تركنا الطيب صالح شجرة السودان
محمد زكريا السقال
الخبر الذي جاء برحيل القامة الروائية العربية الطيب صالح ، خبر تتحدد مأساته وكارثيته بالكثير من المعاني، أولها أن نفقد في هذا العام الكثير من النخب العربية ورواد النهضة والتنوير، من رحيل المفكر والباحث المناضل محمود أمين العالم الذي أغنى وأثرى المكتبة والفكر العربي بأبحاثه ومؤلفاته، إلى رحيل عبد العظيم أنيس الذي وسع من دائرة الجهد والبحث في الفكر العربي، واليوم نفقد شجرة الرواية العربية، الطيب صالح، وتعبير شجرة أجده من الصفات التي تلبس الطيب الذي أينع وأثمر في سياق المشروع التنموي التنويري الحلم، المشروع الحلم لأنه لم يتحقق، والطيب صالح واحد ممن كرسوا جهدهم وعملهم لهذه النهضة التي سترفع من سوية الأنسان كقيمة عليا تنشد الحرية والعدالة والهواء النظيف بمعنى الحياة التي تنموا لتنتج وتبدع وتعمر وتبني لتشكل الحضارة وتشيد ثقافة الحياة، أخفق المشروع وأصبحت كل القيم التي انتمى إليها الطيب قضايا خاسرة، انقلبت الأوضاع وفرت أحلامنا وهربت الأماني، لم يعد في مجتمعاتنا روابط وامن واستقرار، هجمت الردة محمية ومسلحة، مزقت قرى الأوطان، وضاعت عروة التماسك الأجتماعي ولم يعد لمساحة الوطن حدود لتعدد الحواجز، نفرت اللغة واستوحشت، لتنقلب لرصاص وقتال وفرق ومجموعات، وساد خطاب الردة والفرق والتكفير.
هذه الأجواء، وهذا المناخ لايساعد ولا يمد شجرة كالطيب صالح بالحياة والتدفق، لم تعد التربة الطيبة التي أنتجت شخصيات الحلم السوداني في أدب الطيب، الشخصيات العفوية والطيبة، الشخصيات انقلبت وتحولت لشياطين ملثمة ومعصوبة وترطن بلغة لا تحمل غير الموت والأنتحار، والأستبداد سلطان الموقف يدور ويعربد ثملا بأوهامه وتخيلاته، لم يعد الفقر والتخلف سمة محسوسة لمجتمع مترابط، ولم يعد سرقة الجهد واستغلال العمل احساس مشترك، وصار هناك شمال وجنوب وديانات ومذاهب، وقبائل ومناطق، وأشباح تتنافر تتطاول سكاكينها لجز الوطن وتقسيم أحشائه.
يلتزم الطيب المنفى، المنفى بكل صقيعه وبرده ويذوي ويذبل، وأوراقه تتهاوى كلما أوغل الوطن الملهم في الغي، وتطاول في الأستبداد، المصالحات التي تمت وعاد بها رعيل كثير كانت تقاسم ونهش ومحاصصات، لا تعيد للزين عرسا و لا تشيع الدفئ الذي تحشده دومة واد حامد، والقرية العامرة بالحب وممارسة طقس انسانيتها بالهواء الطلق، أصبحت لا تعرف غير الرجم وحد السيف.
يموت الطيب ولا تفلح يراعه بهذا الصقيع بشيئ ، كتاب، مختارات،، ذي التسعة أجزاء، هذا الكتاب يشكل حالة قطع بأبداع الطيب صالح، كتاب يحدد مرحلة جديدة وباردة في حياة هذه الشجرة اليانعة الثمر، فقد كان متعدد الأسلوب والأتجاهات والألوان، حيث تداخلت ما بين السيرة الذاتية، والخواطر والسرد الصحفي، إلا أنه يبقى عمل يحدد نكهة ومذاق خاص، ولكنه لا يتطاول لإعماله الأولى، وهو ما نلحظه ونحسه حالة من الجفاف والموات والذبول اعترى الطيب، ونحن بدورنا نعتذر من محبيه ومريديه حيث أعطينا أنفسنا حق الأجتهاد والتعليل لهذا السياق الذي اعترى الكاتب وتوقفه عن الخصب والأنتاج بالأبداع الذي أطل علينا به.
كتاب محتارات الذي بدأه الطيب .. بالمنسي،، هو مقدمة للحياة التي غمرت السودان، حياة الحلبسة على حد تعبير بطله الذي عبر عن النموذج السائد، نموذج الشخصية القادرة على تقمص كل الأدوار وتعتلي كل المنصات وتتلون بالكثير من الألوان ولكنها تفشل في التعبير عن ذاتها وروحها كجوهر ذات ميز وخصائص، شخصية ضائعة وتعيش على كل الموائد، ولكنها بالنهاية فاشلة لا تنتج سوى الحلبسة والتدليس.
لتبقى الأجزاء الباقية تتداعى السودان وتستحضره كذكريات وحلم وآمال متخيلة ومطاردة ومشتهاة، يدخل بينها جزء،، في صحبة المتنبي، الذي يفتن أديبنا ويتماهى به، وهو المتنبي شاغل الدنيا ومؤرقها ولكنه لدى الطيب صالح نموذج وقدوة للطموح ومطاردة القمم.
رحل الطيب صالح، رحل الرجل الذي أدخل السودان إلى قلوبنا، وقرب هذا الشعب الطيب منا، لم يخدعنا الطيب برسم الشخصية السودانية، طيبتها وعفويتها وكرم أخلاقها، تفاعلها مع الأخر، تواضعها الذي يأسرك ويقودك دون ان تقرر الأحجام او الأقدام.
كم سننتظر لننجب مثل الطيب صالح، وكم هي خسارتنا بهذا المبدع الذي ذوى في ضباب لندن، وكم هم الذين حملوا الوطن في قلوبهم واستركنوا البلاد البعيدة، قد لا يتطاولوا لهذه القمة العبقرية، ولكنهم اشخاصها وأبطالها وبرحيل مبدعهم يقدرون ويستشعرون حجم الفاجعة والخسارة بموت الطيب صالح، هذه الشخصيات التي تعيش في المنفى ، والتي تقبع في الأرض الغبسة التي لا تتحمل بذور طيبة، مازالت تحلم بعرس الذين، ودومة ود حامد ومريود وضو البيت، ومازال سعيد كمال في موسم هجرته للشمال شاغل النقاد والباحثين.
خاص – صفحات سورية –