الطيّب صالح (1929 ــ 2009): «زوربا السـوداني»… وداعاً!
مات في الشمال الذي «هاجر إليه» مثل بطله مصطفى سعيد. لكن موسم هجرته هو، طال حتى صار حياةً بأكملها. «طيّبنا الصالح» كما يسمّيه الناس في السودان، حيث منع عمله الأشهر خلال العقد الماضي، رحل في الثمانين، تاركاً ثلاث روايات ومجموعة قصصيّة يتيمة… وعدداً كبيراً من المقالات الصحافيّة والأدبيّة. الأدب العربي فقد بالأمس أحد أشهر رموزه في القرن العشرين
محمد شعير
بين ولادته منذ 80 عاماً في قرية كرمكول (إقليم مروى، شمالي السودان) حتى رحيله أمس في لندن، كتبَ الروائي السوداني الطيب صالح واحدة من أعظم الروايات العربيّة على الإطلاق… إنها سيرة حياة لم تتح لكثيرين: حبّ وترحال، معارك صاخبة، وصمت، سخرية من الواقع والأشياء، بل أحياناً من الذات، حتى ملأ الدنيا وشغل الناس مثل شاعره المفضل أبو الطيب المتنبي!
لم يحلم الطيب صالح بأن يكون أديباً، بل خطّط في طفولته لأن يعمل في الزراعة، لكنّه اكتشف أنّ ذلك «مجرد حلم رومانسي»، فهو لا يصلح لشيء سوى الكتابة. روائي من نوع خاص، ظلم الأدب العربي بكسله الشديد، مكتفياً بمجموعة قصصية يتيمة «دومة ود حامد»، وثلاث روايات: «عرس الزين»، و«بندر شاه» في جزءين: «ضو البيت» و«مريود» وطبعاً «موسم الهجرة إلى الشمال»، روايته الأكثر تأثيراً في الأدب العربي، والأشهر ــــ في العالم كلّه ــــ بين نتاجات الأدب العربي المعاصر. وقد جعله هذا الكسل مثاراً للوم المقربين منه، حتّى إنّهم كانوا ينادونه في ما بينهم بـ«زوربا السوداني» لأنّه اختار أن يعيش الحياة، لا أن يكتبها. منذ صدورها عن «دار العودة» في بيروت عام 1966، غطت شهرتها على أعماله الأخرى التي تلتها. حتى إنّه كرهها في سنواته الأخيرة، وكره مجرد الحديث عنها. تماماً مثلما غطّت شهرته هو على كتّاب السودان الآخرين، فلا يذكر هذا البلد إلا مقروناً بالطيب صالح.
لم تغب كرمكول عن ذهن الطيب. كانت تطارده أينما ذهب، يتذكّرها في صيف لندن عندما يتساقط المطر. في شبابه، انتقل لدراسة العلوم في جامعة الخرطوم، وبعدها سافر إلى إنكلترا ليواصل دراسته، ولكن في مجال آخر هو الشؤون الدولية.
بعد تخرّجه، تنقّل في مهن مختلفة: فترة قصيرة مدرّساً، ثم في القسم العربي لـ«هيئة الإذاعة البريطانية»، حيث ترقّى حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. بعد استقالته من «بي بي سي»، عاد إلى السودان وعمل فترةً في الإذاعة السودانية، ثم هاجر إلى قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. عمل لاحقاً مديراً إقليمياً في منظمة الأونيسكو في باريس وممثّلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي. حالة الترحال والتنقّل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبته خبرة واسعةً بأحوال الحياة والعالم، وأهمّ من ذلك أحوال أمته وقضاياها… وهو ما وظّفه في كتاباته وأعماله الروائية خصوصاً «موسم الهجرة إلى الشمال» التي كتبها في أوروبا، بين 1962 و1966، وذلك بعد محاولات عدة لكتابة الشعر.
مصطفى سعيد بطل الرواية أصبح من أشهر شخصيات الأدب العربي، شرقي نابغ يبحث عن ذاته في الغرب، يرفع شعار «جئتكم غازياً» وينتقم من غزاته بالجنس، حتى يقتل عشيقته جين موريس ويُحكم عليه بالسجن. لدى صدورها، ألقت الرواية حجراً في بركة راكدة، وعدّها ناقد مثل إدوارد سعيد أساساً لكتابه الهامّ في ما بعد «الاستشراق».
رأى بعضهم أنّ ثمة ملامح بين شخصية مصطفى سعيد والطيّب نفسه، لكنّه كان حريصاً طول الوقت على أن ينفي العلاقة. صحيح، كما يؤكد، «يمكن بعض الشخصيات أن يكون لها جذور في الواقع. وأنا كما أقول دائماً، أترك الواقع يتحول إلى حلم… أنسى حتى لو كان هناك شيء حقيقي قد حدث، أنسى مصدره فيتحوّل في الخيال إلى حلم ويخرج هكذا». وعندما نسأله: هل عشقت يوما إنكليزية؟ يجيب: «عشقتُ… لكنّها كانت اسكتلندية، تزوّجتها ولم أقتلها!».
لكن منذ سنوات فى إحدى ندوات الجامعة الأردنية، كشف الطيب سرّه الدفين: «جين موريس شخصية حقيقية لكنها ليست هي نفسها في الرواية. تعرفت عليها في الشهر الأول من وصولي إلى لندن عام 1953 في المتحف الوطني. جذابة حقاً. كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي… تحدثنا وسألتني من أين أنا… وكنت في ذلك الحين فتى يافعاً، لا بد من أن تعترفوا بذلك… خرجنا من المعرض وذهبنا إلى مقهى وأمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة، وبعد ذلك لم أرها قط، واسم الفتاة جين موريس، وقد أحببت ذلك الاسم. ومن ذلك اللقاء علق اسمها في ذاكرتي وأدخلته الرواية: الاسم وبعض الأمور الأخرى التي يعلم بها الله».
اختزال النقّاد له في هذه الرواية أصابه بالضيق الشديد. عندما سألناه منذ سنوات في القاهرة عن مسألة توقفه عن الأدب، احتدّ قليلاً: «لستُ حقلاً بوراً كما يتصوّرني النقاد». وبالفعل، إذ لم يتوقف صاحب «مريود» مطلقاً عن الكتابة. حاول في مقالاته الصحافية أن يجرّب أنماطاً جديدة من تجارب مختلفة: كتب في الرحلات وعن أشخاص التقاهم واقترب منهم مثل صديقه «المنسي» الذي عمل معه في إذاعة لندن. كذلك لم يلتفت كثيرون أيضاً إلى ما ترجمه الطيب من أعمال مثل كتاب «الاستعمار في الكونغو» التي اشتراها ملك بلجيكا، وأصبحت ملكه الخاص ولم تكن مستعمرة بالمعنى المتعارف عليه. كذلك ترجم أيضاً كتاب الفيلسوفة الشهيرة حنّة إرندت «أيخمان في القدس» وهي أعمال ربما منعه كسله، ورغبته في التجويد، من أن ينشرها في كتب.
ويبقى العنصر الثابت في كتابة الطيب صالح هو المكان، القرية التي ولد فيها بتحولاتها. كان يعتبر الكاتب مثل عالم الآثار: «نعيش على سطح آلاف السنين من التجارب الإنسانية». لذا مهمته أن يحفر في الأرض بحثاً عن أشياء مختلفة: قطعة في إناء، وعاء، وأشياء أخرى كثيرة… الكاتب مهمته أن يضع هذه الأشياء بعضها في جوار البعض الآخر، كي يرى ماذا سينتج. وفي «بندرشاه» التي أصدر منها جزءين وكان يتمنّى لو أنها وصلت إلى خمسة أجزاء، حاول أن يتقصى العلاقة بين المدينة (البندر) والحكم (الشاه)، لأنّ مشكلة المجتمعات العربية من وجهة نظرة تكمن في كيفية الحكّم في المدينة: كيف تحكم المدينة وعلاقة الحاكم بالمحكومين.
ظلت رواياته ممنوعة في الكثير من الدول العربية، ليس فقط لجرأتها، بل أيضاً لما تناولته من قضايا عن علاقات الحكم الملتبسة. وقد ظل ممنوعاً من دخول السودان لفترات طويلة، حتى صرّح منذ وقت قريب قائلاً: «كرهت السلطة في السودان منذ هذا العهد الأخير. كرهتها من حيث المبدأ لأنّني لا أحبّ النظم الدكتاتورية العسكرية، فكتبت عنها في البدايات. والحقيقة أنّني كتبت عنها وأنا بعيد عن السودان، أيّ إنني لم أقم بدور بطولي. وهم بادلوني الكراهية وهذا شيء طبيعي». أمس عندما رحل الطيب صالح، تذكّرت السلطة أنّها لديها كاتباً كبيراً مثله، وطلبت أن يدفن في السودان، وهو ما رفضته أسرته. ولم يُتَّفَق على شيء حتى لحظة كتابة هذه السطور: هل يعود الطيب إلى بلده ليُدفَن على ضفاف النيل، أم يبقى في«الشمال»، في المكان الذي عشقه ووهبه النذر الأكبر من حياته؟