الرجل الذي فضّل الحياة على الكتابة
نجوان درويش
مع الروائي البرازيلي خورخي أمادو في أصيلة 1991مع الروائي البرازيلي خورخي أمادو في أصيلة 1991 يثير رحيل الطيّب صالح جملةً من الأسئلة والتداعيات، بعضها متعلّق بموضوعات أثارتها أعماله القليلة وبقيت راهنة، كالاستعمار، والمواجهة بين الجنوب والشمال، وتخبّط «المثقف العالمثالثي» بينهما (موسم الهجرة إلى الشمال) وصولاً إلى تداعيات جانبية ـــــ نراها أساسية ـــــ عن فهم الطيب صالح لعلاقته مع الكتابة، وتفسير إنتاجه المتقطع القليل قياساً بسنوات عمره المديدة التي بلغت الثمانين.
إذا شئنا الصرامة، بمعزل عن ذيوع صيت «موسم الهجرة» منذ صدورها عام 1966، وما حققته من «شهرة عالمية» لصاحبها، يبدو الطيب صالح كاتباً هاوياً إلى حد بعيد، ورجلاً فضّل الحياة على الكتابة كما يقول في لقاءاته الصحافية، وحسم جدل ثنائية الحياة والكتابة لمصلحة الحياة والاستمتاع بها. وهو ما كان يردّ به على محاوريه الذين يثيرون معه مسألة انصرافه الطويل عن الكتابة وقلة إنتاجه. «بعض الناس يشعرون بأنّ قدرهم أن يكتبوا، وهؤلاء يضحون بأي شيء في سبيل الكتابة، أنا لا أريد أن أضحّي… إنني لا أكتب ليس لأنه ليس لديّ ما أود أن أقوله، بل لأنني لا أريد أن أستسلم تماماً لساحرات معبد الفن الشريرات». وفي حوار آخر: «لا أعتبر الكتابة موضوع حياة أو موت. نحن في هذا العالم لا لكي نصنع عوالم وهميّة فوق ورق أبيض».
تبدو ردود الطيب صالح دفاعاً يحجب وراءه أنّ الحياة الوظيفية الطويلة لموظف الـ«بي بي سي» ووزارة الإعلام القطرية ومبعوث الأونيسكو إلى الخليج قد امتصّت، مع حياته الاجتماعيّة، طاقة إبداعه وحوّلته إلى كاتب سابق في حياته، محصّناً بسمعته الأدبية، والاهتمام الذي حظيت به «موسم الهجرة..»
لم يمتهن الكتابة ولم يكرّس لها حياته. وبقليل من المغامرة يمكننا القول إنّه لم يكن روائياً بالمعنى الكامل للكلمة. تلك الكلمة التي يمكن أن تقال باطمئنان عن ماركيز وحتى عن نجيب محفوظ وتلك السلالة من الروائيين الذين كرّسوا حيواتهم للكتابة الروائية متحمّلين مسؤوليتهم ككتّاب تجاه النوع الأدبي. ولعلنا نثير هذه النقطة عند الطيب صالح لأنّها تنسحب على عشرات وربما مئات الروائيين والكتّاب والشعراء العرب الذين يتصورون أنّ الكتابة ممكنة بوصفها ملحقاً لحياة الكاتب وشاغلاً ضمن مشاغل أخرى.
بعيداً عن ذلك، يبدو الطيب صالح الآن شجرة أبنوس تعود إلى أرضها، نتعلّم من حياتها الطويلة بين الحركة والسكون، نتحدث عنها بثقة مفرطة، كأنّنا لا نقف تحت أغصانها!