سيدي الطيب.. ذاكرة السودان المتنقلة
محمد بن عيسى
عرفت الطيب صالح – كأغلبية الناس – من خلال قراءتي لرواياته وكتاباته، عرفته حينئذ معرفة البعيد القريب. كان بالنسبة إليّ أكبر بطل بين أبطال رواياته، وتخيلته كما يتخيل القراء أبطالهم يلتقون في الخصوصية الكبرى ويختلفون في تخيلاتهم للصفات الأخرى، وأعجبت به.
وفي عام 1978، مع ولادة أول موسم ثقافي في أصيلة، كانت ولادة صداقتي مع الطيب صالح، سمعت أنه كان مقيما في الدوحة مسؤولا كبيرا في وزارة الإعلام القطرية، وكنت أيامها أقوم باستشارية في منطقة الخليج لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فقررت أن أعرج على الدوحة، وأن أمضي بها ليلة واحدة لألتقي بالطيب صالح. ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي. التقينا في فندق الخليج، واجتمعنا مدة لا تتجاوز الساعة. تحدثنا بعضنا إلى بعض، وشغف بعضنا ببعض، تكاشفنا، واستحلينا اللقاء والموضوع والحديث.
وتكررت لقاءاتنا بعد ذلك، وتجدرت علاقتنا إلى أن قدم طيب صالح مع أسرته لحضور موسم أصيلة الثقافي الثالث عام 1980، في ذلك الموسم تأسس المنتدى العربي الإفريقي (منتدى أصيلة) وأصبح الطيب صالح عضوا مؤسسا للمنتدى.
كانت إقامة الطيب صالح في أصيلة غير مريحة على الإطلاق، وعجبت، وما زالت، كيف كان الطيب صالح صبورا ووقورا وبشوشا دائما، يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته.
أقام الطيب مع زوجته وبناته الثلاث ضيفا على الموسم ببيت لا يصله الماء كل يوم إلا ساعة واحدة، ولم يكن بالبيت حتى الضروري من المتطلبات المنزلية، ولم أكتشف ذلك إلا قبيل مغادرة الطيب مطار طنجة إلى لندن.
في أصيلة صلى الطيب صلاة العيد مع سكان المدينة بالمصلى في الهواء الطلق، كان جميلا بعمامته البيضاء وجلابيته وقامته التي دخلت المصلى وخرجت منه في حشمة وتواضع ملحوظين.
أحب الطيب صالح أصيلة، قال لي إن حواري المدينة وصبيانها وهم يلعبون في الأزقة ودكاكينها الصغيرة ووتيرة الحياة اليومية بها، في السوق والمقهى والممشى الطويل، كل ذلك كان يذكره بصباه في بلدة الدبة في مروي شمال السودان حيث ولد وترعرع.
كانت أصيلة حين زارها الطيب في بداية صحوتها التنموية تنفض عنها رواسب سنين من الإهمال والتردي.
ومرت بضع سنوات لم يعد بعدها الطيب صالح إلى أصيلة. كنت كلما التقيت به بعد ذلك في الدوحة أو باريس أو لندن أو الرياض أو تونس، أكرر له العذر، وألتمس منه السماح على ما تكبده من معاناة مع أولاده في تلك السفرة الأولى إلى أصيلة. وكان كل مرة يقول لي: «كيف تعتذر لي يا رجل وقد استرجعت صباي في أصيلة؟».
تركت صلاة العيد في نفس الطيب صالح أثرا كبيرا، كانت محطة مهمة في موسم هجرته الأخرى إلى الجنوب، صلى مع الناس البسطاء.. مع الصيادين والتجار الصغار، والخضارين والعجزة من المتقاعدين الهاربة عنهم الحياة، وصلى الطيب للناس جميعهم. الطيب صالح يحب الناس ويحبونه، رهافة أحاسيسه ورقة تعامله مع نفسه ومع الناس، مصدر قوته ومرتع متعته بالحياة وبالناس.
تقاسمت مع الطيب أحاسيسه وانشغالاته وبعضا من معاناته. وهو كل كامل، يقاسمك كل أحاسيسه أو لا شيء. لا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم. وهو كل كامل لا ينافق ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته، دؤوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته. كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة والتقشف ونكران الذات. وليّ صالح حتى دون عمامته.
حكاية الطيب صالح عن أيام مناسك الحج في مكة المكرمة، وزيارته بالدموع والخشوع والتسليم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم. حكاية الشاعر والمؤمن والصوفي بسباته مرفوعة دائما لتوحيد الله. ومنذ حجته هذه غرق الطيب صالح في بحر الوحدانية كما يقول شيخه أبو الحسن الشاذلي، ينام وبجانبه كل ليلة آلة تسجيل تدير أشرطة القرآن الكريم.
والطيب صالح رمز الاعتدال في كل شيء، في أفكاره السياسية ومواقفه العلمية والأدبية، وأحكامه على القادة والزعماء والمفكرين والعلماء والمبدعين.
اسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين. أجالسه كلما التقيت به مجالسة المتعبدين، نتحدث عن أنفسنا في حميمية ولطف وحنان.
الطيب صالح لطيف حنون تشعر به وهو يحدثك عن نفسه كما لو كان في كل مقطع من كلامه يذيب جزءا من نفسه، وبخاصة حينما يحدثك عن حبه وشغفه بما هو عربي ومسلم وسوداني.
معاناته من الغربة بارزة في كل أحاديثه الحميمية.
سيدي الطيب، هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز.
سيدي الطيب، يتحدث معك عن أي شيء إلا عن نفسه وعن أعماله، ويتحدث معي عن كل شيء بما في ذلك نفسه وأعماله.
كان آخر حديثنا حميميا مؤثرا، التقينا مرتين في الأشهر الأخيرة في واشنطن، وكتب لي الطيب بعد عودته إلى لندن سطورا في منتهى اللطف والألم المكبوت، عن نفسه وعن قلبه وعني وعنه.
وتحدثنا مرات بالتليفون بين واشنطن ولندن للتحضير لحفل تكريمه في أصيلة، شيء لا يصدق؛ في كل مناسبة شعرت بأن الطيب صالح كان يتهرب في عفوية الطفل وامتعاض العذراء لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل.
هكذا هو سيدي الطيب.. الحشوم الوقور المتواضع المتقشف البسيط.. الإنسان المسالم بقلبه ووجدانه وعقله وتصرفاته..وقلمه.
وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضا مما أعطى للعرب أولا، وللفكر والإبداع العالميين ثانيا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح.. الصالح.
* أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة
في كلمة بمناسبة تكريم الطيب صالح بأصيلة
يومي 13 و14 أغسطس 1994
الشرق الأوسط