صفحات ثقافية

شهادات كتب وأدباء

القابض على روح الجنوب والشمال
يوسف الشاروني
الطيب صالح واحد من اكبر رواد الادب السوداني والرواية تحديدا .عندما اسمع اسم السودان يتبادر الى ذهني على الفور اسم الطيب صالح. آخر مرة التقيته كانت عندما فاز بجائزة مؤتمر القاهرة للرواية في دورته الثانية. وقتها استمعت الى كلمته التي كانت على مستوى عالٍ من الثقافة والعمق مغلفة بروح الفكاهة. هذا هو الطيب صالح كما عرفته منذ ان التقيته في المرة الاولى في لندن عن طريق الصديق المشترك مصطفى بدوي وكان وقتها الطيب يعمل في اذاعة BCC .
على مستوى الكتابة الابداعية استطاع الطيب القبض على روح الجنوب بطبيعته واشخاصه ونيله واساطيره الى جانب روح الشمال المتقدم المختلف على مستويات كثيرة .وظل انحيازه لجنوبيته هو المحدد لرؤيته.
برحيل الطيب صالح تخسر الكتابة السردية العربية عموما والكتابة السودانية بشكل خاص واحدا من اهم فرسانها والذي كان قادرا على صناعة ضفيرة متمازجة تخصه وحده.

روائي مصري

موهبة استثنائية
ابراهيم اصلان
تعرفت المرة الاولي على الطيب صالح في بغداد في مهرجان المربد في اوائل الثمانينيات تقريبا .كنا جلوسا في بهو الفندق وفؤجئنا برجل اسمر يرتدي الزي السوداني ويسأل «وينه ابراهيم اصلان؟؟». ومن ساعتها بدأت بينه وبينه صداقة عميقة قائمة على الود والتقدير اكثر من كونها قائمة على كثرة اللقاءات. وكنا عندما قرأنا روايته «موسم الهجرة الى الشمال» التي اصدرها الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش في سلسلة روايات الهلال اصابتنا بحالة اشبه بالسحر. وبعد ذلك وقت رئاستي لتحرير سلسلة افاق الكتابة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية نشرت له مختارات وتعمدت الا تكون بينها «موسم الهجرة»، من جانب لاني اردت تقديم وجه آخر للطيب صالح ومن ناحية اخرى اظن ان «عرس الزين» هي افضل اعماله على الاطلاق.
الطيب صالح موهبة استثنائية. استطاع انجاز اعمال على قدر هائل من الاصالة ورغم انه كان جوالا واستقر خارج السودان اكثر من استقراره في داخلها، لكنه استطاع تجسيد الروح السودانية بلغة قص عالية المستوى مكنته من التربع على مرتبة لا يستطيع ان ينازعه عليها الكثيرون.
كلامي عن الطيب صالح لن يضيف اليه كثيرا فيكفي ان اعماله الابداعية كانت وستظل تحتل ركنا كبيرا في اذهاننا على الرغم من انه لم يكتب ابداعا منذ فترة تقارب الثلاثين عاما. رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة ومؤلمة.
روائي مصري

الإنسان في مستوى الكاتب
شوقي بغدادي
ربما لأنني اجتمعت به شخصياً أكثر من مرة، وترافقنا لأكثر من أسبوع في تونس عقب أحد المؤتمرات، ربما بسبب ذلك أستطيع القول إن الطيب صالح الشخص لا يقل أهمية عن الطيب صالح الإنسان، ليس بسبب سعة ثقافته وعمقها فحسب، بل لروح المرح والقدرة على ارتجال النكتة والسخرية بشكل إبداعي خاطف، بل بشكل فني مذهل.
ماذا أروي عنك الآن يا صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» وقد سبقتني إلى الوعد؟ في السودان لا يعترف بك الجميع، لأنك كنت دائماً ضد أنظمة الاستبداد التي تعاقبت على وطنك وهجرتك بعيداً عنه، ولكنهم اليوم جميعاً سيحنون الرأس للموت، وللموهبة الكبيرة التي صنعت للسودان في مسيرة الأدب العربي الحــديث اسماً رفيعاً.
لو كان حياً الآن الطيب صالح (مصادفةً) وأذيع نبأ موته خطأ لكان أول من يضحك عالياً على الخبر ويصيح: (ليته كان صحيحاً! ولكن اسمحوا لي أن أختار من يرافقني إلى القبر). كلنا سنرافقك إلى القبر يا صديق، عاجلاً أم آجلاً، وقد نتوقف قليلاً على الحفرة أما أنا فسوف أطلب السماح لي بالوثوب خلفك لأنني صرت وحيداً يا أبا الطيب، وأريد رفيقاً طيباً في العالم الآخر، وليس أطيب منك.

