رحيل آخر الثلاثة
ساطع نور الدين
ليس هناك شعور بالفاجعة لفقد الراحل الكبير الطيب صالح، لا في السودان ولا في أي بلد عربي، ولا حتى في أي بلد أجنبي ترجم وقرأ روايته الرائعة «موسم الهجرة الى الشمال»، أو غيرها من أعماله الروائية النادرة. في رثائه لم يطرح أحد السؤال عن سبب انقطاع ذلك الروائي المبدع عن الكتابة طوال العقود الثلاثة الماضية. اكتفى البعض بالإحالة الى روائيين عالميين كبار خلدوا برواية واحدة لم يكتبوا سواها.
لم يتطرق أحد الى احتمالات أخرى، ليس بينها نضوب الإبداع. ولم يشتبه أحد في أن التوقف عن الكتابة الأدبية كان بقرار واع اتخذه الروائي السوداني الفذ، الذي كان أدبه، لا سيما ترحاله بين الشمال والجنوب، ثم عودته الى جذوره وانعزاله عندها، نتاج موجة ثقافية وفكرية وسياسية عربية بلغت ذروتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم تلاشت تدريجياً لتحل محلها موجة بديلة، لا تزال مستمرة حتى اليوم.
إعلان وفاة الطيب صالح بدا أشبه باستعادة لتلك الحقبة من التاريخ السوداني والعربي العام. كان بمثابة تذكير بأن ذلك البلد الواقع على التخوم الأفريقية للعالم العربي ليس مجرد أرض ملعونة بحروب أهلية لا تنتهي، ومحكومة بأسوأ أشكال الإسلام السياسي، الذي عطل تطوير وتحديث ذلك البلد الغني بإمكاناته البشرية غير المستثمرة وثرواته الطبيعية غير المكتشفة. كان خبر الرحيل مثل نعي متأخر لتلك الهوية الوطنية والعربية التي بلورها الأديب الكبير وأمدّها بزخم هائل.
لعل الطيب صالح غادر القلم عندما شعر بأن تلك الموجة كانت قد شارفت على نهايتها. لم يكن يريد أن يشارك في مراسم الدفن. اكتفى بسجاله الأدبي الأول والأهم على الإطلاق في تاريخ الرواية العربية مع الغرب، وليبراليته وثقافته الاستعمارية، واطمأن الى أنه استحق لنفسه ولبلده موقعاً يوازي الموقع الذي احتله في الفترة نفسها بالتحديد الروائيان اللامعان اللذان سبقاه الى الرحيل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، بعدما أديا دورهما كاملا في ذلك السجال، كل على طريقته، ومن حيزه الخاص.. وانتهى بهما الأمر الى التسليم بأن مخيلة العرب الروائية تتجه نحو الجفاف والتصحر.
لكن هم الراحلين الثلاثة الكبار لم يكن مقتصراً على مقارعة الغرب وحده. كانوا يجادلون أيضا الموروث الديني الذي سمح للمستعمر الغربي بأن يسود العرب والمسلمين قروناً طويلة. وبلغ الأمر بأحدهم حد تحطيم الوثنية الإسلامية، التي ما إن رآها الطيب زاحفة على السودان حتى انطوى على نفسه وطلب الإذن بالامتناع عن الكتابة الى الأبد، مكتفياً برسالة الوداع التي خطها قبل أربعين عاما.. تاركا لمصر وحدها مهمة متابعة الرحلة مع جيل جديد من الأدباء البارزين اليوم، والمهددين كل يوم بالتكفير.
لم يكن توقف الطيب صالح عن الكتابة عرضاً أو ترفاً. كان السودان يهوي في الظلمات، وكانت الأمة العربية تغرق في الفوضى. لم يبق لذلك الجيل الذي جادل الغرب وغلبه بالثقافة وحدها.. ما يكتبه لأجيال التحريم.
السفير