كلّنا في الهمّ مصطفى سعيد
خليل صويلح
لعنة «موسم الهجرة إلى الشمال» لم تتوقّف إلى اليوم، كأنّ الروائي يكتب تميمةً واحدةً، كي تحميه من الزوال، ثم يطمئن إلى منجزه اللاحق. لعل هذه اللعنة أصابت الطيب صالح أكثر من غيره. ذلك أنّ رواياته الأخرى لم تتجاوز نصّه هذا على أهميتها. بطل روايته مصطفى سعيد بات اليوم رمزاً للعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب. والمثير أنّ هذه الصورة لم تتغيّر كثيراً، بل ازدادت حضوراً في المخيال الروائي والنقدي العربيين، ففي المحصلة كلّنا في الهمّ مصطفى سعيد على تعدد أطيافنا ونظرتنا إلى الآخر.
صحيح أن الطيب صالح صمت باكراً، لكنّ هذا النص الاستثنائي سيبقى في واجهة المكتبة الروائية العربية بوصفه وشماً لا يُُمحى من الذاكرة.
هذه اللعنة أصابت كتّاب الرواية السودانيين أنفسهم، فهم شبه مجهولين، بعدما هيمنت هذه الرواية على ما عداها. ربما أنّ توقيت صدور الرواية (1966)، وضعها فوق رفّ خاص في المكتبة، بالإضافة إلى منعها في معظم العواصم العربية بسبب إيروتيكيتها الخشنة. لا شك في أنّ هذه الرواية تستحق أهمية خاصة، باعتبارها أول مادة خام عن الجنوب، هذا الجنوب المنسي والمجهول بكل طقوسه وخصوصيته وتقاليده، ثم إنّها من ضفة أخرى مسبار شرقي لسرد مضاد للثقافة للكولونيالية، وهذا ما جعل «موسم الهجرة إلى الشمال» إحدى مرجعيات إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» كمعادل لنص استعماري هو «قلب الظلام» لجوزيف كونراد.
لكن أين خصوصية الطيب صالح في تأصيل رواية عربية؟ لعل اعتماده طرائق السرد الشعبي وتشبعه للفولكلور المحلّي، هما من سمات اشتغالاته الروائية، كما في «بندر شاه» على نحو خاص، فهي بشكلٍ ما «ماكوندو» أخرى موازية لصنيع غابرييل غارسيا ماركيز في «مئة عام من العزلة»، بخلاف المكان والبيئة. ذلك أنّ تأكيده المحليّة أضفى على نصوصه نكهةً خاصةً وتوابل حرّيفة في كشف المستور، من دون إهمال مخزون ثقافي متراكم أتى من ثقافته الانكلوسكسونية. في «موسم الهجرة إلى الشمال»، تحضر ثنائيات لغويّة ومعرفيّة تنطوي على تضاد لوني صارخ يعتمد ثراء الأبيض والأسود، والظل والنور، في علاقة الشخصيات بعضها ببعض من جهة، وعلاقتها بجغرافيا سحرية وأسطورية من جهة ثانية. «عرس الزين» مثال حيوي وصادم على اشتباك السرد مع الواقعية السحرية في تجلياتها المحلّية الخالصة، واستنفار الحواس في الوصف والكشف والاختفاء.
الرائحة نفّاذة في حفريات الطيب صالح وهو يجوس عميقاً في فضح «صحراء الظمأ ومتاهة الرغائب الجنونية». المناخ الحلمي إذاً هو الوجه الآخر لما هو أسطوري، فيما ترتبك اللحظة الواقعية وتهتزّ وسط هذه المتاهة، في بحثٍ محموم عن ذات قلقة وضائعة ومرتبكة، ما انفكت تستنفر حواسها لتضيء أسباب العتمة والغياب والتيه.
يجد مصطفى سعيد نفسه أو أناه الضائعة، حين يلتقي إيزابيلا سيمور في علاقة غرامية، تتجاوز الشبق الشرقي إلى طمأنينة جذور بعيدة، تعيدها إلى لحظة فارقة. إذ يتخيّل أنّها حفيدة لجدّة أندلسية التقاها جدّه الجندي في جيش طارق بن زياد في أشبيلية، قبل أن يعود إلى بلاده. وفي مكانٍ آخر، يتحوّل إلى عطيل يقتل إحدى عشيقاته بسبب غيرته من جهة، وشذوذها المرَضي من جهة ثانية.
شكسبير ليس عابراً في نص الطيب صالح، بل هو مادة أساسية في ثقافة مصطفى سعيد. وفي المقلب الآخر يحضر أبو نواس كنصٍ شرقي موازٍ، وربما مضاد في تمثلات هذا الشرقي الحائر والمستبد لثقافة الآخر. هكذا يعود مصطفى سعيد أخيراً إلى مسقط رأسه، ليعيش حياةً مزدوجة، تنتهي بالموت أو الانتحار في نهر النيل. لعلّها لحظة تطهرية من آثام الغرب أو إعادة كتابة لتاريخ يبدأ من الصفر، ونظرة نوستاليجية لمكان وبيئة ونمط عيش من منظور مختلف يضع في الاعتبار الرائحة الأولى بوصلةً للحواس الأخرى.
سيرة
صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» التي اختيرت ضمن أفضل مئة رواية في التاريخ الإنساني، رحل أمس عن ثمانين عاماً في أحد مستشفيات لندن. إنّه الطيب صالح الذي وُلد في قرية كرمكول شمال السودان عام 1929. بعد دراسة في جامعة الخرطوم، غادر إلى بريطانيا في 1953 لمواصلة تحصيله الجامعي. وعمل في «هيئة الإذاعة البريطانية»، فصار مديراً لقسم الدراما. وعمل في وزارة الإعلام القطريّة، ثم مديراً إقليمياً في منظمة الأونيسكو.
يدين بشهرته لـ «موسم الهجرة إلى الشمال» التي بدأها خلال إجازة في الجنوب الفرنسي عام 1962، وانقطع عنها 4 سنوات، ثم أنجزها لتنشر في مجلّة «حوار» (1966). وأعيد نشرها في بيروت (دار العودة) والقاهرة (سلسلة «الهلال»). تتناول الرواية صراع الشرق والغرب، من خلال شخصيّة مصطفى سعيد أول مبعوث سوداني إلى لندن، يصبح محاضراً في العلوم الاقتصاديّة. ويبيع الأوهام اللذيذة عن الحياة على ضفاف النيل، مثبتاً فحولته مع نساء البلد الذي استعمره. ورغم الاحتفاء بروايته عربياً وعالمياً، فقد مُنع تداولها في السودان خلال تسعينيات القرن الماضي.
لم يكتب الطيّب صالح سوى ثلاث روايات هي «عرس الزين» (1964) التي نقلها المخرج الكويتي خالد الصدّيق إلى الشاشة (1977)، و«موسم الهجرة إلى الشمال»، و«بندر شاه» في جزءين: «ضو البيت» و«مريود» (1987)، إضافة إلى مجموعة قصصيّة «دومة ود حامد» (1984)، ومقالات صحافيّة نشرها «رياض الريّس» في خمسة أجزاء (2005). صدرت عن الطيّب صالح دراسات وكتب نقدية عدة، بينها «الطيب صالح عبقري الرواية العربية» (دار العودة) شارك فيه مجموعة نقاد بينهم محيي الدين صبحي ورجاء النقّاش وعلي الراعي… وخصّه أحمد بدوي بكتاب «الطيّب صالح، سيرة كاتب ونصّ» (الدار الثقافيّة للنشر، القاهرة). فاز في 2005 بجائزة «ملتقى القاهرة الثالث للإبداع الروائي». ورشّح مراراً لـ «نوبل» التي شبّهها بلعبة «يا ناصيب»
عدد الخميس ١٩ شباط ٢٠٠٩