شاعر سوري

لمسة الأدب العظيم
فواز حداد
يجوز القول، إنني مثلــما فتــحت عينيَّ على نجـيب محفوظ، أدركت بعــده الطـيب صالح في رائعتــيه «موسم الهــجرة إلى الشــمال» و «عرس الزين»، وأتــذكر أنــني انتظــرت بفارغ صــبر أعمـاله التالية «مريود» و «ضو البيت» وغيرهما. وكانت قلـيلة بالمقارنة مع محفوظ، لكنه استــطاع أن يــهزني في أعمــاقي، وأضــفت إلى ما أعرفــه عالماً آخر من الكــتابة. المفاجــأة كانت أن الطــيب صالح من السودان، ذلك البلد الذي لا نعرف عنه سوى القليل، فأصبحت أرغب في معرفة الكثير.
شحنتني روايته الأولى بانفــعالات قويــة، تلك لمسـة الأدب العظيم التي لا تخفى. وكان في إشارته إلى تأثره بـ«قلب الظلام» ما حفزني على قراءة كل ما ترجم لجوزيف كونراد إلى العربيــة. في السنوات الأخيرة قرأت له مجموعة كتبه التي تضم مـقالاته التي نشرها في «المجلة» اللندنية، وكانت عن صديقه «منسى» وجولاته في العالمين العربي والغربي، وبعض الذكريات وانطباعاته عن قراءاته في شعر المتنبي والمعري… ما سمح لي بالتعرف اليه من الداخل وإلى مناقبه الشخصية أيضاً، وجعلني أحس أنني ازددت اقــتراباً منه. وأصبح صديـقاً عزيزاً عليَّ من خلال كلماته وحدها، مثلما حدث معي عندما قرأت الكـتب التي ضــمت مقالات أديبنا الراحــل عبد السلام العجيلي، والتي قــرأتها كلها مثلما قرأت كـل ما كتب الطيب صـالح، أو ما وقع تحت يدي.
لم أكن أتمنى على الإطلاق، أن يكون لقائي معه في مناسبة نعيه، لكن في تذكره اليوم، مناسبة أخرى وهي أن اعترف بكل أمانة وفخر بأنني تأثرت به وبأخلاقياته العالية… كما أنني مدين له بأجمل ساعات عمري تلك التي قضيتها وأنا أقرأ رواياته.
روائي سوري
روايتي المفضلة
نهاد سيريس
كتب الطيب صالح روايات اخرى «كعرس الزين»، ولكن تلك الروايات لن تستطيع سحبي بعيداً عن «موسم الهجرة الى الشمال»، فهي روايتي المفضلة حتى أن القارئ الحصيف يجد بســهولة تأثيرها في الأعمال الروائية العربية المعاصرة. أهمية هذه الرواية التي ذاع صيت كاتبها بهذا الشكل بسببها هي في جمعها لعالمين سوف يأتي يوم ينشغل فيه الناس في التساؤل حول إمكانية الحوار بينهما.
منذ سنوات كتابتـها (الستينيات) وحتى اليوم يشكل هذان العالمان أي الشــرق والــغرب (أو الشمال والجنوب لا فرق) معادلة غير متساوية الطرفين: شمال متقدم وجنوب متخلف، أو شمال قوي وجنوب ضعيف.
الطريف في هذه الرواية هو أن كاتبها أراد الإيهام بتصحيح هذه المعادلة بطريقــة فرويديــة ساخرة تلائم ايروتيكية الشرق الساحر في عيون الغرب. من أجل ذلك بنى الطيب صالح في روايته مشهد السودان بطـريقة رائعة، وهو المشهد ذاته الذي دفع «كتشنر» لقيادة الحملة الانكليزية لاحتلاله، وعندما سافر بطله مصطفى سعيد إلى انكلترا، وهي الامبراطورية الغازية، وجد انه يستطيع ان يقارع الغزاة ويهزمهم في عقر دارهم بسلاحه الوحيد الذي يمتلكه ألا، وهي ذكورته التي لا تنضب.
روعة هذه الرواية هي أن هذا الاسلوب في مقارعة العدو يسيطر حتى اليوم على عقول اهل الشرق الذين أرادوا الاستفادة من علم النفس في صراعهم مع أعدائهم، فعكسوا المقولة الشهيرة إلى «العضو الذكري امتداد للمسدس» أو ربما للصاروخ.
لقد صرع مصطفى سعيد الانكليزيات بذكورته انتقاماً لاحتلال اخوتهن للسودان بالتقنيات الحــربية المتطــورة، وإذا أردنا قــراءة أحـداث هذه الأيام بعيون موسم الهجرة، فإننا نجد ان الطيب صالح لم يذهب بعيداً.
روائي سوري
مات مصطفى سعيد
جورج دورليان
مات الطيب صالح في لندن ليحقّق ربما أمنية بطله مصطفى سعيد: «أنا جنوب يحنّ إلى الشمال». هذا الحنين الذي انتهى به إلى الذوبان فيه والموت في أحضانه. فعلى الرغم من تعارضه مع الشمال والتحامه بأرض الجنوب ومصيره بل ومأساته، لم يجد الطيب/مصطفى، في نهاية المطاف، من يفهمه، من يحاوره، من يستوعب خصوصيته، من يلجأ إليه محتمياً سوى الشمال. هذا الشمال الملتبس: شمال النزعة الإنسانية والهيمنة الاستعمارية في آن، الشمال الليبرالي والشمال اللاغي للحضارات ومختصرها في ذاته المتعالية. الشمال الذي أصبح رمزًا للـ«حضارة»، فلا حضارة ولا إنسانية ولا ثقافة خارجه.
ولكن ما الذي جعل من هذا الروائي الآتي من السودان رمزاً للحداثة العربية؟ ما الذي جعل منه أكثر الروائيين قرباً منّا وأكثرهم حضوراً في عالمنا المشرقي؟ فكل شيء عنده مختلف عنا: شرقنا جنوبه، وغربنا شماله. إنه من بلاد السودان، أي من هذا المساحة الموجودة خارج حدود رؤيتنا التي تتوقّف عند تخوم القاهرة ونيلها من ناحية، وبغداد من ناحية أخرى.
على الرغم من بعض الأسماء الكبيرة في الرواية العربية، يبقى اسم الطيب صالح يسطع في سماء الحداثة العربية ملهماً جيلاً من الروائيين الذين أعطوا هذا النوع الأدبي الموقع الذي يستحقّه في المشهد الأدبي المعاصر. وقد اتّسم عمله بالجرأة والدقة: جرأة في معالجة الشأنين اللغوي والنفسي، ودقّة في بناء عالمه الروائي المركّب والمعقّد. ما قرّبه إلينا هو همّه الحداثي، وبحثه عن أشكال مبتكرة في تجديد الكتابة العربية على صعيد السرد، وهذا ما جعله رديف الجهد الذي بذل على صعيد الشعر.
غير أن الحداثة التي كان من روّادها لم تكن بالنسبة إليه معطىً مطلقاً وثابتاً، فقد أخضعها من خلال تجاربه الروائية المختلفة إلى مساءلة دائمة، مساءلة نابعة من صميم تجربتنا وتراثنا، من صميم ثرائنا وفقرنا الثقافيين. هذه المساءلة المتواصلة والمستمرّة للحداثة، لقدراتها وقدرات الطامحين إلى بلوغها، كانت تتطلّب جرأة وحرية لم يتحمّلهما النظام الاجتماعي ـ السياسي ـ الثقافي المسيطر على العالم العربي اليوم، نظام ميّال إلى الثبات وتعميم ثقافة الأجوبة الحاضرة سلفاً. لم يتمكّن الطيب صالح من العيش في جنوب يكره السؤال وآفاقه الخطيرة، فعاد إلى وطنه الثقافي ليموت فيه، عاد إلى حيث كان بطله مصطفى سعيد يحن إليه.
فبالنسبة إلى المبدعين والمثقّفين، لا يزال مسقط الرأس الثقافي هو الشمال لسوء الحظ، فيما الجنوب هو مدفن من لم يعد يملك اسماً ولا سؤالاً ولا تساؤلاً.
الوحيد الذي توقف
خالد خليفة
قد يكون الطيب صالح الروائي العربي الوحيد الذي توقف عن الكتابة منذ ثلاثين عاماً ولم يفقد ألقه. وقد يكون الروائي العربي الوحيد، مع نجيب محفوظ، الذي شهد صراع أعماله مع الزمن والتاريخ، وشهد أعماله «موسم الهجرة إلى الشمال» وسواها تربح معركتها بهدوء وتؤدة، وما يثيرني في تجربة الروائي السوداني العظيم هذه البساطة التي تناول فيها بيئته وبلده السودان، وجعل منها بطلاً ومكاناً نابضاً بالحياة. لم يجرؤ كاتب عربي واحد أن يتوقف عن الكتابة سواه، ولم يتعلم منه الكتاب العرب الكبار الذين يكررون ذاتهم وكتاباتهم مرة تلو المرة.

روائي سوري
أهم من كتب عن الأنهار
حجاج ادول
يوم حزنه ثقيل، يوم وفاة إنسان يجــمع بين ســمو الخُلق وعمق المعارف وسطوع الإبداع. فقط رأيته مرات وصافحته. في محافل ثقافية أخذت انظر إليه من بعيد أتابعه باعــجاب وتوقــير. لم املك الشجاعة مرة فأحاول مجالسته. الطيب صالح، من أعمق الأدباء كيــفا رغم محدودية الكم. من أكثر الأدباء انتــشارا رغم اعــتذاراته عن التــواجد في التجمعات الثقافية العديدة. ولا أقول انه أهم من كتب عن النيل العفي في الجنوب، بل أقول انه أهم من كتب عن الأنهار المتدفــقة في العالم. الكثير من المشاهير في بلادنا المتخــلفة، نالوا شهرتهــم بناء على جوانب لا تمت للأدب بصلة، فتكون مشاهدتهم مقرفة تدفع الفرد للشراسة ضدهم، أما أمثال الطيب صالح رحمه الله، فهو نال جزءا بسيطا من حقه، ونال ما نال بناء على موهبة ساطعة وخُلق قويم. لنتــصور أن الطيب صالح كان في الجنوب الأميركي مثلا وكتب عنه، لنتخيل كم التواجد العالمي في هذه الحالة؟ عندنا.. المبدعون المطبوعون حقا، تخــذلهم أوطانهم المتخلفة، وفي العالم المتقدم، المبدعون على حرف، ترفعهم بلادهم المتقدمة.
وأنا في حالات الكتابة عن النوبة الأصلية بنيلها الأسطوري، أمر بخيالي على التلال الكهرمانية والزراعات الخضراء والنخيل متصاعد من بينها، أمر على البيوت المتحفية عصرا، فأرى الطيب صالح بجلبابه وعمامته، يجلس على مصطبة مع مجموعة المزارعين الذين كتب عنهم كثيرا. يتحاورون ويتشاكسون ويتصاعدون بأفكار عملية لاصلاح حال القرية. وفي الأمسيات أجده بالجلباب الأبيض الخفيف على الرمال مع نفس المجموعة وقد انـضم إليهم مصطفى سعيد وعُرس الزين وغيرهما، يضحكون ويرفهون عن أنفسهم. ألقي السلام فيجيبني بلطفه لكن يترك مصطفى سعيد ينظر لي نظرة مـاكرة تــقول.. مهما كتبت عن نيل البلاد، فلن تصل لتيارات الطـيب صالح. فأكتب وأجوّد قدر استطاعتي لاتجاوز هذا العملاق الطيب في معاملاته والشرس في دمدمة موهبته، لكن هيهات فهو من هو.. الطيب صالح. الإنسان الذي مر على الدنيا وذهب بجسده، وترك لنا غابة نخيل على النيل، لنستمتع بطيبات الطيب ونذكر الصالح بكل خير.
روائي مصري
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى