفسيرات الإسلامية المخالفة لآرائهم اولا وصولا الى أبناء الديانات الاخرى.

الوجه الثالث ان ويلدرز الذي تبدو معرفته بالإسلام سطحية بل تافهة، يدفع الحركيين الجهاديين، من حيث علم أو لم يعلم، الى إضفاء المزيد من الطابع الايديولوجي على الإسلام والإمعان في إبعاده عن دوره كدين وجعله خلفية ايديولوجية لممارسة سياسية تختص بها فئات اجتماعية وسياسية ذات جداول أعمال جوهرها الوصول الى السلطة.

وليس سرا أن سعي الجهات الإسلامية المتطرفة للقبض على زمام الحكم في بلدانها يتقاطع مع سعي اليمين المتطرف وعدد من الأحزاب الشعبوية على غرار ذلك الذي ينتمي النائب الهولندي اليه، لتحسين مواقعهم في الحكم في دولهم من خلال رفع رايات التهديد بالخطر الإسلامي وبتدفق الهجرة من الدول المسلمة الى الغرب وانتقال آفات الإرهاب والمخدرات والانحلال الاجتماعي الى هناك، بسبب الهجرة.

ولعل الأهم في سياق الخدمات التي يتبادلها الإسلاميون المتشددون واليمينيون الشعبويون الأوروبيون، يكمن في أن الجانبين يتساعدان في إرجاء الإصلاحات الضرورية في مجالات عملهما. الإسلاميون الذين يقاومون بشدة الدعوات الى النظر العميق في الأحوال التي وصل اليها الإسلام بعد أدلجته وجعله عقيدة خالية من المعنى الديني العام، يدينون بالكثير الى السياسيين الغوغائيين في أوروبا والغرب عموما الذين يزودون الإسلاميين الحركيين بكل المبررات اللازمة لرفض الإصلاح الديني وبالتالي الاجتماعي في بلادهم ويدفعونهم الى المزيد من التصلب حيال أي دعوات الى الحوار، سواء مع تيارات سياسية علمانية أو مع قوى لا ترى في الدين الإسلامي غير ما هو عليه: دين باتت علاقته بالتنظيم الاجتماعي والسياسي قليلة بعد أكثر من أربعة عشر قرنا على نشأته التي ترافقت مع ظروف لم يعد أي منها قائما، اللهم ما يجري إعادة اكتشافه لأسباب تتعلق بمصالح مؤسسات وفئات تعتاش على الدين.

ويحضر هنا سؤال عما كان ليبدو عليه خطاب الرئيس السوداني عمر البشير، على سبيل المثال، في القمة العربية الأخيرة لو لم تكن مثارة قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد. فبدلا من أن يتحدث عن المآسي التي سببها نظامه لأهالي دارفور وتلك التي سام بها مواطنيه في الجنوب، تحول الخطاب الى الكرامة المهدورة والعزة المستباحة بواسطة بعض رسامي الكاريكاتور القليلي الحظ من الموهبة والذكاء.

ويرد الإسلاميون تحية أقصى اليمين والشعبويين الغربيين بأحسن منها، موفرين لويلدرز والسياسيين الآخرين من طينته، كل الذرائع التي يحتاجون اليها لتصعيد حملاتهم، أكان لناحية تغذية المتشددين للصور النمطية المعهودة، أو إشهار العداء لقيم المجتمعات التي يقيمون فيها، سواء في الغرب أو في الشرق. لا بــد ان ويلدرز وأصحابه يشعرون بالامتنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى